الفجوة المائيَّة في العلاقات الدّوليّة

هل ستلعب الأيدي الخفية في الأسوق لعبتها في حال فشل المقاربات السياسة، لتنتقل المقاربة إلى الاقتصاد، ولتصبح القضايا المائية سلعاً خاضعة لمنطق الأسواق التجارية.

  • استمرار منطق تغييب البعد السياسي للإشكاليات المائية غير مبرر
    استمرار منطق تغييب البعد السياسي للإشكاليات المائية غير مبرر

باتت الفجوة المائيّة واحدة من أهمّ الجدليات المطروحة في العلاقات الدولية، إلى درجة الاعتقاد أنَّ الحروب القادمة ستكون في الدرجة الأولى حروباً وتنافساً على مصادر المياه، إذ إنَّ ندرتها تشكّل تهديداً خطيراً للأمن الإنساني([1])، وهناك حالياً أكثر من 80 دولة، يوجد فيها 40% من سكّان العالم، تعاني نقصاً شديداً في المياه([2]). ويعيش ما يقدّر بنحو 3.6 مليار شخص (أي حوالى نصف سكان العالم) في مناطق يحتمل أن تكون نادرة المياه([3])، ويمكن أن يزيد هذا العدد إلى ما يتراوح بين 4.8 مليارات و5.7 مليارات بحلول العام 2050([4]). 

وفي هذا الإطار، تمَّ تبني أهداف تنمية الألفية التي شملت تعهّداً بخفض عدد البشر الَّذين لا يستطيعون الحصول على ماء مأمون وميسور الكلفة إلى النصف في العام 2015. ورغم ذلك، ما يزال أكثر من مليار شخص في نهاية "عقد المياه" لا يمكنهم الحصول على ذلك الماء، إذ يبدو أنَّ هناك فجوة جديدة يمكن تسميتها بالفجوة المائية، وهي تزداد اتساعاً([5]).

انطلاقاً من ذلك، ونظراً إلى توقع المخاطر العالمية المستقبلية من حيث القدرة على التأثير، تم تصنيف أزمات المياه باعتبارها الخطر الأكبر الذي سوف يواجهه العالم في المستقبل القريب([6]). ومستقبلاً، سوف تطرح عدة إشكاليات في العلاقات الدولية حول ما ينبغي تحقيقه على صعيد كيفية مقاربة الفجوة المائية، وهي على شاكلة: 

-       هل هناك رؤى سياسيّة ودبلوماسيّة خلاقة على مستوى العلاقات الدولية بإمكانها مقاربة الفجوة المائية مقاربة علمية قابلة للتّطبيق والحوكمة والمساءلة؟ 

-       هل ستلعب الأيدي الخفية في الأسوق لعبتها في حال فشل المقاربات السياسة، لتنتقل المقاربة إلى الاقتصاد، ولتصبح القضايا المائية سلعاً خاضعة لمنطق الأسواق التجارية أو أنَّ أسواق المعرفة سوف تقف حاجزاً أمام ذلك؟ 

بناءً على تلك الإشكاليات، منهجياً، يجب التركيز أولاً على معضلة كيفية فهم تعقيدات المنظومة المائية، إذ يتضح أنَّ الفجوة المائية عبارة عن منظومة معقّدة يجب فهمها جيداً، من أجل إيجاد مقاربة منطقية وحلول مستدامة. وعندما يتم التفكير في أزمة ندرة المياه، من الضروري ألا ينحصر التركيز بالنقص المطلق في إجمالي الحاجات والإمدادات المتوافرة، وإنما ينبغي التركيز كذلك على:

-       وجود الماء النظيف القابل للاستعمال وتكاليف جلبه إلى التجمعات السكانية.

-       البصمة المائية أو ما يُسمى المعيار العالمي للبصمة المائية([7]).

-       ضمان ما يكفي من الماء للزراعة ([8]). 

وبالتالي، من أجل فهم أزمة المياه، يجب التمييز بين مشكلتين مختلفتين تتطلبان حلولاً متنوعة؛ الأولى تكمن في كيفية الحصول على مياه الشرب الميسورة الكلفة (أي مشكلة الخدمات)، والأخرى تكمن في كيفية تأمين مصادر مائية للزراعة (أي مشكلة ندرة المياه). وبناءً على تلك المشكلات، يمكن تصنيف التحديات المائية على هذا النحو:

1-    أزمة الوصول إلى المياه([9]). 

2-    أزمة تلوث المياه.  

3-    أزمة ندرة المياه وقلّتها([10]). 

وبناءً عليه، يتعيَّن على المجتمعات العلمية والسياسية إدراك الأسباب العالمية والمحلية لأزمات المياه والاستجابة لها بفعالية. ومن خلال النظر إلى آلية العلاقة المتبادلة بين تلك التحديات أو الأزمات، يمكن تحديد الخصائص المميزة للفجوة المائية والعوامل التي يمكن أن تساعد على حلها. ونتيجة لذلك، لا بدَّ من محاولة فهم الدّوافع السياسية وعملية صنع القرار المائي على الصعيد المحلي أو العالمي، والتركيز على مجموعة واسعة من الخيارات التي لها علاقة بفهم تغيرات بنية أزمة المياه العالمية والتنبؤ بها، وهو ما يستوجب مزيجاً من:

1-       التحول نحو تبني وجهة نظر أكثر شمولية لإدارة المياه ونقلها إلى استعمالات أعلى قيمة.

2-       حلول تقنية مؤتلفة من النانوتكنولوجي والقرائن الرصينة حول إدارة خطر المناخ([11]). 

وعلى الرغم من أنَّ كثيراً من الحلول البديلة معروفة، فإن تطبيقها ليس سهلاً إذا ما أخذت بعين الاعتبار التكاليف السياسية والاقتصادية. ورغم ذلك، يمكن القول إن بالإمكان تحويل التشاؤم المائي الحالي إلى تفاؤل مستقبلي إذا ما تمت بلورة استراتيجة سياسية، ولكن، للأسف، رغم أن التداعيات العميقة للفجوة المائية باتت واضحة للعيان - إلى حد ما -  فإنه نادراً ما يتم التفكير في كونها تحدياً سياسياً، ولا توجد حالياً رؤية على مستوى كيفية إيجاد مقاربة سياسية لتلك الفجوة. 

ومن الجدير ذكره هنا، أنهُ كان هناك سابقاً (عند بدء عمل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ IPCC) إدراك أولي للأبعاد السياسية والاجتماعية لأهمية القضايا المائية، يوازي الإدراك الذي كان موجوداً لأبعاد مشكلة التغير المناخي([12])، ولكن إذا كانت مجموعة المناخ (IPCC) قد احتاجت ما يقارب 30 عاماً من العمل قبل أن يأخذ العالم أزمة المناخ على نحو جاد، فما هو الحال بالنسبة إلى المسألة المائية([13])؟ 

ومن الجانب الاستراتيجي السياسي، يمكننا الاكتفاء بمراجعة التقرير الأمني لوكالة الاستخبارات الأميركية حول التوقعات المستقبلية للاتجاهات العالمية في العام 2030، والذي يشير إلى أن حقيقة الأزمة المائية سوف تؤدي إلى تغيرات جيوسياسية في غاية الأهمية، ناهيك بعدم استبعاد حدوث صراعات ونزاعات مائية بين الدول([14]). وبالتالي، إنَّ نفي التحذيرات التي تطلق بشأن اندلاع حروب مائية أو اعتبارها مجرد ادعاءات زائفة أمرٌ يُثير الكثير من علامات الاستفهام، إذ باتت هناك تداعيات استراتيجية خطيرة للمنافسة على المياه العذبة، كما أنَّ حروب المياه موجودة بالفعل، على الرغم من عدم الاعتراف بذلك بشكل مباشر([15]). 

وفي هذا الإطار، إن استمرار منطق تغييب البعد السياسي للإشكاليات المائية غير مبرر، وخصوصاً على صعيد المنظمات الدولية([16])، إذ لا بدَّ من الاعتراف بأنَّ التغيرات العالمية المرتبطة بالفجوة المائية تبين، وبكل وضوح، أن مستوى الأمن في العلاقات الدولية تغير بشكل عميق. 

في المحصّلة، يبدو أنَّ وطأة تأثير التغير المناخي على مستوى العلاقات الدولية ستجعل الفجوة المائية قضية سياسية معقدة للغاية، وهو ما يتطلب وعياً واسع النطاق، والتسليم بأنّ تغيّر المناخ حقيقيّ وباقٍ. عندئذ، على الأرجح، قد يتم إدراك أنه إذا كان خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري يدور كله حول إشكاليات الطاقة، إلا أن التكيف مع تغير المناخ سيكون حتماً مرتكزاً ومتمحوراً حول إشكاليات الفجوة المائية. 

مصادر


 
([1]) يبلغ حجم المياه العذبة 35 مليون/كم3، أي ما معدله 2.5% من حجم المياه الكلي الذي يبلغ حوالى 1.4 مليار/ كم3، ومعظمها مياه مالحة موجودة في البحار والمحيطات. لمتابعة الإحصائيات والمعطيات المائية الحديثة، يمكن مراجعة موقع مجلس المياه العالمي: http://www.worldwatercouncil.org/، ومنتدى المياه العالمي: http://www.worldwaterforum7.org.
([2])  بات التقنين المائي في العديد من الدول القاعدة العامة وليس الاستثناء، وذلك نتيجة عدم إمكانية توفير مياه الشرب على أساس مستدام. مثلاً، تواجه الكثير من المدن الهندية نقصاً حاداً في المياه التي لا تصل إلى المنازل سوى عدة ساعات في الأسبوع. حول الواقع المائي في الهند، يمكن مراجعة موقع البنك الدولي المختص في الشؤون الهندية: http://www.worldbank.org/en/country/india.
([3]) على الأقل لمدة شهر واحد في السنة.
([4]) تقرير "الحلول المرتكزة على البيئة لدعم الموارد المائية"، تقرير الأمم المتحدة بشأن المياه في العالم، نيويورك، 2018.
([5]) للاطلاع على أهداف التنمية الألفية، يمكن مراجعة: https://www.un.org/ar/millenniumgoal.
([6]) أما المخاطر الأخرى من حيث التأثير،  فهي: 1- الانتشار السريع والواسع للأمراض المعدية. 2- أسلحة الدمار الشامل. 3- الصراعات بين الدول. 4- عدم التكيف مع التغيرات المناخية، وذلك انطلاقاً من رؤية ما يقارب 900 خبير شاركوا في استبيان المنتدى الاقتصادي العالمي للعام 2015 حول أبرز المخاطر العالمية المستقبلية، من حيث احتمال حدوثها وقدرتها على التأثير على مدار السنوات العشر القادمة. التقرير موجود في هذا الرابط: http://wef.ch/grr2015.
([7]) البصمة المائية: إجمالي حجم المياه العذبة التي يتم استخدامها لإنتاج السلع والخدمات المستهلكة من قبل الفرد أو المجتمع، أو تلك التي تنتجها الشركات. يمكن للبصمة المائية المساعدة على دفع العمل الاستراتيجي نحو استخدام مستدام وفعال ومنصف للمياه، إذ توفر رؤى قوية للشركات لفهم مخاطر الأعمال المتعلقة بالمياه، وللحكومات لفهم دور المياه في اقتصادها واعتمادها على المياه، وللمستهلكين لمعرفة كمية المياه المخفية في المنتجات التي يستخدمونها. انظر: https://waterfootprint.org/en/
([8]) إنّ ندرة المياه لا تعني عدم وجود ما يكفي من المياه للشرب فقط، وإنما كذلك ما لا يكفي للزراعة. 
([9]) هناك أكثر من مليار شخص لا يستطيعون الوصول إلى مياه شرب نظيفة. ونتيجة لذلك، كان من أهداف الألفية للأمم المتحدة خفض نسبة الذين لا يستطيعون الوصول بشكل مستدام إلى مياه شرب نظيفة إلى النصف، ولكنّ المجتمع الدولي لم يتقدم كثيراً في تحقيقها حتى الآن، ما يطرح التساؤل حول الأسباب الكامنة وراء صعوبة ذلك.
([10]) يمكن اعتبار ندرة المياه المكون الأساسي لأزمة المياه الثلاثية، لأنها يمكن أن تتسبب بحدوث أزمتي عدم الوصول إلى المياه وتلوثها أو على الأقل تفاقمهما.
([11]) يبدو التطوّر العلمي الحاصل في علوم المياه والنانو تكنولوجي واعداً، وخصوصاً على مستوى إشكالية ندرة المياه، إذ تَعد بخفض تكاليف تحلية مياه البحر والتنقية المتخصصة لمياه الصرف الصحي.
([12]) تأسَّست الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (‎(IPCC في العام ‎1988‏ لتقديم تقديرات شاملة لحالة الفهم العلمي والفني والاجتماعي والاقتصادي لتغير المناخ وأسبابه وتأثيراته المحتملة واستراتيجيات التصدي لهذا التغير. يمكن مراجعة: https://www.ipcc.ch.
([13])  على سبيل المثال، إن احتمال أن تنفد المياه الجوفية في شمال الهند خلال عقود قادمة، وما ينتج من ذلك من انهيار الزراعة، لا ينظر إليه باعتباره مشكلة عالمية. كذلك الأمر بالنسبة إلى النهر الأصفر الذي لم يعد يصل إلى البحر. كما لا ينظر إلى السير يومياً ثلاث ساعات من أجل الوصول إلى ماء شرب نظيف في المناطق الريفية في أفريقيا باعتبارها مشكلة عالمية.
[14]))  Report,"Global Trends 2030: Alternative Worlds",Office of the Director of National Intelligence,National Intelligence Council,U.S.A,2012,p.2. 
[15]))  منها على سبيل المثال: 1- مسألة كشمير المستعصية لها حسابات مائية استراتيجية من قبل كل من الهند وباكستان. 2- الصراع العربي الإسرائيلي هو في جانب مهم منه صراع على الموارد المائية. 3- أزمة دارفور السودانية في جوهرها صراع حول المياه. 4- التوتر التاريخي في العلاقة بين كل من تركيا والعراق وسوريا يرتبط بتوزيع الحصص المائية لنهري دجلة والفرات. 5- الوضع المائي المتوتر بين مصر والسودان وأوغندا وإثيوبيا حول مياه نهر النيل. 6- الحرب السورية ببعدها الاجتماعي والاقتصادي ترتبط ارتباطاً شديداً بشح المياه وزيادة الجفاف. 7-حروب الإرهاب باتت تصبغ بلون مائي (يكفي هنا مجرد التفكير في محاولة "داعش" تفجير سدود المياه في سوريا والعراق). 
[16]))  فعلى الرغم من النقلة النوعية الإيجابية لتقارير الأمم النتحدة في الإضاءة على الفجوة المائية، ولكن يتم التجاهل( بشكل شبه كامل) الشق المتعلق بكيفية مواجهة الأبعاد السياسية للأزمات المائية.