"كوفيد - 19" وإشكالية العلاقة بين الاقتصاد العالمي وسوق العمل

إذا كانت حرية التجارة وحركة رأس المال هي التي تؤمن النمو والرفاهية، وإذا تم التمكن من تحقيق أهداف منظمة التجارة العالمية، بد من التساؤل: هل ستؤدي هذه السياسات والأهداف إلى تعميق أزمة سوق العمل أو أنها ستكون نقطة تغيير وتحول إيجابي؟

  • "كوفيد - 19" وإشكالية العلاقة بين الاقتصاد العالمي وسوق العمل (غتي)

وفقاً لتقارير منظمة العمل الدولية، تسبّب وباء "كوفيد - 19" في أضرار بالغة في قطاع العمل، إذ تم تسجيل خسارة ما يزيد على 250 مليون وظيفة، ناهيك بتأثير الجائحة السلبي على صعيد إبطاء مؤشر ارتفاع الأجور في جميع أنحاء العالم أو تراجعه، ما أثّر في أصحاب الأجور المنخفضة، إضافة إلى تفاقم عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء وازدياد معدل الفقر[1]. وبالتالي، يجب الاعتراف بحقيقة أن التطورات الاقتصادية الراهنة وسيرورة نمو التجارة الحرة ما زالت تنمو بعيداً من سوق العمل، وتترك تأثيراً سلبياً على مستوى المساواة والعدالة الاجتماعية. 

وفي هذا السياق، لا بد من ملاحظة أن الإشكالية الأساسية في عالمنا المعاصر على مستوى العلاقة بين التنمية المستدامة والنمو الاقتصادي هي إشكالية الفجوة بين الأغنياء والفقراء. لذلك، يجب التساؤل هنا: هل نعيش في عصر الاقتصاد من أجل الاقتصاد، وليس من أجل المجتمع؟

تبقى الحقائق المبنية على المصلحة العامة هي المعيار الأساسي لتقييم السياسة الاقتصادية الناجحة. وعليه، بعيداً من التنظير، ووفقاً للإحصائيات والبيانات الخاصة بالفجوة الاقتصادية، وإذا أخذنا في الاعتبار أن النسبة الأكبر من المواطنين تعود إلى عمال أو موظفين يعملون بأجر، يمكننا القول إن الاقتصاد لم يعد يعمل لمصلحة المجتمعات، إذ بات من الواضح أن الفجوة بين رواد الأعمال وأصحاب الثروات من ناحية، ورواتب العمال من ناحية أخرى، ستزيد الشكوك في سلامة المجتمع.

لذلك، إذا كانت حرية التجارة وحركة رأس المال هي التي تؤمن النمو والرفاهية، وإذا تم التمكن من تحقيق أهداف منظمة التجارة العالمية (القائمة على المنافسة وإلغاء القيود الكمية وتوحيد جميع الرسوم وجعل العالم منطقة تجارة حرة)، لا بد من التساؤل: هل ستؤدي هذه السياسات والأهداف إلى تعميق أزمة سوق العمل أو أنها ستكون نقطة تغيير وتحول إيجابي؟

لقد بات من المنطقي القول إن هذه الأهداف زادت في الدرجة الأولى حدة المنافسة بين الدول (الصناعية أو النامية)، وأدت إلى نتائج كارثية على مستوى ارتفاع معدلات تراجع الأجور وتآكل قيمتها الشرائية، ذلك أن كل الجهود التي يبذلها السياسيون والاقتصاديون للعثور على بدائل لفرص العمل الضائعة في كل القطاعات لم تحقق النتائج المرجوة، فكلما ازدادت وتيرة النمو التجاري (في البضائع والخدمات) بكل حرية، ازدادت المصاعب على مستوى سوق العمل، إذ إن هناك تقليصاً وترشيداً يؤديان إلى فقدان العمل البشري قيمته. وفي هذا السياق، لا بد من ملاحظة عدم وجود عولمة حقيقية في ما يتعلق بسوق العمل. 

وانطلاقاً من ذلك، لم تؤدِ الكثير من السياسات المتبعة إلى زيادة رفاهية المجتمعات، بل فاقمت وتيرة جمود الوضع الاجتماعي والفجوة بين الأغنياء والفقراء. على سبيل المثال، ينعكس الانخفاض في الأجور على أسعار السلع إيجابياً في الدرجة الأولى، وبشكل مباشر على المستهلك الغني أو العالي الدخل، والذي لم يفقد شيئاً من دخله نتيجة خفض تكلفة الإنتاج. في المقابل، إن الطبقات الوسطى والدنيا هي التي تفقد جزءاً كبيراً من دخلها، وبالتالي تتأثر سلباً أكثر. بناءً على ذلك، ووفقاً لتداعيات جائحة "كوفيد- 19" الاقتصادية، لا يمكن حالياً تجنب البحث في معضلة: من يتحمل الأعباء الاقتصادية أكثر؟ رأس المال أم العمال؟

بناءً على بديهيات السياسات الاقتصادية الحالية، يتضح أن الحكومات تزيد من الأعباء الضريبية على قطاع العمل، كما أن الإعفاءات والتسهيلات الضريبية التي تقدمها الحكومات للشركات غير الوطنية تؤدي إلى انخفاض إيرادات الدولة المالية التي سوف تعوضها عن طريق زيادة الضرائب على الطبقات الاجتماعية الأخرى، أو عن طريق تقليص الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية. وبالتالي يتضح أنه إذا كانت المعادلة الاقتصادية والمالية السابقة تعكس بشكل أكبر الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء، والتي تركز على مبدأ أن الأغنياء يزدادون ثراء والفقراء يزدادون فقراً، ولكن الآن في ظل الحقائق والتطورات الجديدة، لم تعد هذه المعادلة كافية لتوضيح التغيرات، فهناك صيغة أو معادلة جديدة ترتكز على مبدأ: الأغنياء يزدادون ثراء، والفقراء يزدادون فقراً بوتيرة أسرع.

ليس من المستغرب على الإطلاق معرفة أن هناك سرعة عالية في توفير الأموال من أجل إيجاد حل لأي أزمة مالية أو اقتصادية عالمية، مقارنة بحقيقة أن هناك حذراً شديداً (وبخلاً) عندما يتعلق الأمر بالتمويل الإنساني والبرامج المتعلقة بانتشال المجتمعات الأقل حظاً (المحرومة والمهمشة) من الفقر والعوز. 

على سبيل المثال، ثمة حاجة إلى عشرات المليارات سنوياً فحسب للقضاء على الجوع وسوء التغذية في العالم بأسر. وقد أقرت الأمم المتحدة عدة برامج مختلفة لتحقيق هذا الهدف، لكن هذه البرامج ما تزال على الورق فحسب، بسبب عدم توفر الأموال اللازمة، إذ يجب أن ترتكز جميع الحلول الاقتصادية والسياسية المرتبطة بتحديات بجائحة "كوفيد-19" في الدرجة القصوى على إمكانية حماية ودعم كل السياسات المتعلقة بصون مصالح طبقة العمال والفقراء، ولا بد من أن تكون القضية المركزية قائمة على الانتقاد المنطقي المتمثل بالوجود الفعلي والارتجاعي للفقر واللامساواة. هذه الحقائق المأساوية، وبعيداً عن الأبعاد الإيديولوجية في دراسة الاقتصاد العالمي وتقييمه، تضعنا أمام التساؤل الاستراتيجي التالي: هل تكمن المشكلة في الأولويات والخيارات الاستراتيجية للدول أو في الإمكانيات الفعلية المتاحة للدول؟

خلاصة القول، إن إمكانية تحقيق نهضة فعلية تخفف من وطأة الفقر والعجز المادي تعتمد على نوع الفكر الاقتصادي الواجب اتباعه، فنحن بحاجة إلى رؤى جديدة تستجيب لاحتياجات المجتمعات وقدراتها. وبالتالي، يستوجب ذلك توجيه النقد الفكري إلى كيفية التفاعل والتعامل مع الليبرالية الاقتصادية الحديثة، ذلك أنه لم يعد من المنطقي والمقبول التعامل مع هذا الواقع على أسس إيديولوجية فقط (سواء كانت مع أو ضد)، من دون وجود برامج ومشاريع اقتصادية عملية، وبات من الضروري مواجهة جدلية أو إشكالية: لماذا يوجد الكثير من الأفكار حول كيفية توزيع الدخل، وليس حول كيفية توليد الدخل؟


 
[1]     See,"Covid-19" and the world of work:Updated estimates and analysis", Seventh edition, International Labour Organization Monitor(ILO), Geneva, January 2021. Look: https://www. ilo.org/wcmsp5/groups/public/@dgreports/@dcomm/documents/briefingnote/wcms_767028.pdf Accessed on 04-25-2021.