إبتلاع بيزنطة

تركيا الآن ليست بيزنطة كما كانت عثمانيا التي لم تستطع أن تكون بيزنطة بالمعنى الحضاري، فهي على الرغم من سيطرتها على المُستعمرات أربعمئة سنه لم يمكنها أن ترتقي بها بمقدار واحد بالمئة مما صنعه محمّد علي، ولعل تركة عبد الرحمن الكواكبي الفكرية توضِح تماماً الحضيض الذي كانت فيه عثمانيا بالنسبة إلى عصرها، وهذا ما سيتوفر أضعافاً في حال توهّمت تركيا أنها بيزنطة خصوصاً مع فقدانها لعمقها الأوروبي المتوسّطي.

يبدو أن العدالة والتنمية يُريد تزويج الزيت والنار
كثُرت هذه الأيام الأحاديث والتحليلات والتصريحات حول تركيا خصوصاً مع الحدث السوري الفاجِع، وأيضاً بسبب الإضاءة على عثمانيّتها المُفاجئة، في حديث مُتطاول ومُتشعّب عن البيئة الجيوسياسية التي يؤسّس لوجود أصيل لتركيا وعثمانيا في آسيا الصُغرى،وكأن تركيا كانت موجودة منذ الأزل بدلالة عثمانيّتها، على الرغم من أن عمرها كتركيا لا يتجاوز المئة عام وعمرها كعثمانيا  لا يتجاوز اكتشاف أميركا ولكن التأصيل (والتهجين للضرورات فقط) في البنية الثقافية "العروبية" خصلة ضرورية، لاختراع سرد تاريخوي مؤدلَج في تناسٍ حقيقي للضرورات المعرفية، بحيث يصبح ما وطأته سنابك "خيلنا " هو بدء للحياة والتاريخ والمعرفة.

بدايةً وكحقيقة جيوسياسية واستراتيجية تاريخياً، لا بدّ من الإشارة الى أن المناطق التي تقع شرق المتوسّط وحتى جبال زاغروس في الشرق ومن سلسلة جبال طوروس وحتى قوس الصحراء جنوباً،هي منطقة نزاع بين بيزنطة وفارس،والتاريخ يشهد على الحوادث والمعارك والتمدّد والتقلّص اللذين تعرّضت لهما الأمبرطوريتان المذكورتان،ولسنا هنا بوارد الكلام عن "الفتح " "العربي" ومُشتقاته ونتائجه التي لا يُمكن مُقارنتها مع واقع مُفترَض او مُتوهّم. في كل الأحوال تقدّمت جحافل العثمانيين إلى القسطنطينية وأخذتها فتحاً، ما اعتبره التفكيريون "العرب"عبارة عن استكمال الفتوحات العربية، بغضّ النظر عن كل شيء تقريباً، فبيزنطة "العدوّة" جاءها مَن يأخذها أخذ العزيز المُقتدر مُستأنفاً خلافة تتجاوز في مفهومها المُمارَس كل أمر تأصيلي، فالفتح والخلافة أمران  يستغرقان الجيوستراتيجيا،ولكن الواقع ما كان يمكنه إغفالها فما لبثت عثمانيا أن انداحت في الجغرافيا البيزنطية كما انداحت إيران في الجغرافيا الفارسية،في استعادة للصِراع البيزنطي الفارسي ولكن كصِراع مذهبي، هذا الصِراع هو ما تعوّل عليه وعلى إحيائه عثمانيا الحالية،وهذا ما يُشير إلى عدم قفز المنطقة برمّتها إلى عصر الأنوار وبالتالي المجتمعات المولّدة للدول.

لقد تقدّمت عثمانيا غرباً وجنوباً حتى حدود بيزنطة التقليدية، وهذا ما شكّل لها واقعاً جيوستراتيجياً مقبولاً وقادراً على الصمود في وجه الأعداء شرقاً وغرباً،حيث شكّلت ولايات الشام جوهرة التاج العثماني خصوصاً حلب والموصل التي تقع على طريق الحرير ودمشق التي تقع على طريق الحجّ، لتواجه الخلافة العثمانية مُعضلة الانتقال إلى عصر الأنوار ممثّلة بيزنطة الراسِخة في بُنيتها الجيوستراتيجية، فالعمق الاستراتيجي المؤثّر في بيزنطة وعثمانيا يقع في الغرب وفقدانه عن طريق نهضة معرفية أو نهضة عسكرية سيحوّل عثمانياً إلى رجل مريض وهذا ما حصل في استعادة عرب الصحراء الرملية لمُبادرة الفتح واستعادة سوريا ( بلاد الشام وبلاد العراق) من بيزنطة المسلمة هذه المرّة، مؤسسين بمساعدة لورانس الذي أخترع العروبة لأول مرة  بناء على فكرة القومية كقَبَس من شمس عصر الأنوار، ولكنه كان بعيداً جداً عن تفكير كمال أتاتورك الذي أراد تصنيع مجتمع أمّة/دولة، تستطيع البقاء والاستمرار من دون الحلم الأمبرطوري الذي لا يمكن الحلم به إلا على طريقة بيزنطة،لأن عمقه الاستراتيجي في البحر المتوسّط وأوروبا، مُكتفية باحتلال مناطق تجعلها مُتحكّمة عسكرياً بالعُمق السوري (بلاد الشام وبلاد العراق) مثل كيليكيا وإسكندرون وما يُسمّى قبرص التركية الآن.

اليوم يبدو العدالة والتنمية يُريد تزويج الزيت والنار، مبتدئاً بالانفصال عن جماعة غولن، كي يُعانق الحلم العثماني تركيا الكمالية، ولكن الأمر لا يمكن تحقيقه من دون العمق الأوروبي الذي فقدته عثمانيا، إنه الجزء الأوروبي من بيزنطة،أو القسم الشرقي من الأمبرطورية الرومانية، التي لم تؤسّس على حنين ديني، ولم تأتِ من فراغ، واستمرّت زمنياً أكثر من أية أمبرطورية أُسّست بعدها أو على أنقاضها، فإذا كان الحلم الاستعماري يقوم على فرض السيطرة بالقوة،ولكن بقاء هذه السيطرة مرتبط باستراتيجية هذه القوة واستقرار عوامل وجودها.

تركيا الآن ليست بيزنطة كما كانت عثمانيا التي لم تستطع أن تكون بيزنطة بالمعنى الحضاري، فهي على الرغم من سيطرتها على المُستعمرات أربعمئة سنه لم يمكنها أن ترتقي بها بمقدار واحد بالمئة مما صنعه محمّد على،ولعل تركة عبد الرحمن الكواكبي الفكرية توضِح تماماً الحضيض الذي كانت فيه عثمانيا بالنسبة إلى عصرها، وهذا ما سيتوفر أضعافاً في حال توهّمت تركيا أنها بيزنطة خصوصاً مع فقدانها لعمقها الأوروبي المتوسّطي.

لقد تم ابتلاع بيزنطة، بسبب خطأ ترتكبه دائماً القبائل الرُّحل التي تغزو و"تفتح" مناطق مُتحضّرة بالنسبة إليها، إذ تعتبر أن التاريخ يبدأ بها، وكل ما قبلها هو عبارة عن حثالة مؤثمة، وبمقدرتها هذه على تقسيم التاريخ وإعدام جزء منه، فإنها تعدم معرفة غير قليلة تؤثّر في رؤيتها وخططها المُستقبلية، تركيا الأمّة / الدولة هي في شمال جبال طوروس الحاجز الطبيعي الذي يحميها، ولا يمكن  فهم تأثير الهجمات الكردية عليها إلا من هذا الباب، أما تركيا العثمانية فهي مضطرة أن تكون بيزنطة بمعنييها العسكري والثقافي، وإلا سوف تبذر تركيا بما تنتجه على حملات  هجينة، فلا هي قبائل قادمة من أواسط آسيا بحيوية عسكرية تجتاح البلدان التي تصل إليها ( على الطريقة الخلدونية )،ولا هي بيزنطة بعمقها الجيوستراتيجي الأوروبي.

هناك تركيا، وليس هناك من عثمانيا والحلم بها أشبه بمَن يتفرّج على الآثار الرومانية الوثنية على أساس أنها صُنِعت لتكريم محمّد الفاتح.