الاستفتاء الرئاسي والانقسام العمودي في الشارع التركي

في تحدٍ واضحٍ للعلمانيين وفريق " لا " للتغيير الدستوري ، قام أردوغان بزيارة أضرحة كل من رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس، والرئيس الثامن لتركيا تورغوت أوزال، ورئيس الوزراء نجم الدين أربكان، عقب إعلان نتائج الاستفتاء ، متجاهلاً ضريح مؤسّس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك ، ما يؤكّد أن الرجل حدّد وجهته وانتهى الأمر من دون أيّ اكترث لانقسام الشارع التركي.

تعيش تركيا اليوم حالة من الانقسام العمودي بين تيّارين
هل يمكن القول : إن الاستفتاء الرئاسي الذي جرى في تركيا أدّى إلى انقسام واضح في الشارع التركي ؟ وهل يمكن الانطلاق في هذا التحليل من أن اسطنبول التي كان يُراهن عليها أردوغان ويردّد أن مَن يربح في اسطنبول يربح في تركيا كلها ؟ ومَن يخسر بها يخسر في تركيا كلها ؟.

نعم ، كانت اسطنبول على رأس المُدن التي صوّتت بـ «لا» وتلتها العاصمة أنقرة ثم إزمير ، فهل يمكن اعتبار ذلك انقلاباً على نهج حزب «العدالة والتنمية» ؟

تعيش تركيا اليوم حالة من الانقسام العمودي بين تيّارين : إسلامي عثماني طوراني،  يقوده الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان ومن خلفه رئيس الحركة القومية دولت بهشلي ، وعلماني أتاتوركي يقوده حزب الشعب الجمهوري وكل من يرفض سياسة حزب العدالة والتنمية وسياسة أردوغان .

الرافضون للاستفتاء يرون أن عملية التصويت ليست سليمة ، وأن الفارق في النتائج كان بسيطاً بسبب الأظراف غير المختومة ، والتي يصل عددها إلى مليونين ونصف المليون ، بنسبة تصل إلى / 4 / % ، ما يعني أن النتيجة كانت ستكون حتماً لصالح رافضي الاستفتاء .

الانقسام العمودي في الشارع التركي أيضاً يبدو واضحاً في تركيا أكثر من أيّ وقت مضى ، وخصوصاً في اسطنبول ، إذ خرج آلاف المتظاهرين رافعين شعارات تقول : "جنباً إلى جنب ضدّ الفاشية" و "الـ"لا" لم تنته" و"الـ"لا" ستفوز" .

الرفض القاطع لنتائج الانتخابات كان قد أعلن عنه رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيليتشدار أوغلو  بتغريدة على حسابه على تويتر قال فيها : " لا ولن نعترف بنتائج الاستفتاء " مشدّداً على أنه لا بدّ من الإعادة .

أردوغان لم يُعر اهتماماً لحجم النتيجة المُخيبة للآمال بالنسبة له ، حيث كان يطمح لـلوصول إلى 60 % من الأصوات ، ولم يُعر اهتماماً للاتّهامات بالتزوير ، كما أنه ردّ على منظمة الأمن والتعاون الأوروبية بقوله : " فلتذهبوا إلى الجحيم " لا بل عمد إلى تمديد حالة الطوارئ والإعلان أنه سيجري استفتاءً لتطبيق عقوبة الإعدام ، وهي خطوة من شأنها على الأرجح أن تقضي على أيّ أمل في انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي .

وفي تحدٍ واضحٍ للعلمانيين وفريق " لا " للتغيير الدستوري ، قام أردوغان بزيارة أضرحة كل من رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس، والرئيس الثامن لتركيا تورغوت أوزال، ورئيس الوزراء نجم الدين أربكان، عقب إعلان نتائج الاستفتاء ، متجاهلاً ضريح مؤسّس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك ، ما يؤكّد أن الرجل حدّد وجهته وانتهى الأمر من دون أيّ اكترث لانقسام الشارع التركي .

وهنا .. لا بدّ من التوقّف عند الموقف الأوروبي ، حيث نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تصريحاً لرئيس وزراء النمسا كريستيان كيرن يقول فيه : "حلم تركيا في الانضمام للاتحاد الأوروبي دُفن تحت التراب".

أردوغان .. لا يمكن أن يُسلّم بالخسارة ، والكل يتذكّر خسارة حزبه لانتخابات السابع من حزيران عام 2015 حيث أعلن قسم كبير من الشعب التركي رفضه لسياسات ( حزب العدالة والتنمية ) ، ولم يحصل الحزب في حينها إلا على 258 صوتاً من أصل 550 في مقابل 297 صوتا للمعارضة ، لتتوزّع أصوات المعارضة  بين حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة ، وحزبي الحركة القومية ، وحزب الشعوب الديمقراطي ، وهو ما وُصِف في حينه بـ ( الزلزال السياسي ) أو ( الانقلاب الكبير ) ضدّ حزب العدالة والتنمية وزعيمه الفعلي رجب طيّب أردوغان .

أردوغان .. لم يرضَ بتلك الانتخابات ، وعمل على إعادتها والفوز بها  ليصل عدد المقاعد التي حصل عليها / 317 / مقعداً ، مع تراجع لكل من حزبي الحركة القومية والشعوب الديمقراطي ، ولم يكتفِ بذلك بل لاحق صلاح الدين ديمرطاش وفيغان يوكساغ رئيسي الحزب، ووضعهما في السجن بحجّة دعمهما للإرهاب، وشنَّ حرباً ضروساً على حزب العمال الكردستاني المصنّف إرهابياً لدى الحكومة التركية .

الهزّة الثانية كانت في الخامس عشر من تموز ، وهذه المرّة ، شهدت تركيا انقلاباً عسكرياً حقيقياً ضدّ الرئيس أردوغان بكل معنى الكلمة ، قُتل فيه أبرياء ، وأُزهقت أرواح ، أردوغان استغل الانقلاب وقام بإغلاق العديد من القنوات التلفزيونية والإذاعية والصحف ، إضافة إلى اعتقال مئات الصحفيين والقُضاة والضبّاط ، وطرد كل من ثبتت عليه تهمة تأييد فتح الله غولن ( رئيس حركة الخدمة ) شريكه السابق ، باعتباره المُتّهم الأول بالانقلاب .

فهل سيؤدّي الانقسام العمودي في الشارع التركي إلى تفكّك حقيقي في بُنية الدولة التركية ؟ كما هو حاصل في جنوب شرق تركيا ، أم أنّه سيبقى كالنار تحت الرماد؟  لكن إلى متى ؟.