دعوات من على ظهر التابوت

في الرابع من أيّار/ مايو المقبل، تكون الجزائر قد حقّقت شوطاً كبيراً ومهماً في التعدّدية الحزبية السياسية (بعد 18 سنة من إقرارها)، وتكون بالتالي في الانتخابات التشريعية المقبلة في عرسها السياسي الكبير. 62 حزباً سياسياً، تنوّعت آراؤها، قومية، إسلامية، ووطنية. الكل في إطار ما أتاحه لها الدستور وثوابت الأمّة إلا البعض منها مما أقام نهجه السياسي على الجهوية وحتى العرقية، والرفض للرأي الآخر أو بالأحرى التبعية لفكر الآخر في الضفة الأخرى من المتوسّط. هذا النوع الأخير من الأحزاب تلاشت صورته وأصواته بسبب الرفض المُطلق شعبياً لآرائه المخالفة لروح المقاومة والتاريخ الجهادي لأمتنا. وسأقف اليوم أمام بعض الأسباب التي أدّت إلى تلاشيه جماهيرياً وفق قراءة متأنّية، ثم آتي على نقد البعض منها ومدى نجاحها أو فشلها في الانتخابات التشريعية المقبلة لاحقاً.

الواقع يلغي كل دعوة لا تقوم على منطق التاريخ وحقائقه ودعوة الاستئصاليين تشبه تعاويذ قارئة الفنجان

إن الواقع يلغي كل دعوة لا تقوم على منطق التاريخ وحقائقه ودعوة الاستئصاليين تشبه تعاويذ قارئة الفنجان. ولعل حظ "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية" من هذه القراءة هو بمثابة اليقين وفق مقادير "لا تقبل الجدل"، ولا التوصيف البشري لمحتوياتها. ومن هنا تبدو دعوة سعيد سعدي أمين عام "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية " لتأسيس ميلشيات بالاستناد إلى بريق الرمال تحت وهج الشمس، إنها دعوة يأس، وربما نهاية البداية لتضاريس المحنة التي تفترض توازن القوة تحت قرع الأجراس.

لا شك وبالتأكيد أن من يعجز عن مواجهة الواقع لأخطاء يدور في فلكها يتحوّل إلى فارس بالادّعاء القاتل، وعندنا الكثير من "أدعياء" السياسة ممن ينطبق عليهم هذا الوصف، ومن دون اللجوء إلى المُبرّرات التاريخية يمكننا وبأمانة تطبيق هذا الوصف على زعيم "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية"، إن كان فعلاً زعيماً والذي حاول أن لا يكون بعيداً عن الدعوات الارتدادية ويتحمّل الكثير من التوصيف المأساوي للأزمة السابقة. ومن المضارّ التي عانى منها تلاميذ المدارس في بعض مناطق ولايتَيْ "بجّاية وتيزي وزو"، اعتباره أحد المنظّرين للأنغام التاريخية من فوق شواهد القبور .

وليس بعيداً عن الظروف التي صنعته كمنظر حقيقي لسياسة الإقصاء، بل إنه يذهب بعيداً نحو سياسة المواجهة الداخلية، ويظن أن ذلك يفيد في سياسته المفتوحة على الهروب إلى الوراء، وهو الهروب الذي يتصوّر فيه كل إمكانيات النجاح لمدرسة الاستئصاليين للفكر القائم على المزج بين الصراخ وبين الدوغماتية، وبين الفرنَسة واللهجات الاحتفالية

إنه ومند ظهوره على مسرح الأحداث ( منذ بداية التعدّدية السياسية) وهو يناور تحت مسمّيات عدّة من أجل أن لا تكون هناك نغمة سياسية جديدة خارج الحفر التي ارتأى فيها البداية والنهاية لأزمة الهوية كما يدّعي، أو بالأحرى للأزمة السياسية التي حاك لها خيوط الاشتباك من خلال طحين التجزيئية للتاريخ. وكان في كل مرة يدعو إلى ربط الواقع بتيار غامض ... لقد حاول في البداية أن يضرب خط الرمل للجهوية بدل الفكر العقلاني، وذلك من أجل إيجاد البديل لسياسة الانتخابات بدعوى أنها لا تقوم على موازين مُعيّنة تسرّه وأتباعه، موازين  تعطي لتياره الأفضلية! 

ومن هنا تبنى الحرب على الرأي المخالف له إلى حين القضاء عليه كما يقول، وبالتالي تتكوّن ضمن هذا الوهم من وجهة نظره قوة تسمح لحزبه بالبروز على السطح، بعد أن سكن مساكن الأقلية التي لا تستطيع أن تنهض إلى الأبد .... دعا إلى المقاومة المسلّحة من نظرة جهوية ضيّقة، وهو الذي صفّق للديمقراطية في البداية وأسّس حزباً عرقياً جهوياً تحت هدا المصطلح قبل أن تولد التعدّدية عام 1989، ولكنه حين فشل في الوصول إلى مآربه عبرها انتفض ضدّها، وكوّن لجاناً للمقاومة، ومن باريس أكد على حتمية إنشاء هذه اللجان. ولكن حين فشل في تحقيق هذا المطلب، بعد أن اعتبر مطلبه مطلباً جهنّمياً في وسط القرية التي ولِد فيها، فضلاً عن الأماكن الأخرى، حاول أن يقنع الناس بأن مطلبه هذا لا يعني الدعوة إلى الحرب الأهلية ولكنه يعني تنظيم الناس في كتل سياسية لمواجهة مخالفيه في الطرح السياسي .. وأسّس لهذا الغرض ما يُسمّى بحركة الجمهوريين.

غير أن هذه الحركة وإن حاول إضفاء الطابع الوطني عليها بقيت محصورة في منطقة محدودة وبأطراف يمثلون جميعهم الغليان السياسي القائم على الاختزال الجغرافي، والتاريخي معاً، وقد تحوّلت هذه الحركة فعلاً إلى ما يشبه البديل لحزبه وبالتالي وقع في البركان الجهوي من غير استئذان. سعيد سعدي وصاحبة الدعوة إلى الحرب على الخمار في فرنسا المُسمّاة "خليدة مسعودي" والتي قابلت"باسكوا "( وزير داخلية فرنسا سابقاً) وهي تبكي من أجل ذلك، وجدت في نهاية المطاف نفسهما خارج اللعبة السياسية لحزبها. 

هو تخلّى حزبه عنه،  وهي دخلت الحكومة كوزيرة للثقافة، لتدفن رؤيتها الاستئصالية في مدخل الوزارة إلى الأبد، وهذه من إحدى حِكَم الرئيس بوتفليقة السياسية.

إن مأساة حزب "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية " على قلّة أتباعه، صار يمثل جدار الموت ضدّ ذاته فعلاً، خاصة بعد أن انضمّ الزعيم التاريخي حسين أيت أحمد إلى صفوف المصالحين وأمضى معهم "عقد روما". صحيح أنّ سعدي كان في لحظة ما يعتقد أن بإمكانه خلط الأوراق، والقفز على حقائق التاريخ وحقائق الجغرافيا بقيادته لمبادرات غير التي يقوم بها  السيّد آيت أحمد الزعيم التاريخي وأمين عام سابق  لحزب "جبهة القوى الاشتراكية".

هدا الطابو السياسي وليس التاريخي وضع حركة الجمهوريين في حجمها من حيث المطلب، ومن حيث الجغرافيا، ومن حيث الأفكار . ولم يعد هناك ما يمكن الاتّكاء عليه في رفض الواقع، الذي يقول إنه ليس من الواقعية تحميل الجغرافيا من الأثقال التاريخية ما هي في غنى عنها أساساً. كما أن الوضع الذي ظلّ يتأزّم باستمرار ليس في صالح هذا الاتجاه. ومن هنا فإن ما كان ممكناً تصوّره قبل ثلاث سنوات من مجيء الرئيس بوتفليقة للرئاسة، صار من الصعب التذكير به الآن، لأن المتغيّرات والاستقطاب الذي أحدثته هذه المتغيّرات لصالح دُعاة الحوار والمصالحة الوطنية لم يعد مجرّد كلام بل صار الأرضية التي تلعب عليها كل قوانين الحركة بدءاً من قوانين الحوار إلى قوانين الإقصاء للإقصاء في دائرة الأفكار وتولّي المسؤولية.

 نسوق هذا التحليل ونحن متيقنين من أن الأزمة السياسية صارت وراءنا وأن الحل الجذري لها صار بعيداً عن أطروحات الراديكاليين من أنصار الأفكار الاستئصالية. هذا اليقين طبعاً هو الذي حرّك سعيد سعدي، لتجديد دعوته من خلال القنوات الإعلامية الاستعمارية لحمل السلاح، غير أن الدعوة وإن رأى فيها نوعاً من الضرب الساخن على الأوتار، فإنها ما كانت سوى لعبة ميت حاول أن يودّع العالم بعيون مفتوحة. فمند فترة وجيزة صرّح "المهرج" ألو ناس أيدير " بأن الإسلاميين في منطقة القبائل لا يُستهان  بهم. وهذا دليل على أن افتراضات "سعيد سعدي" القائلة بأن حيّزاً مهماً في المنطقة يؤمن باللادينية افتراضاً ليس له من لمسات الواقع أي سند وأي مبرّر، وأن قبول السيّد آيت أحمد وثيقة السلام كمصدر للقانون جعل من قاعدة سعدي على هشاشتها مجرّد شتات لا تجمعها غير أحاسيس وجدانية تلعب فيها العاطفة دوراً بارزاً ولمرحلة محدودة، لأن التجمّعات العاطفية، وكما تؤكّد السوابق التاريخية، ليس بإمكانها أن تؤسّس قاعدة صلبة تستند إليها.

ولكن دعنا نسأل عن أسباب هذه المفرقعات التي يطلقها سعيد سعدي كلما أحسّ بالانفراج السياسي، وعن التمادي في الأخطاء ومن قنوات أجنبية كانت ولازالت تمارس لعبة التاريخ الوسخ ضدّ الجزائر مند الفترة الاستعمارية. بالتأكيد ليس هناك من موضوعية في هذه المواقف، وهي لا تعني أبدا تقمّص الواقع ومحاولة البحث في ردم الثقب التي يعاني منها هذا الواقع، بل إنه من المؤلم هي أنها مجرّد محاولة لتذويب التاريخ وصهر الجغرافيا في بدائل متناقضة مع حقائق التاريخ وحقائق الجغرافيا التي تتقمّص جزءاً من هذا التاريخ على حساب الأجزاء الأخرى، الجزء الذي يتوقّف عند شواهد بعض القبور فحسب. ولو أخدنا بهذه التجزيئية لصار لدينا الآن في العالم دول الأقليات، وحضارات الأقليات، إذ ما من دولة إلا ولها جذور تاريخية ساهمت في صناعتها شعوب بادت أو على الأقل صارت الآن بحُكم التطوّر في حُكم التاريخ .

ثم هل بإمكان "حزب سعيد سعدي" أن يقيم علاقة جدلية فاعلة مع الماضي السحيق من دون الارتكاز على معطيات الواقع الآني؟ طبعًا لا، إنه من غير المنطق في شيء الادّعاء بالبقاء ضمن موروث حضاري إن كانت له فعلاً صفة الحضارة إلى أبد الآبدين، مع التجدّد الذي لاحقها وألغى الحيّز السلبي فيها، في الوقت الذي صار هذا الموروث بقايا تذكار فقط في هوامش الواقع . وفضلاً عن بقاياه هذه، فإنه لا يمثل في الذاكرة التاريخية حلقة منفصلة عن الأحداث التي جاءت من بعده، واستقطبته لصالحها وصاغت فيه قيماً جديدة متراصّة مع ما لحق بها من تفاعلات لها قوة التأثير تفوق قوته.

من هنا، فإن مظاهر الاستبداد التي تطغى على دعوات "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية " وهذا الطغيان لن يكون في صالح الحل الاستئصالي لأنه لا يمثل الظاهرة الإيجابية بقدر ما يمثل الشكل التوافقي في منظار الاستئصال، وهذا بالتأكيد ما جعل" سعيد سعدي" يفكّر دائماً في إشعال دخان الرماد الهامد. وإن صدق هذا على المدى القريب، فإن الانتحار السياسي لا يصاحب حزب سعيد سعدي وربائبه، ولكنه بالتأكيد سيصاحب أطرافاً أخرى ظلّت تلعب على أوراق الاحتمالات السيّئة. ولن تنفع الألاعيب التي تقوم بها مؤسسات الظلّ في باريس لصالح هؤلاء حتى ولو كانت تحت أقبية أكاديمية "اللهجة البربرية " والتي أنشئت خصيصاً لإثارة الاختلافات السياسية، والتسويق الغنائي لها عبر أشرطة نصفها يمجّد وثنية الماضي والنصف الآخر يمجّد الثقافة المسيحية الدموية، تحت شعار أنغام الهوية القبائلية، ومأساة الماضي الموغل في شظايا التاريخ. 

والآن، وبعد كل التقلّبات في التجزيئية يبدو أن "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية " ما عاد إلا مثل شاهد قبر، شاهد على أفكار دُفنت ولم تترك وراءها أية ذكرى، لأن من حاول غرسها انتهى هو أيضاً به المطاف إلى النفق المظلم. أكيد أن الحدث الدائم هو الذي ينتج الأفكار الواعدة وليس الأفكار التي طواها الزمن وأحالها إلى رصيف التاريخ ليسير فوقها مَن هم لفكر المستقبل ينظرون، وإن الدائم لا يبنى على الخطأ كما يقول" أندري مارلو" وأصحاب الفكر التنويري التآمري كما يدعون إليه. وصوّب بناءهم الفكري والأخلاقي، ليس على الخطأ فحسب، ولكنه التعفن المفضي بالطبع إلى الهزيمة وإلى التآكل. إذ من غير الواضح لديهم كيف تمارس الأفكار في مساحة التعدّدية وربما لا يقرّون أصلاً بها وهذا وحده كاف لأن يكونوا خارج اللعبة السياسية ومنظور التعدّدية. 

لقد أسّس "التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية " نمطه السياسي وفق منظور نحن الأصل والباقي فرع. نحن المساحة والباقي الهامش. ومن يسوّي أفكاره وفق هذه الرؤية من المؤكد لن يصل إلى نتيجة تحميه أو توضح للآخر المقاصد المرتجاة من ثقافة تعتمد الدعوات إلى التجزيئية والتجريد من العمومي إلى الخاص. صحيح أن هناك من انساق بداية وراء تيار دُعاة التجزيئية واستغلوا التعدّدية في نشأتها الأولى لحساب مفاهيم كانوا يحلمون بها رغم كونها مفاهيم لا تؤمّن لهم شيئاً، إن في السياسة أو في المبادئ. ولم يعد الاستئصاليون ومعهم الانفصالي"فرحات مهني" إلا مجرّد صوت نشاز تلعب به رياح المخابرات الفرنسية والتي هي بدورها فقدت تواجدها بالجزائر بعد أن سقطت كل الأقنعة عما كان رؤساء فرنسا يسعون  إلى تحقيقه في الجزائر خاصة لدى "ساركوزي" و"هولاند". وما نشاز رئيس الحكومة الفرنسية "مانويل فالس" ومن سار في فلكه من الإعلاميين في زيارته الأخيرة للجزائر إلا نتيجة فشل فرنسا في تحقيق ما ظلّت تحلم به من الوصاية الفكرية والاقتصادية على الجزائر.