غموض الترتيبات الروسية لمسار الحلّ في سوريا

رغم اقتراب موعد أستانة في 23 من الشهر الجاري، إلّا أنّ أهدافه لا تزال غامضة. وهل أستانة عمليةٌ تفاوضيةٌ مفتوحةٌ أم جولاتٌ على شاكلة سياق جنيف للحل، والأكثر غموضاً هو التراجع المعلن على صعيد التصريحات بين ما نصّت عليه اتفاقيات وقف إطلاق النار المُعلنة من موسكو بشأن خارطة طريقٍ سوريةٍ للحل السياسيّ في سوريا، وبين الهدف المستجد المتعلّق فقط بتثبيت وقف إطلاق النار والانتقال إلى مدينة جنيف لرسم معالم هذه الخارطة.

نيكولاي فوسكريسينسكي سفينة صاروخية روسية في السواحل السورية
وهو خلافُ التصريحات السورية التي أبدت استعدادها "لمناقشة كلّ شيء في الأستانة". وهذه السلسلة من التساؤلات الغامضة قد تكون في سياقٍ أكبر وأكثر غموضاً يتمثل في ثلاثة تساؤلات كبرى حكمت مشهد ما قبل الأستانة انطلاقاً من إعلان موسكو (20/12/2016). ومع هذا الغموض والضبابية تبرز سلوكياتٍ عدّة زادت في ضبابية المشهد الراهن، السلوك الأول دعم المقاتلات الروسية فصائل "درع الفرات" في معركة الباب وهو أمرٌ له حساباته الدقيقة مع دمشق، والتطوّر الثانيّ هو سحب روسيا لجزءٍ مهمٍ من قوتها البحرية قبالة السواحل السورية (6/1/2017) بما له من إيحاءات سلبية، والسلوك الثالث هو توقيع مذكرة منع وقوع حوادث وضمان سلامة الطيران أثناء عمليات الطرفين في البلاد، هذه المذكرة تثير الكثير من التساؤلات حول خفايا الاتفاق الروسي- التركي.. وقد لا تكون الضبابية عبثيةً أو مغامرةً روسيةً فقط لتحريك المياه الراكدة للحل السياسيّ في سوريا بعد أن حوّلت صقور الإدارة الديموقراطية هذه التفاهمات إلى مستنقعاتٍ راكدة، بل ربما هيّ استراتيجيةٌ روسيةٌ متكاملة المعالم للوصول إلى هدفٍ واضحٍ يتمثل في تفويت الفرصة على الإدارة الأميركية المقبلة بالانخراط العسكري في سوريا تحت مُسمّى "الحرب على الإرهاب". وهو ما يضع سوريا على أعتاب التقسيم بمُسمّيات "الفدرلة"، واستراتيجيةٌ روسيةٌ واضحةٌ لفرض وجهة نظرها حول مستقبل الحلّ في سوريا، بما يجنّب روسيا احتمالات الأفغنة التي زرعت الولايات المتحدة بذورها عبر تزويد الفصائل المسلحة بمنظوماتٍ صاروخيةٍ محمولةٍ على الكتف ومنظومات غراد الصاروخية، حيث تنطلق الرؤية الروسية من أنّ قطار الحل السياسيّ لن ينطلق إلّا عبر مسارٍ متوازٍ مع وقف إطلاق النار، وهو أمرٌ لن يتم مع إدارة الرئيس أوباما التي فشلت في ضبط التفلّت الإقليميّ وفشلت في إقناع الصقور الأميركية بجدواها، فاتجهت موسكو نحو تركيا الجهة الإقليمية الأكثر نفوذاً على الفصائل العسكرية وانتزعت منها ضماناً بوقف إطلاق النار ضمن اتفاق موسكو، مستغلةً القلق التركي من السياسات الأميركية الداعمة لكرد سوريا في نظام الإدارات الذاتية، وهو ما دفع موسكو إلى جعل اتفاق موسكو لوقف إطلاق النار خارج ولاية القرار (2268) لإنجاز هدفين، الأول جعل وقف إطلاق النار بعيداً عن المفخّخات الأمريكية، وثانياً جرّ كتلة أنقرة العسكرية بعيداً عن الأهداف الأميركية التي جسّدها مؤتمر الرياض للمعارضة التي تُثير بالأصل الحساسية التركية. وحتى لا تفرض كتلة أنقرة العسكرية شروطها التفاوضية على روسيا تمسّكت روسيا بكتلة الـ(104) فصائل الموقّعة على نظام وقف الأعمال العدائية (2016) وذات الكتلة من جنيف تكون مدخلاً مشتركاً لروسيا والولايات المتحدة للتعاون إن قرّرت إدارة ترامب التعاون وفق الثوابت المتفّق عليها بين روسيا والولايات المتحدة، وأيّ خروجٍ عن هذه الثوابت تصبح كتلة أنقرة العسكرية هي المرجَحة. وهذا يعني إعطاء تركيا دور الموازن الاستراتيجي في مواجهة إيران وهو ما تسعى إليه تركيا.

الإجابتان السابقتان توضحان ملامح الإجابة عن التساؤل لماذا زجّت روسيا عمداً بين القرارين (2118/2254) كمرجعياتٍ للعمليات التفاوضية رغم الاستقطاب الحاصل بين الحكومة والمعارضة على تفسيراتهما، حيث استخدمت روسيا القرار (2118 وبيان جنيف الأول 2012) وسيلةً جذب وإقناع للفصائل العسكرية التي ترفض أيّة مفاوضات لا تستند إلى بيان جنيف الأول، وستاراً سياسياً على الهيئة السياسية المنبثقة عن اجتماعات أنقرة بما لا يترك لوفد الرياض أيّ مجالٍ للمزاودة السياسية تحت مُسمّيات "ثوابت المعارضة" الأمر الذي من الممكن أن يزعزع كتلة أنقرة العسكرية ويعيد بعضها إلى كتلة جنيف، وتدرك موسكو أنّه بمجرّد عقد مؤتمر الأستانة سينشأ وضعٌ إقليميٌ ودوليٌ جديدٌ تصبح معه كلّ هذه المسلمات خياراتٍ يتم التفاوض عليها لاحقاً كما وردت ونصّت عليها الفقرة (4) من القرار (2254)، أيّ استبدال مصطلح "هيئة الحكم الانتقالية" بـ"حكمٍ ذي مصداقيةٍ يشمل الجميع ولا يستثني أحداً"، وحتى تصبح نتائج الأستانة ذات قيمةٍ مؤثرةٍ أعلنت روسيا سحب قوتها الضاربة البحرية قبالة المتوسّط في سبيل هدفين، الهدف الأول إظهار أنّ المفاوضات الجارية في الأستانة هي سورية - سورية خالصة وليست تحت تهديد السوخوي الروسية كما دأبت معارضة الرياض على وصفها، والهدف الثاني وهو الأهم تحاول روسيا أن تجعل عملية مكافحة الإرهاب في سوريا مرتبطة بالتوافق السوري - السوري وتحت مظلّته بما يفوّت الفرصة على أيّ طرفٍ دوليّ واقليميّ وفي مقدهم الرؤوس الحامية في الولايات المتحدة الأميركية، يريد تخريب سياق المفاوضات بداعي الانخراط بحرب ضدّ تنظيم "داعش" الإرهابيّ بما قد يعيد حسابات كتلتي جينيف وأنقرة العسكرية إلى نقطة البداية... فالظاهر أنّ إدارة الرئيس بوتين تريد كسر الجمود الذي رافق جولات جنيف الثلاث عبر خلق سياقٍ موازٍ للحل يستند إلى ذات المرجعيات، فإن أرادت الولايات المتحدة الحل اندمج المساران المتوازيان بمسارٍ واحدٍ، ومجموع قوتهما الدافعة تجنّب المسار الجديد أيّ ركود، وأمّا إن قرّرت الولايات المتحدة التخريب والمماطلة تكون روسيا قد أخرجت كتلةً عسكريةً مؤثرةً من الحسابات الأميركية، وربما تصبح ذات الكتلة رأس حربة ضدّ أهداف الولايات المتحدة في فرض المشروع الكرديّ كأمرٍ واقع.