النقب .. فصل مصر عن بلاد الشام لا يزال استراتيجية صهيونية

هاجمت قوات كبيرة من الشرطة الإسرائيلية والوحدات الخاصة فجر الأربعاء قرية أم الحيران، وهي واحدة من القرى "غير المعترف بها" حسب التصنيفات العديدة التي تقدمها سلطات الكيان "الإسرائيلي" كوسيلة للاستيلاء على المزيد من أراضي الفلسطينيين.

قرية أم حيران قبل الاعتداء الإسرائيلي عليها
في هجومها الأخير على أم الحيران، هدمت قوات الاحتلال الإسرائيلي عشرة منازل، ونتيجة مقاومة أهالي أم الحيران لهذه الجريمة التي تتواصل منذ عام 1948، قتلت هذه القوات المربي يعقوب موسى أبو القيعان (47 عاماً)، نائب مدير مدرسة حورة، وجرحت العديد من أهالي القرية وأنصارهم. 

وأدت المواجهة كذلك إلى مقتل الشرطي "إيرز ليفي" (34 عاماً) من جانب القوات الإسرائيلية التي هاجمت أهالي القرية. تأتي عملية الهدم هذه نتيجة لمصادقة حكومة "إسرائيل" في العاشر من شهر تشرين الثاني 2015 على إقامة مستعمرتين جديدتين، "كسيف" و"حيران"، لصالح اليهود المتدينين والـ"حرديم" في منطقتي الكسيفة وأم الحيران. 
ومن المخطط أن يسكنها 67 ألف مستعمر يهودي. وكانت "شعبة الإستعمار في المنظمة الصهيونية" وراء خطة "برافرمان- بيجن"، وهي تعكف حاليا على تجديد تسريع الإستعمار في عدة مناطق ومنها الجليل بمنطقة البطوف المعروفة بمثلث يوم الأرض: ديرحنا – عرابّة - سخنين، تحت عنوان "تهويد الجليل" لإقامة أربع مستعمرات- مدن جديدة.

نذكر أن الكنيست الإسرائيلي قد صادق في 11 حزيران/ يونيو عام 2013 على مخطط "برافرمان - بيجن" بالقراءة الأولى. (حتى يصبح القانون نافذاً، هنالك ضرورة لقراءة ثانية وثالثة) وقد صوّت إلى جانب القرار 43 عضو كنيست، مقابل 40 عضواً اعترضوا عليه. يقضي المخطط على ضرورة تجميع عشرات القرى العربية في النقب والتي لا تعترف "إسرائيل" بشرعية وجودها؛ أي تهجير حوالي 40 ألفا من أهلها وحشرهم في تجمعات تخطط "إسرائيل" لإقامتها دون أن تأخذ بعين الاعتبار تاريخ هؤلاء الناس الممتدّ في المنطقة، ولا نمط حياتهم أو مصالحهم وملكيتهم للأرض. ويقضي المخطط أيضاً بمصادرة 800 ألف دونم يطالب عرب النقب الحكومة الإسرائيلية بالاعتراف بملكيتهم لها بموجب قانون الملكية الخاصة والطابو.

أثارت هذه المصادقة وما تلاها من خطوات إدارية وقمعية غضب عرب الـ 48 والفلسطينيين على وجه العموم، فقد نظموا وقفات احتجاجية ومظاهرات في العديد من المدن والقرى الفلسطينية (والأوربية أيضاً) معربين عن رفضهم للخطة التي وصفوها بالـ"نكبة". وبعد سلسلة من الإحتجاجات الشعبية في الوطن والشتات قرر رئيس حكومة "إسرائيل"، "بنيامين نتياهو"، بتاريخ الثاني عشر من شهر كانون الثاني"وضع الخطة جانبا" وإعداد خطة بديلة لها. أما الوزير "بنيامين زئيف بيجن" الذي شارك بإعداد الخطة، فقد صرّح في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه عن قرار رئيس الحكومة بتجميد الخطة وليس إلغاءها كما روّج لها الإعلام العربي.

خطط منذ عام 1898

للنقب أهمية استراتيجية عند المخططين الإسرائيليين
بدأت الخطط اليهو-صهيونية للاستيلاء على أراضي النقب قبل ولادة أجداد "برافرمان" و"بيجن" في عام 1898، عندما اقترحت الحكومة الإنجليزية على اليهود منحهم كياناً في شمال سيناء والعريش. وفي العام 1903، انطلقت بعثة مشتركة لفحص الموضوع على أرض الواقع مع الحكومة المصرية. لكن الحكومة المصرية، التي وافقت في بداية الأمر، عادت وتراجعت بعد ذلك، لأن الكيان الوليد من شأنه أن يستهلك حصة كبيرة من مياه النيل.

لم يَغِب هذا الاقتراح، وكذلك الأدبيات التي كُتِبت عن المشروع، في حينه، عن ذهن وتفكير العرب والقوى القومية الأخرى، آنذاك. فبعد سنتين من التخلي المؤقت عنه في عام 1905، كتب الطبيب والفلكلوري الفلسطيني توفيق كنعان (1882- 1964) محذّراً العرب من خطورة الاستراتيجية الصهيونية تجاه النقب، شارحاً بأن النقب هو في صلب العقيدة الصهيونية، لأنه المنطقة التي تعزل مصر عن بلاد الشام؛ أي أن الصهيونية ستستخدمه لتفكيك الوطن العربي وإضعاف الأمة العربية. ومنذ ذلك الحين لا يزال النقب ماثلاً في الفكر السياسي والتخطيط الصهيوني بصيغ تؤكد ما جاء به توفيق كنعان.

وفي السياق الذي يناقشه هذا المقال، في الثاني من شهر كانون الثاني/ يناير الفائت، أعلن الجنرال في الاحتياط "دورون ألموج" القائد السابق للمنطقة الوسطى والذي أصبح في العام 2011 رئيس وحدة تطبيق الخطة وتنظيم السكن البدوي في النقب خطة برافرمان- بيجن "تعتبر هذه الخطوة حسّاسة جدا. لدى البدو موقف يقول بتأبيد كل براكية صغيرة، ليس من أجل الحفاظ على المجتمع البدوي، بل من أجل إيجاد تتابع سكاني بين الخليل وغزّة". أي إن هدف الخطة ليس تطوير "المجتمع البدوي" بل تحويل فلسطين إلى معازل سكانية بجيث يتم الفصل بين التجمعات العربية بوضع تجمع يهودي في وسطها. فما بالكم بفصل مصر عن بلاد الشام.

تبلغ مساحة النقب الجغرافي 13 مليون دونماً. أمّا النقب الفلسطيني فمساحته 11 مليون دونماً. ويقع المليونان المتبقيان في شمال سينا والعريش. وكانت الخطة في حينه أن يبدأ المشروع من شمال سيناء ثم يتسع باتجاه الشمال، إلى النقب الفلسطيني.

في كتاب للباحثة "حايا نوح" سنة 2010 بعنوان "القرى الموجودة وغير الموجودة (القرى البدوية غير المعترف بها في النقب"، لا تورد الباحثة على امتداد 204 صفحات شيئاً عن أهمية النقب الاستراتيجية بالنسبة للصهيونية ودولة "إٍسرائيل". 

بالطبع، يمكن معرفة السبب؛ فالبحث عبارة عن رسالة ماجستير (منشورة) في الجغرافية الاجتماعية، وليس في الدراسات الاستراتيجية التي هي حكر على السياسيين والعسكريين، ولا يبحث فيها داخل الجامعات والمعاهد البحثية التابعة لها، بل في معاهد تكون مرتبطة بالحكومات والجيش، وتأخذ الطابع السرّي أو شبه السرّي. والباحثة هي مِمَّن يُعرفون بباحثي "ما بعد الصهيونية"، التي تهدف إلى نسيان احتلال الجزء الأول من فلسطين وطرد أهلها عام 1948، ومنحه الشرعية، ولو ضمنياً، والحديث عن النتائج في أبعادها المدنية فقط، كعدم المساواة والتمييز وما إلى ذلك.

وجاء في الكتاب أن الاهتمام بالنقب بدأ في عام 1948، وليس قبل ذلك. ولكن هذا لم يمنع الدولة من استخدام قوانين الطوارئ لعام 1945، التي قال عنها مناحيم بيجن (1913- 1992) إن قوانين كهذه لم تكن موجودة في ألمانيا النازية، بغرض قمع العرب والسيطرة على أراضيهم ومصادر ثرواتهم! لذا عمدت الصهيونية وأذرعها المختلفة إلى توسيع حدود الكيان قدر الإمكان وتقويتها في وجه "الأعداء العرب"، وسن القوانين والأنظمة لتثبيت ذلك، ثم تسليمها إلى الدولة واليهود، وإقامة المستعمرات لهم. هذا ما جاءت به الباحثة نقلاً عن تنظير أرنون سوفير، أكثر المنظرين تأثيراً في مجال السيطرة على الأراضي والمياه العربية (ص 26- 52). وما تقوله الباحثة في كتابها ليس دقيقا؛ فقد أقام المستعمرون الصهاينة النواة الأولى لمستعمراتهم في النقب في العام 1946، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف هذا الإستعمار.

وكما أسلفنا، وبسبب المكانة الخاصة للنقب، فقد ناقشت "لجنة الترانسفير" التي كان يرأسها بن جوريون، في بداية الاحتلال مصير سكانه، مع العلم أن الاسم الرسمي لهذه اللجنة هو "لجنة الشؤون العربية". 
واقترح بعض أعضاء اللجنة إكمال طرد العرب من النقب، إلا أن النتيجة كانت بضرورة تركيزهم شرقيَّ مدينة بئر السبع (ص 29- 30)، كي تسهل عملية طردهم إلى شرق الأردن، مستقبلاً. 
ومنذ ذلك الحين استمرت عملية تركيز سكان النقب، التي هي عنوان طردهم من أراضيهم وسجنهم في تجمعات ضيقة. وقد بدأ الإعداد لها سنة 1950، حين قررت حكومة الكيان تركيز البدو في تسعة مراكز، ثم انخفض العدد إلى سبعة، ثم إلى خمسة، وفي عام 1962 خفضت الحكومة العدد إلى ثلاثة. 

ولا تزال سياسة تركيز سكان النقب في أقل عدد من المراكز هي الاستراتيجية القائمة. وطوال هذا الوقت، كان عرب النقب يعانون الأمرّين؛ من الطرد، إلى تسميم المواشي وآبار الشرب، وجرف الأراضي المزروعة بالقمح والشعير، وقتل كل من يقترب من أبنائهم إلى حدود إحدى المستعمرات؛ حتى إن السلطة التشريعية، "الكنيست"، سنّت عام 2008، قانوناً يبيحُ قتل العرب، وأطلقت عليه اسم الإرهابي "درومي" الذي قتل شاباً عربياً من النقب، لأن هذا الشاب اقترب من مزرعة المجرم "درومي" بـ"داعي السرقة"! وحتى اليوم، تبلغ عدد المرّات التي هدم فيها الكيان قرية العراقيب "غير المعترف بها" أكثر من 110 مرات خلال مدة لا تتجاوز الثلاث سنوات، لأن أهلها يرفضون مبدأ التركيز الذي سيؤدي إلى طردهم من قريتهم. وفي غضون الفترة الممتدة من النكبة إلى يومنا هذا ناقشت حكومة الكيان، علناً، خطة طردهم بالكامل من النقب؛ فقد ذكرت صحيفة "هآرتس"، في عددها الصادر بتاريخ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، اقتراح وزير المالية يتسحاق موداعي بطرد العرب من النقب، وتقدير ورصد التكاليف المالية اللازمة لتنفيذ عملية الطرد. 

وكان الهدف المعلن هو استجلاب 400 ألف مهاجر من جمهوريات الاتحاد السوفياتي، في ذلك الحين. وبحسب إحصائيات عام 2003، يعيش في النقب ما بين 140- 150 ألف عربي تقريباً، ويعيش 55% منهم في القرى غير المعترف بها. وقد نعتت السلطات هذه القرى بـ"غير المعترف بها"، علماً أنها في الواقع تنسجم مع تعريف وزارة الداخلية بأنها قرى عادية "مثلها مثل المناطر في الجليل". وتؤكد الباحثة "نوح" في كتابها أن هدف السلطات هو السيطرة على الأراضي ليس إلا.

 

تتناول الباحثة بالتحديد ثلاث قرى هي: الترابين، وأم بطين، والمقيمان، غير المعترف بها، بوصفها حالات ممثلة لبحثها. وتقدم المعطيات الضرورية لأي بحث من هذا النوع. فهي تسلّط الضوء على المعطيات المادية المختلفة: التاريخ والسكان، والأبنية السكنية والعامة، وعدد الطلبة، والقوانين والأنظمة التي استخدمتها السلطات ضدها. ولا تنسى الباحثة أن تؤكد أن هذه القرى كانت قائمة قبل الاحتلال، عام 1948.

رغم أهمية البحث، من ناحية حشد المعطيات اللازمة لإثبات ما تصبو إليه الباحثة: بأن سلطات الكيان تسعى إلى السيطرة على الأرض وتركيز/ تقليل/ طرد السكان من النقب، إلا أن الباحثة تقع في الفخّ الذي تنصبه نظريات ما بعد الحداثة، وتحديداً نظريات ما بعد الاستعمار، التي تعتقد بانتهاء الصراع القومي، ووجوب التحوّل إلى النضال المدني الذي يكفل، ليس كل الحقوق القومية "للسكان الأصليين"، بل جزءاً من حقوقهم المدنية فقط.

تقرأ الباحثة ما يحدث في النقب وفق النموذج الذي حصل للهنود الحمر في أميركا، والسكان الأصليين في أستراليا (علماً أن المشرف على رسالتها الجامعية، الأستاذ الدكتور أورن يفتحئيل، متخصص بالسكان الأصليين في أستراليا)، وتقول أيضاً بأن المواجهات العنيفة للـ"أصليين" مع السلطات الاستعمارية قد فشلت، وأن تطوير أساليب غير عنيفة من شأنه أن يُثمر بعض الشيء (ص 22- 26).

ما جاء في الكتاب يعني الكثير: أوّلاً، إن الصراع الوطني في الأرض المحتلة عام 48 قد انتهى. لذا فكلّ ما بقي هو النضال المدني لتحسين ظروف العبودية، ليس أكثر ولا أقل. ثانياً، إن الصراع القومي: العربي ـ اليهودي الصهيوني لا وجود له، فكل ما بقي هو النضال المدني. هذا صحيح، في جانب ما لأنه يحسن حياة الناس اليومية، لكنه ليس بالواقع الحتمي أبداً، رغم أن الفكر السياسي الفلسطيني العربي وغالبية النخب الفلسطينية والعربية تقبل ما تقول به الباحثة.

إن مخطط "برافرمان - بيجن" وأحداث أم الحيران تعيدنا إلى المربع الأول: قومية الصراع وعروبته. عدا ذلك نكون مثل أحد شيوخ الهنود الحمر، الذي حارب الاستعمار، لكن عندما اعتقل ابنه أصبح همّه أن تتم محاكمة ابنه بنزاهة، وفقاً لقانون المستعمر! وهذا يتطلب موقفاً يؤكد مجدداً على تثبيت كون النقب المنطقة التي تفصل مصر عن بلاد الشام، لكن هذه المرّة بمشاركة عربية ـ فلسطينية. ولا شكّ، أيضاً، في أن حصار قضاء غزة، الواقع غربي النقب، يندرج ضمن هذه الاستراتيجية.

نعود ونكرر مرة أخرى، إن مخطط "برافرمان - بيجن" هو خطوة جديدة في إستراتيجية منع التواصل الديموغرافي الجغرافي بين عرب النقب مع شعبهم في الضفة الغربية وقضاء غزّة، ومنع تواصل مصر مع بلاد الشام. وما استجلاب عشرات الآلاف من المستعمرين المتدينين والـ"حرديم" إلا لزيادة أعداد المستعمرين اليهود في النقب خاصة لأن عرب النقب يتكاثرون بوتيرة تعتبر من الأعلى ليس في الكيان، بل في العالم.

سبق حادثة الهدم الأخيرة في قرية أم الحيران، هدم أحد عشر منزلاً عربيّاً في قرية قلنسوة في المثلث الأوسط، بحجة أن المنازل بنيت دون ترخيص. وتتصاعد الممارسات القمعية "الإسرائيلية" ضد العرب سواءً في الأرض المحتلة عام 1948 وعام 1967 كتحصيل حاصل لنزوع  مجتمع المستعمرين وكيانهم وقادتهم إلى توجهات أكثر تطرفاً وفاشيّة. وينبغي أن نذكر هنا أن كيان المستعمرين اليهود يعتبرون أن أكثر من 100 ألف بيت عربي في الـ48 بنيت دون ترخيص، وكثيراً ما نسمع من قادته عن ضرورة القيام بهدمها كافة.