المطران الثائر..وداعاً كبوجي

في سفر الثورة، خط المطران الثائر على عسف المحتل وظلم بني الإنسان لأخيه، رحلته.. مرجعاً للتاريخ البشري سيرته الأولى، فكما يوجد مغتصب ومعتدٍ وظالم، يقابله ثائر على الإغتصاب ومناهض للعدوان، ولقاء هذا وذاك، وتأكيداً على جدلية الخير يقابل الظلم وشروره، يخلق القدّيس الذي يمنح للحياة اتّزانها، وللعدالة سيرورتها وقدريتها ونصابها...

المطران كبوجي
جموع غفيرة  بل أكثر تقطع شارع النهر في حي العزيزية الحلبي، عيونها شاخصة نحو الشرق، درج كنيسة الروم الكاثوليك تعجّ بالمؤمنين وعمال وطلبة وفلاحون بأزيائهم المُزركشة وشيوخ بعمائم مختلفة وشخصيات مرموقة بربطات عُنق  وعساكر  وشرطة وكشّاف بكل أفواجه وطفل يجلس على أكتاف أبيه ليرى المشهد من بعيد ملوحاً بيديه نحو الكنيسة. أصوات كثيرة .حلب كلها هنا ، بل سوريا.

 سألت أمّي ونحن عائدون إلى المنزل إحدى السيّدات الواقفات، ماذا يوجد هنا، أجابت السيّدة " قسيس جاي من فلسطين بيشفي المرضى، وبيخلّي الأعمى يشوف " .

  كنت فرحاً بهول المشهد، وبأن شخصاً أسطورياً يشفي المرضى، قلت ذلك لأبي حينما عاد إلى المنزل، ابتسم أبي وقال بصوته الواضح والجهوري والواثق وهو يخلع ربطة عنقه، إنه المطران الثائر كبوجي .

  كان ذلك أواخر سبعينات القرن المنصرم، حينما زار كبوجي مدينته حلب
تذكّرت تلك التفاصيل ، عندما اتصل بي أحد المُنتجين عارضاً عليّ أن أصنع له فيلماً وثائقياً عن المطران كبوجي سنة 2007،  اتفقنا وبدأت أبحث من مسقط رأسه إلى أن بدأت بالإتصال به في منفاه في روما، ذات مرة بعد أن أصبح لديّ تصوّر بصري لشكل الفيلم، وبعد أن صُغت المادة الكتابية.
  اتّصلت به وقلت له كنت أسمعك دائماً ، اليوم اسمح لي سيادة المطران أن أقرأ لك بعض السطور، فقال بصوته الهادىء أنا أسمعك جيّداً تفضّل :
  فقرأت له :
  في سفر الثورة، خط المطران الثائر على عسف المحتل وظلم  بني الإنسان لأخيه، رحلته.. مرجعاً للتاريخ البشري سيرته الأولى، فكما يوجد مغتصب ومعتدٍ وظالم، يقابله ثائر على الإغتصاب ومناهض للعدوان، ولقاء هذا وذاك، وتأكيداً على جدلية الخير يقابل الظلم وشروره، يخلق القدّيس الذي يمنح للحياة اتّزانها، وللعدالة سيرورتها وقدريتها ونصابها...
 من صلاح الدين وعزّالدين القسّام وحسن نصرالله، ورحم مقارعة المحتل لم تجف.. من حلب إلى قدس أقداس البشرية قدّ عبوره الأزلي فعبرنا، حملنا وتاريخنا، ذخيرة في زوّادة يومه ليكتبنا ثائرين، وينصبنا حرّاس الثورة، ويقلّدنا نياشينها..
   
 معه وبه ، انعدم الفارق بين الأرضي والسماوي.. معه وبه نرتّل ونتلو صلواتنا: أنت المحبة ياربي ويا سيّدي يسوع، وهم الظلم.. أنت النور وهم الظلام، ورايتك ياسيّدي هي رمز المحبة والحرية، وستظل رايتك مرتفعة، خفّاقة..
   الخزي والعار لأولئك الذين يُدّنسون الأرض المقدّسة.. يا سيّدي يسوع، إنني أقدّس أرضنا.. أرضنا العزيزة التي تُعرف باسم فلسطين.. آمين .. آمين
 حملت صلبناننا جميعها وفديتنا، وسرت أمامنا فطوبى لك ياملح الأرض.. وسلام عليك: يوم ولدت، ويوم ثرت، ويوم  تُبعث حياً، فمن آمن بالثورة ومات، فسيحيا..........
 معلّم اللاهوت.. معلّم الناسوت.. صوت ضمائرنا ووجداننا.. ساطع كالشمس.. واضح كالحق، لايخشى في الله لومة لائم.. تدرّج في سلّم الكهنوت ليُرسّم: سماحة المطران
   
 شأنه شأن مَن تربطه المدن بحبلها السرّي، يستطيل ولا ينقطع: أوصي بأنه إذا تعذّرت عودتي حياً إلى فلسطين.. مُناي أن تُدفن عظامي في فلسطين، على الأقل، لكي تنعم روحي ونفسي بلقاء قدسي الحبيبة..
 آلمته حالنا المنقسمة على ذاتها، وأرعبه وقت لم يرعبه صلف القاتل وعجرفته أرعبه جنين تشرذم الأخوة، الذي نما بين جنباتنا، ليسرطن حياتنا ومستقبلنا..
  في العراق .. في فلسطين .. في لبنان .. في .... في .. في . في .
  قال لي مَن يستحق هذا هي فلسطين، سأراك قريباً عندما أزور سوريا، فرحت وأبلغت المُنتج وأعطيته رقم هاتف المطران، فقال: عظيم سأبحث عن محطة تموّل الفيلم، ومازال يبحث .........
  الرحمة والسلام الأبدي لك أيها المطران الثائر والراهب والذاهب إلى ملكوت الرب، عل قداستك وثورتك على المحتل تنفض أرواحنا من جديد .