الاستفتاء في كولومبيا: هل ضاعَ السلام؟

رغم أن حُزن الملايين من الكولومبيين كان واضحاً خاصة عندما يُدرك الإنسان بأن القسم الأكبر من الستة ملايين من المواطنين الذين صوّتوا بـ "لا" فعلوا ذلك إمَّا بداعي الارتباك أو الإكراه السياسي و/أو الاقتصادي؛ من جانب آخر القول بأن ستة ملايين من الكولومبيين قد تجاوزوا الوضع المُشار إليه سابقاً وأعطوا أصواتهم للسلام، هو جانب ينبغي قراءته بتفاؤل.

لم يقُل أحد إن المهمة سهلة
لم يقُل أحد إن المهمة سهلة؛ وكل الذين راهنوا على إيجاد حل سياسي للنزاع المُسلّح الذي  دام أكثر من خمسين عاماً بين الدولة والقوات المُسلّحة الثورية الكولومبية- جيش الشعب (FARC-EP)، كانوا يُدركون بأن المسيرة محفوفة بالصِعاب والعقبات؛ ونتيجة الاستفتاء الذي جرى في الثاني من تشرين أول / أكتوبر الحالي كشف بأنه لا يزال أمامنا الكثير من العمل المطلوب إنجازه.

 

لماذا فازت الـــ ... لا؟

فازت القطاعات الكولومبية التي تُعارض اتّفاق السلام، في هذه الجولة بـ 6.431.376 صوتاً (50.31٪)؛ مقابل 6.377.482 (49.78٪) صوّتوا لصالح الـ : نعم، هذه هي نتائج فرز 98.98٪ من صناديق الاقتراع؛ وهذا يعني، أن الفوز تحقّق بفارِق 53.894 صوتاً فقط، وهذا الفارِق هو الذي منع تصديق الاتّفاقيات.

 بعد أربع سنوات من المفاوضات في هافانا، وبعد الحصول على هذه النتيجة تدخل عملية السلام في طريق مجهول؛ لماذا إذاً فازت الـ : لا؟

ماذا سيحدُث الآن؟

إنجاز الاتّفاق، والتوقيع البروتوكولي عليه في مارتاهينا دي غندياس أو "قرطاج الهندية" (Cartagena de Indias)، والموقف المُشرِّف والصادق لمجموعة الفارك وقياداتها، والدعم الإقليمي والدولي ومشاركة الأمم المتحدة وتوافق المؤسسات الرسمية حول الرئيس سانتوس ومواقف المفاوضين، كل هذا كان يُبشِّر بشكل جدّي وراسخ بإمكانية جعل الحرب فصلاً من فصول الماضي. 

ومع ذلك، لا يُمكن محو نحو قرنين من العُنف بمُجرَّد التوقيع على اتّفاقية؛ أو محو أفكار ومفاهيم استخدمتها الصحافة اليمينية للطُغمة المالية خلال العقود الخمسة الماضية.    

الذين راهنوا على الـ لا، بقيادة الرئيس السابق ألفارو أوريبي، شنُّوا حملة قذرة حوّلت الأنظار عن مضمون الاتّفاقية، وركَّزوا على الأكاذيب والافتراءات؛ مُستغلّين عوامل الخوف والكراهية والارتباك التي استولت على مُخيّلة ملايين الكولومبيين، كما أنهم استفادوا من الكمّ الهائل من الافتراءات ضدّ القوات المُسلّحة الثورية الكولومبية منذ نشأتها، ومن أخطائهم خلال مسيرتهم الطويلة مُستخدمين الجانب العاطفي وتحوير نصوص الاتّفاق، زعموا بأن عِقاب مُقاتلي حرب العصابات لن يكون مُتناسباً، وأشاروا إلى أنهم لا يستحقّون التمتّع بحق ممارسة النشاط السياسي؛ مُدّعين بأن الرئيس سانتوس قد سلّم البلاد للكاسترية – الشافيزية (بالإشارة إلى كاسترو وتشافيز)؛ وهي تبريرات لا تصمد أمام المُعاينة الدقيقة، إلاّ إذا تمّت قراءتها في سياق نفسي، واجتماعي وسياسي وثقافي كولومبي، حيث يكون للتضليل الذي تمارسه الحركة التابعة لأوريبي وزناً وحلفاء. 

لقد تم زرع الكّم الكبير من الكراهية إلى حد لم تتمكّن به حتى الصحافة اليمينية القريبة من سانتوس من عكس هذه المشاعر؛ وكان من المُستحيل تحقيق ذلك خلال ثلاثة أو ستة أشهر، فكيف إذا تحدّثنا عن شهر واحد؛ فلمدّة أربع سنوات كانت عملية السلام في هافانا غير مَرئية؛ كانوا يحاولون بشتّى السُبل منع الحركة الثورية من إظهار وجهها الحقيقي للبلاد: وإظهارهم ككولومبيين أصحاب مُثُل ومقترحات ويطمحون إلى السلام والمصالحة ومستخدمين نفس الأساليب، تم تغييب الاتّفاقيات التي أنجزت؛ الصحافة الموالية للرئيس سانتوس كانت ضحية السمّ الذي طبخته في السابق: الغطرسة والتعصّب؛ وخلال شهر واحد لم تتمكّن من إلغاء عقود من الأكاذيب التي تم ترويجها ضدّ الثوّار المُتمرّدين؛ وها هي النتائج.  

يُضاف إلى كل هذا طُغمة المُحافظين داخل المجتمع الكولومبي، فسنوات من الحرب رسَّخت سِمَة إعلامية احتكارية في أيدي النُخَب الاقتصادية والسياسية داخل الحزبين، ولم تسمح هذه بهامش من الخيارات والبدائل الإعلامية.  

هذا يُفسَّر جزئياً لماذا قرَّر أكثر من عشرين مليون ناخب البقاء في منازلهم، لتجنّب مواجهة خيار مُعضِلة السلاّم أو الحرب؛ وظاهرياً يكون ذلك من غير المفهوم في حال كان الإنسان يجهل لاأخلاقية النظام السياسي القائم على سياسة المُخدّرات والاحتيال والاحتكار للسُلطة من قِبَل حزبين، ووجود قوات شبه عسكرية (فِرَق الموت)، والعُنف الذي يُمارَس ضدّ كل المُعارضة السياسية؛ فالامتناع عن التصويت يؤكّد  وجود أزمة أخلاقية. 

البلاد مُنقسمة؛ ستة ملايين يراهنون على فرصة جديدة؛ وستة ملايين غيرهم لا يوافقون على الاتّفاقيات ولا على السلام، وحوالى عشرين مليون مواطن يُشكّك بكل شيء؛ مصداقية المؤسّسات والدولة تتهاوى وليس بالتحديد بسبب رياح الإعصار "ماثيو"، التي آثرت هي بدورها على الإقبال على صناديق الاقتراع.

 

ماذا سيحدث الآن؟

خُلاصة الأمر هي أن هذه النتائج ستُجمّد تنفيذ الاتّفاقيات في الوقت الحاضر؛ وسوف تؤجّل العمل بالجداول الزمنية المُتّفق عليها من أجل تجميع القوات الثورية في المناطق المُحدّدة سابقاً، وسوف تُعطّل العمل بالمِهَل الزمنية للتخلّي عن السلاح، وتؤخّر إتمام الإجراءات العملية للعودة إلى الحياة الشرعية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لمقاتلي القوات المُسلّحة الثورية الكولومبية، وتحوّلها إلى منظمة سياسية مُعتَرف بها قانونياً. 

يمكن الخروج باستنتاج آخر من خلال شرط وضعه أنصار الرئيس السابق أوريبي وهو إعادة التفاوض حول بعض نقاط الاتّفاق؛ وهو أمر يبدو غير مُجدٍ، لأن كلاً من الحكومة والفارك - الجيش الشعبي، قد أكّدا أنه لن تكون هناك مفاوضات جديدة. 

بعد الاعتراف بنتائج الاستفتاء، أكّد الرئيس سانتوس، أنه كرئيس للبلاد عليه واجب بذل كل جهد ممكن لتحقيق السلام المنشود، وأعلن أن وقف إطلاق النار بين الطرفين لا يزال ساري المفعول، وهو قرار رحّب به القائد تيموشينكو من هافانا، مؤكّداً بدوره من جديد رغبة الثوار بالسلام.

 أعلن سانتوس أيضاً أن مفاوضي الجانب الحكومي سيسافرون إلى هافانا للاجتماع مع نظرائهم من الفارك - الجيش الشعبي، من أجل تقييم الخطوات القادمة لضمان تنفيذ المُتّفق عليه.  كما دعا جميع القوى السياسية الكولومبية إلى تقييم الخطوات التالية بهدف البحث عن حل لهذا المُعضِلة القانونية القائمة. 

فوفقاً للمُحلّلين، الرئيس سانتوس يمكنه وبموافقة القوى السياسية التي دعمت الـ نعم، التصديق على الاتّفاقات في الكونغرس، وهذا يفترض تجاهُل إرادة أولئك الذين صوّتوا لصالح الـ لا، الأمر الذي سيكون له ثمن سياسي.    

مسار آخر ممكن أن يكون هو الدعوة إلى عقد جمعية وطنية تأسيسية، وهو خيار مُستَبعد، ولكنه يُقارب مصالح الجهة المؤيّدة لأوريبي ومصالح الفارك رغم الأهداف المُختلفة. 

هذه الدعوة الموجّهة من الرئيس إلى القوى السياسية الكولومبية، يمكن أن تسمح بتقديم مُقترحات وحلول مُستخلَصة من التجربة من شأنها تجنّب اللجوء إلى قرار من الكونغرس، وبالتالي تبعد عن سانتوس ما هو ليس بخيار: الجمعية التأسيسية؛ من الصعب وضع تصوّر لشروط هذا المَخرَج في الوقت الحاضر، ما هو حقيقة هو أن حلاً من هذا النوع من شأنه تشريع الأبواب لوحدة وطنية فعّالة، تُهيّئ الأرضية لمَن يتطّلع إلى الدعوة إلى جمعية تأسيسية.  

الوجه الآخر للعملة

رغم أن حُزن الملايين من الكولومبيين كان واضحاً خاصة عندما يُدرك الإنسان بأن القسم الأكبر من الستة ملايين من المواطنين الذين صوّتوا بـ "لا" فعلوا ذلك إمَّا بداعي الارتباك أو الإكراه السياسي و/أو الاقتصادي؛ من جانب آخر القول بأن ستة ملايين من الكولومبيين قد تجاوزوا الوضع المُشار إليه سابقاً وأعطوا أصواتهم للسلام، هو جانب ينبغي قراءته بتفاؤل. 

الأمر متروك الآن لجميع تلك القوى السياسية والحركات الاجتماعية المُدافِعة عن السلام، التي يجب أن تُضاعِف جهودها من أجل مواصلة نشر فوائد الاتّفاق، وشرح طبيعة الفُرصة التي تُتاح للمجتمع الكولومبي، الذي لا يزال في القرن الحادي والعشرين يعاني من كراهية الأشقّاء التي تخفي في ثناياها مصالح وضيعة؛ السلام لم يُفقَد، لا يزال حيّاً، ولكن الطريق إليه لا يزال طويلاً.