الميداني والسياسي في حل الأزمة السورية

يبدو أن إماطة اللثام عن مضمون الوثائق الخمس التي وقّعها كل من وزيري خارجية أميركا وروسيا في فيينا بشأن سوريا، لن يكون في العاجل من الأيام، وخاصةً فيما يتعلّق بالجهات التي سيكون على عاتقها، كسب الجغرافيا من إرهابيي "داعش" والنصرة. كما أن التفاهمات السياسية التي تُعنى بمستقبل سوريا السياسي، ستظهر على الأرجح رويداً رويداً كأمر واقع.

المرحلة اللاحقة ستحمل سمة الإنقضاض على الإرهابيين
في الثلث الأخير من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، وفي اجتماع فيينا الرباعي لوزراء خارجية كلٍ من أميركا وروسيا والسعودية وتركيا، وقبيل مؤتمر "فيينا 1" بأسبوع واحد، طرح الوزير لاڤروف على نظرائه، خريطة طريق للحل في سوريا، مؤلفةً من ثلاث مراحل أساسية، والتي وصفها  جون كيري في حينه، بأنها " دينامية جديدة للحل في سوريا "، والتي سرعان ما تظهّرت في بنود تسع انبثقت عن ذاك الإجتماع الشهير، ولتقرَّ لاحقاً في القرار الدولي ٢٢٥٤، وقد أصبح معلوماً لدى الجميع بأن فرملة الإندفاعة بتلك الخريطة، تمثلّت بعقدة فصل الجماعات الإرهابية عن المعتدلة، والتي أدّت فيما بعد إلى إسقاط هدنة شباط/ فبراير الماضي. 
ما الذي تغيّراليوم؟ ولماذا وافقت أميركا على تشذيب هذه التفاهمات الجديدة، وذلك على الرغم من وصول إدارتها إلى مرحلة البطة العرجاء؟ ولماذا "تكافئها "روسيا من خلال إبرامها معها؟ وهل فعلاً، أن هذه الإدارة ما كانت لتوقِّعها، لولا أن التطورات الميدانية لروسيا وحلفائها، كانت قد حشرتها في زاوية القبول بها على مضض؟ أم أنَّ هذه الإدارة المُتَرَجِّلة، قد اضطُرَّت على السير بالخريطة الروسية  للحل، وذلك بكونها أقل خسارة من غيرها ؟ أو أنها  ربما  تُفكِّر في امتطائها اليوم "كحصان طراودة"، لتقدِّمها غداً للإدارة التي ستخلفها .

الخطوط العريضة للتفاهمات

أولاً، الخطوط العريضة لتلك التفاهمات، تُؤشر بالفعل إلى اعتناق أميركا لخريطة طريق روسيا للحل في سوريا، وذلك انطلاقاً من مرحلتها الأولى، وذلك من خلال وضعها سريعاً على مشرحة التنفيذ، والتي تُفضي إلى تجميد قصف الجماعات العسكرية المعتدلة، ورفع الحصار عن أماكن تواجدها، مقابل تجفيف وإقفال منافذ ومصبات الإرهابيين إلى سوريا، وخصوصاً من الحدود التركية، وبحيث ستكون الشحنات العابرة منها، شحناتٌ غذائية وطبية حصراً، وليست عسكرية كما كان يحدث سابقاً، وذلك بضمانة أميركية وروسية وأممية، وهذا ما كشفت عنه تركيا من جهة، والقائد الميداني العام لحلفاء سوريا. من جهة ثانية، وذلك من اليوم الأول لتوقيع تلك الوثائق.

ثانياً، إعادة العمل بتفاهمات فيينا، ومندرجات القرار ٢٢٥٤، وذلك لناحية ضرورة فصل الإرهابيين عن المعتدلين، مما سيؤدي حتماً إلى تفعيل وتحفيز الهجرة القسرية من أولئك المستهدفين وبشكل مشترك هذه المرّة، إلى مربع الإعتدال الآمن. وعليه  فإن القضاء على الإرهاب في سوريا، لم يعد مرتبطاً حصراً برحيل الرئيس الأسد، وذلك بحسب ما دأبت على تبنيه كل من أميركا، وحليفتيها تركيا والسعودية على وجه التحديد .

سمة المرحلة اللاحقة

ثالثاً، وفقاً لما هو معلن من تلك التفاهمات، فإن روسيا وحلفائها، قد برعوا أيضاً  في رمي الكرة مجدداً في ملعب الجماعات العسكرية ورعاتهم في الميدان، وبالتالي فإن المرحلة اللاحقة، ستحمل سمة الإنقضاض على الإرهابيين، وذلك في كامل الجغرافيا السورية، وعليه فإن هؤلاء المعتدلين،  ليس أمامهم من خيار، سوى النأي بالنفس عن أولئك، الأمر الذي سيجعلهم يحظون بالرعاية، وربما المساعدة في استعادتهم لبعض الجغرافيا من نير الإرهابيين، وهذا عاملٌ تحفيزي لهم، وإن أبوّا  فإنهم سيواجهون مصيراً محتوما لمصير الإرهابيين، وبالتالي فإن خسارتهم ستكون مضاعفة .

الآلية وُضعت موضع التنفيذ

رابعاً، يبدو أن أميركا  قد رضخت لتطبيق مندرجات الحل السياسي في سوريا، والتي وردت في ذاك القرار أعلاه، وذلك وفقاً لأليةٍ تراتبية وليست متوازية. 
كون هذه المندرجات لا يمكن تفعيل العمل بها ما لم يتم الخلاص من الإرهاب على كامل الجغرافيا السورية، وخصوصاً فيما يتعلق بالترشّح والإنتخابات البرلمانية أو حتى الرئاسية، وكذلك موضوع الدستور والإستفتاء حوله، أو حتى لناحية غيرها من المحكات السياسية، والتي لا يمكن قياسها بوجود الإرهاب على أية بقعة جغرافية من سوريا ، وعليه فإن هذه الآلية  إن وُضعت  موضع التنفيذ ستُحسب أيضاً، لصالح ما كانت تنادي به القيادة السورية على الدوام .

المرحلة الثانية من خريطة الطريق الروسية

تأسيساً على هذه الرؤية، فإن عملية استشراف المشهدين الميداني والسياسي لسوريا القادمة، لم تعد بالأمر العسير، وبالتالي فإن التطورات التي ستلي الأسبوع الإختباري الأول لذاك التفاهم  ستكون محكومةً ضمن تسلسلٍ مرحليٍّ وزمنيٍّ على حد سواء  تجسيداً للمناطق الخضراء المحمية، موحدةً بين راعيي التفاهم، الأمر الذي سيتبعه ربما تجميداً للقتال على حدودها، ليقابلها في المقلب الآخر تسخيناً مكثفاً على جغرافيا تواجد الإرهابيين، وخصوصاً ضد مسلحي جبهة فتح الشام وحلفائهم، ما سيفرض على هؤلاء قتالا ً عبثياً محسوماً في نتائجه، وتجنباً لذلك فإننا قد نشهد في الأيام المقبلة، انزياحاً قسرياً لبعض المجموعات نحو المناطق الخضراء، وذلك لرفدها من جهة، ولتوسعة رقعتها من جهة ثانية .

وبناءاً عليه، فإن المرحلة اللاحقة، سيكون عنوانها على الأرجح مرحلةُ سلخ الجغرافيا من إرهابيي جيش الفتح، وذلك كتطبيقٍ لمندرجات القرار ٢٢٦٨، والذي يحظّر ذلك على جغرافيا طرفي الهدنة، ولأجل ذلك فإننا نعتقد بأن مرحلة الإنقضاض على مناطق الإرهابيين، ستخضع لمعادلة التجاور الجغرافي مع هؤلاء، والتي هي بالأساس تُمثل المرحلة الثانية من خريطة الطريق الروسية، والتي أشرنا إليها سابقاً: وبعيداً عن المدة الزمنية التي سيتطلبها إكتمال فصول ذاك المسار الميداني في جميع أنحاء سوريا، فإن إفرازاته  في هذه الأخيرة لاحقاً سنلحظها متجلِّيةً، ببقاء مكونين عسكريين كبيرين فيها (الجيش السوري وقواته الرديفة من جهة، ومعارضة عسكرية "مرتبطة بالخارج" من جهة ثانية، وذلك بحسب توصيفها من قبل القائد الميداني لحلفاء سوريا)، وعندها فقط سيكون ممكناً وضع اللبنات الأولى لآليات الحل السياسي، موضع التنفيذ الفعلي، والتي ستكون إن خلُصت النوايا  كنتيجةً حتمية لمسار تفاوضي طويل، قد يصاحب كلّ تلك الفترة السابقة. 
وبناءاً عليه، فإن مطبات الحل السياسي، والتي على ما تقول التسريبات، بأنّها قد أخذت حيّزاً مهماً من تلك الوثائق الخمس، وتحديداً موضوع الرئيس الأسد، والخلاف حول بقائه، فلربما يكون التوافق بشأنه قد وجد طريقه إلى الحل  وإن بقي طيّ الكتمان، وذلك يُستشفُّ من  تصريح الرئيس الروسي مؤخراً، وذلك عندما نصح  المطالبين بتنحيته، بضرورة "التحلّي بالصبر"، داعياً إياهم إلى "إنتظار تغيّرات في طبيعة المجتمع السوري "، وهذه العبارة تحمل من المعاني والمدلولات والمؤشرات ما تحمل.

نخلص إلى القول وتخطياً للمدد الزمنية في تنفيذ مراحل تلك الوثائق، فإن سوريا القادمة، ربما ستكون مشابهةً عسكرياً وبحدها الأدنى، إلى ذاك الحال الذي كان سائداً في لبنان، وذلك قبيل توحيد الجيش اللبناني بعيد اتفاق الطائف، وبحدّها الأعلى سياسياً وذلك إن تعثرت المفاوضات، أمام شبه كيانٍ سياسي وليد، يُمثّل عنصراً  ضاغطاً على السلطة  الشرعية في دمشق، مع حرص هذه الأخيرة وحلفائها الكبارعلى منع اشتعال حرب وكلاءٍ جديدة على الأرض، وذلك ما تجسّد إلى ما قبيل بدء الهدنة.
ومن خلال كل تلك المعارك التي خاضها الجيش السوري وحلفائه، والذين ظللّوا خططهم العسكرية باستراتيجية العزل والحصار في الميدان، والتي كانوا قد أطلقوا العنان لها، وذلك منذ الثلاثين من أيلول/ سبتمبر الماضي، وخصوصاً في وسط سوريا، من حمص باتجاه شرقها نحو دير الزور، وصولاً إلى غربها في ريف اللاذقية الشمالي، مروراً بشمالها، في حلب وأريافها الشرقية الشمالية، وصولا ًإلى الجنوبية الغربية منها  .