الخصوم والحلفاء أمام التدخل التركي

تبدو لدينا الكثير من المبالغات في حدوث استدارة تركية شاملة تجاه سوريا بعد المحاولة الإنقلابية، وما أثارته من غبار في فضاء علاقتها بواشنطن تحديداً. وعليه فإن الإشكالية الأساس تتمثل في كيفية تخطي تركيا بغزوتها الجديدة إعتراض حليفتها - أي أميركا - المبدئي عليها؟ وأيضاً في كيفية تجاوزها لفيتو الخصوم عليها، متمثلاً بموقف روسيا وإيران تحديداً؟

تبدو لدينا الكثير من المبالغات في حدوث استدارة تركية شاملة تجاه سوريا
ما زالت المواقف تتوالى فصولاً بشأن المقاصد الحقيقية لأبعاد وأفاق التدخل التركي المباشر في الشمال السوري، وخصوصاً لناحية توقيته، فضلاً عن أبعاد المواقف الدولية منه ، وذلك على مقلبي تركيا ، سواء من الحلفاء التقليديين لها، أو حتى من ألد خصومها الآخرين .

حتى الأمس القريب، كان التدخل المباشر  محرّماً عليها من كلا المقلبين على حد سواء. فكم كانت صولات وجولات التفاوض بين المسؤولين الأتراك ونظرائهم من الأمريكيين ، تصل إلى حائطٍ مسدود  عند كل مطالبة تركية بالمنطقة العازلة ، أو حتى الآمنة ، وبتبريرات أمريكية مختلفة. وهي نفسها الخطوط الحمراء التي كان يرسمهاالخصوم المعنيين بالملف السوري، وتحديداًروسيا وإيران. فسيرغي لافروف وصف الحديث عن الإستعداد التركي والسعودي بالدخول إلى الأراضي السورية، بذريعة محاربة الإرهاب، بأنه “ ألاعيب ينبغي التوقف عن فعلها .. وأن أحداً لا يستطيع المس بسوريا، وروسيا موجودة فيها". 

إذاً، كيف تبدلت المواقف رأساً على عقب، وهل فعلاً هو نتيجةٌ حتمية لتداعيات الإنقلاب الفاشل على أردوغان؟ أم أن في قصة الغزو التركي للأراضي السورية ، قطباً مخفية لدى حلفائها وخصومها على حد سواء؟

يمكننا أن نستشرف من مواقف الرباعي الدولي (تركيا، أميركا، إيران وروسيا)، أربعةً من  المصطلحات المعبّرة عن سلوك كل منها وهي: العوائد، الروافع، الحوافز والبراغماتية.  

تركيا: عوائدٌ دون الإقتراب من المحرّمات

تبدو لدينا الكثير من المبالغات في حدوث استدارة تركية شاملة تجاه سوريا بعد المحاولة الإنقلابية، وما أثارته من غبار في فضاء علاقتها بواشنطن تحديداً. وعليه فإن الإشكالية الأساس تتمثل في كيفية  تخطي تركيا بغزوتها الجديدة إعتراض حليفتها  - أي أميركا - المبدئي عليها؟ وأيضاً في كيفية تجاوزها لفيتو الخصوم عليها، متمثلاً بموقف روسيا وإيران تحديداً؟ 

 اختارت تركيا اللحظة الزمنية المناسبة بحيث تخطت خطين أحمرين،حددا سياساتها في هذه القضية وذلك من خلال سيرها في حقول ألغام المتخاصمين والحلفاء، ومن دون أن ينفجر أي منها لغاية اليوم .. فارتسمت أهدافها بمسطرةٍ رفيعة :

- بتر المشروع الكردي في وصل الكانتونات الثلاث … من دون أن يخرج البتر عن ممانعة إيرانية وسورية وروسية في مشروع تفتيت سوريا، حتى أن ذلك لا يتناقض مع مشروع أمريكا لدور كرد سوريا فيما يسعى إليه جو بايدن على الدوام،لاستيلاد “ سوريا الجديدة والمسالمة".

-الإمساك بورقة ما يُسمى بالجيش الحر ، وذلك من خلال الرعاية والحماية المباشرة له، وإحلاله مكان الدواعش في الشمال السوري. وهذا بحد ذاته سيجعل من هذا المكوّن العسكري، عنصراً جاذباً لكل أولئك المنضوين في التنظيمات الإرهابية وتحديداً في جبهة فتح الشام، والتي يُراد لها الانجرار إلى المشروع كلها أو بعضها، وإلى المسار السياسي القادم في سوريا .. وفي هذه النقطة لا يوجد من يعترض عليها على ضفتي الصراع هناك ، كونها تُشكل - بحسب رؤية كل منهما - مكسباً لصالحه.

-أرادت تركيا - أردوغان من خلال تدخلها، تبييض صفحتها الداخلية والخارجية على حد سواء، وغسل يديها من دعم داعش تحديداً، وذلك من خلال طرده من الجغرافيا الحدودية ، لصالح "معتدليها “، وفي الوقت عينه، تريد إعادة الإعتبار للجيش التركي ، بعد ليلة الإهانة الكبرى له في منتصف تموز الماضي .. وهذين البعدين أيضاً لا يُفترض أنهما يتناقضان أو يلامسان الخطوط الحمراء لحلفائها أو لخصومها على حد سواء .

أميركا: روافع للمشروع، لا إعاقته

في اليوم التالي لبدء التدخل التركي في سوريا، وتحت الرعاية الأمريكية المباشرة، خرج أكثر من مسؤول أمريكي ، مصرّحاً أن تلك الرعاية ، لا تعني مطلقاً تحقيق المطلب التركي في إقامة المنطقة العازلة أو حتى الآمنة. وفي ذلك رسالة مباشرة إلى روسيا وإيران بأن التدخل التركي - وبغض النظر عن تصريحات بعض المسؤولين فيها - لا يقترب مطلقاً من رفضهم الطموح التركي، فضلا ً عن تكريس الإعتراض الأمريكي المبدئي على ذلك .. وعليه فإن أمريكا - وضمن هذا السقف - ستحقق من تلك الرعاية، مجموعةً من الروافع لمشروعها في سوريا ، ومن بينها :

 

- ضبط الإيقاع السياسي لأكراد سوريا، وإيصال رسالة واضحة لهم بعدم الولوج أكثر ضمن الحضن الروسي، هذا فضلا ً عن دوزنة مناطق نفوذ حلفائها (وحدات حماية الشعب والجيش الحر) في الشمال السوري، وذلك كمقدمة للإيغال في الإمساك بورقتيهما السياسية والعسكرية أكثر فأكثر، ليسهل عليها بعد ذلك منحهم الأمان من الإستهداف الروسي وحلفائه، كونهم ستشملهم الهدنة المعمول حالياً على إحيائها ، وفق مندرجات القرار الدولي ٢٢٦٨ .

 

- تهدف تلك الرعاية الأمريكية للتدخل التركي فيما تهدف أيضاً، إلى جعل هذا الأخير رافعة ً أميركية (داخلية وخارجية)، وذلك ضمن سياساتها في تجيير الحرب على الإرهاب لصالحها وصالح حلفائها بعد أن دخلت مرغمةً في التخلي عن الإستثمار بالإرهاب لصالح وراثته. وذلك على أعقاب التدخل الروسي الفعّال والحاسم والمتكافل مع أطراف الممانعة بضرورة الخلاص من الإرهاب في سوريا، وعليه فإن أميركا بهذه الرافعة تكون قد أوغلت أكثر فأكثر في التخلي عن الإستثمار بالإرهاب، وهذا بحد ذاته مكسباً لمن اتخذ قراره في الخلاص من الإرهاب وعدم الوقوع في شرك الإستنزاف معه .. وبالتالي فإن هذه الرافعة الأميركية، هي في المقلب الأخر لها، قيمةً مضافة لخصومها أيضاً.  

إيران: حوافزٌ على أمل ..

جادل كثرٌ في اليوم الأول لبدء التدخل، بشأن حقيقة الموقف الإيراني منه، وذلك بحجة أن لهجة الإعتراض الإيراني لم تكن على مستوى الحدث. ربما يبدو الأمر في ظاهره صحيحاً، إلا ّأن التبصّر في المقاصد الإيرانية حول مدى الإعتراض، قد يعيدنا إلى السياسة الإيرانية التي تنتهجها إيران تجاه القضايا الكبرى التي تعنيها بشكل مباشر. فلو استذكرنا الموقف الإيراني من الإتفاق النووي الذي أبرم معها في تموزمن العام الماضي، فإن أعلى سلطة في إيران كانت ومازالت تنبه إلى الماورائيات الأميركية في السعي لإنجازه، وأثره على الداخل الإيراني، وذلك يفسر التحذير  المستمر لمرشد الثورة حول إطلاق أميركا الحرب الناعمة على بلاده.

أتقنت إيران ما بعد الإتفاق اللعب في المربع الأميركي ذاته وبرهنت القيادة من خلال كشفها مراوغة أميركا في الإلتزام بتعهداتها الفعلية لا الورقية، على حنكة سياسية عالية في تكريس وضوح الرؤية لشرائح وازنة من أطياف الشعب الإيراني بصوابية وصدقية شعاراتها بشأن حقيقة أميركا وبشكل محسوس هذه المرّة.

هذه السياسة الإيرانية في افتضاح وانكشاف أميركا أمام من تدعي أنها تدعمهم، لعلها هي التي دفعتها إلى تلك السعة من الإعتراض لكي تدفع أميركا بأن تكشف عن وجهها الحقيقي سواء أمام داعش التي استثمرت بها، ومن ثم عملت على لفظها. وأمام أكراد سوريا الذين جعلتهم بيادق ورأس حربة لضرب داعش (ما كشفته تركيا عن الإتفاق مع أميركا بخصوصهم بعد تحريرهم لمدينة منبج) ، وأيضاً جعلها تنكشف أمام تركيا، والتي عملت على إذلالها بأكثر من موقف، وآخرها كان محاباتها لألد خصومها في سوريا.

إنها سياسة إيرانية في تحويل التهديد إلى فرصة، عسى وعلّ بعضٌ من أولئك ، يعدّل في سلوكه وسياساته تجاه أميركا، وخصوصاً أن ذاك التدخل لا يقترب من المحرّمات الإيرانية في سوريا .

روسيا: البراغماتية وموطئ القدم

تستدعي معالجة إشكالية التحول في الموقف الروسي من موقف مهدد ومتوعدٍ على لسان لاڤروف، إلى غاضٍ للبصر عن تحليق الطائرات التركية في مرمى صواريخ الإس ٤٠٠ في سوريا، بأن ذاك التبدل قد حدث في لحظة مفصلية من التوازن الدقيق للمصالح بين روسيا وتركيا بعيد الإنقلاب الفاشل فيها. وهذا التوازن نظرت إليه كلتا الدولتين على أنه طوق نجاة للأخرى، وخصوصاً في بُعده الإقتصادي. وعليه فإن روسيا انتهجت سياسة القطاف التدريجي والمبنية على اللعب بأوراق ونقاطٍ رابحة على أكثر من صعيد، وذلك شريطة ألا يتجاوز الطرف الأخر السقوف الآساسية لإستراتيجية روسيا الراغبة في الولوج بدورها إلى مصاف الأقطاب في العالم. فالعبرة دائماً في القطاف، وليس بتسجيل النقاط.

أظهر التدخل التركي المباشر في سوريا أن الخصوم يتربصون بالحلفاء والعكس صحيح، والقادم من أيام سوريا ستكشف لنا المآلات.