هل سيتعافى الوطن العربي من سرطان الصراعات الطائفية؟

أظهرت وقائع التاريخ العربي المعاصر على الأرض بأن تجربة التيارات الدينية السياسية فشلت عربياً، لأن المعطيات والوقائع أظهرت بأن هذه الحركات الدينية عمقت النعرات الطائفية وأججتها سياسياً. ما أدى إلى اندلاع صراعات طائفية، مستغلة ومدعومة من جهات أجنبية خارجية لضمان إضعاف وتفتيت المنطقة العربية. ناهيك عن إبداء هذه التيارات شراهة نحو السلطة وفقدان مصداقيتها لدى الشارع العربي، وعدم وحدتها وتخبطها بين مذاهب مختلفة وآراء متناقضة.

تجربة التيارات الدينية السياسية فشلت عربياً
ازداد في السنوات الأخيرة نشاط التيارات الدينية السياسية (خصوصاً السلفية) في مختلف مناطق الوطن العربي. فيبدو أن المنطقة تحولت إلى ساحة صراع طائفي ذات أبعاد سياسية- أمنية - إجتماعية.

أظهرت وقائع التاريخ العربي المعاصر على الأرض بأن تجربة التيارات الدينية السياسية فشلت عربياً، لأن المعطيات والوقائع أظهرت بأن هذه الحركات الدينية عمقت النعرات الطائفية وأججتها سياسياً. ما أدى إلى اندلاع صراعات طائفية، مستغلة ومدعومة من جهات أجنبية خارجية لضمان إضعاف وتفتيت المنطقة العربية. ناهيك عن إبداء هذه التيارات شراهة نحو السلطة وفقدان مصداقيتها لدى الشارع العربي، وعدم وحدتها وتخبطها بين مذاهب مختلفة وآراء متناقضة.

باعتقادي، المستفيد الأكبر من صبغ الصراعات في الوطن العربي بالصبغة الطائفية والدينية هو إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والغرب الإستعماري عموماً؛ فكلما إنزلق الواقع السياسي العربي أكثر نحو التعصب والتطرف الديني، كلما ازداد الإقتتال والتشرذم في الأقطار العربية. فعلى سبيل المثال، آخر الصراعات التي شهدناها كانت بين الإخوان المسلمين والنظام المصري، داعش والقاعدة وأخواتهما وما عاثوه من فساد وتخريب ودمار وذبح باسم الدين، المجموعات الدينية المسيحية ذات التاريخ الدموي في لبنان مثل الكتائب اللبنانية ونظيراتها التي إقترفت في السبعينات والثمانينات، أبشع المجازر في المخيمات الفلسطينية من دون تمييز بين مسيحي أو مسلم؛ إضافة إلى حركات دينية سياسية عديدة منتشرة في المنطقة العربية. والحقيقة أن العصبية الطائفية خلال العقدين الأخيرين تفاقمت،  وفي المقابل تهشمت مفاهيم الوحدة العربية والأمة العربية الواحدة، وأخذ الوطن العربي يتمزق، وانشغل الكثير من العرب بالصراعات الطائفية وابتعدوا عن البوصلة القومية والوطنية وجوهرها القضية الفلسطينية.

وهنا يجب ألا ننسى بأن بعض التشكيلات السلفية الإرهابية الرئيسة نشأت في أواسط ثمانينات القرن الماضي، في فترة القتال ضد النظام الشيوعي الأفغاني الموالي للاتحاد السوفياتي السابق، إبتداء من الطالبان وأختها القاعدة اللتين خصص لهما الكونغرس الأميركي في حينه موازنات مالية خاصة، وأسماهما الغرب بالمجاهدين ضد الشيوعيين، فسلحتهما أميركا ودربتهما في قواعد تدريب عسكرية خاصة في باكستان وفلوريدا.

الحركات والمنظمات الدينية تنظر إلى طائفتها نظرة عصبية باعتبارها الأولى والأفضل، على حساب سائر الطوائف، فتسعى إلى فرض فكرها متجاهلة بل نافية وجود جماعات أخرى لا تتبع طائفتها، وهو ماحصل في كافة تجارب الحركات السياسية الدينية في القرن الأخير سواء في المنطقة العربية أو في  مناطق أخرى. 

مخطط ينون وتفتيت البلاد العربية

يحضرني في هذه العجالة المخطط الصهيوني الإستراتيجي الذي صيغ عام 1982 والخاص بالأقطار العربية المحيطة بإسرائيل والمعروف بإسم مخطط ينون (Yinon Plan)، والهادف إلى ضمان تفوق الأخيرة عسكرياً وإقتصادياً وتحولها إلى دولة عظمى في المنطقة. ولتحقيق ذلك ينص المخطط على ضرورة أن تعمل إسرائيل على إعادة رسم البيئة الجيوسياسية في الوطن العربي من خلال بلقنة وتفتيت الأقطار العربية المحيطة بها إلى دويلات صغيرة وضعيفة. ولو دققنا قليلاً بهذا المخطط وأجلسناه في السياق السياسي العربي-الإسلامي المعاصر، نجد بأن بداية تجسده الفعلي كانت إنطلاقا من العراق، وتحديداً لدى شن الحرب الأطلسية عام 1991 ضد العراق ومن ثم حصار الأخير وتجويعه، وصولاً إلى احتلاله أميركياً عام 2003، بالتواطؤ مع أدوات عراقية متعاونة مع المحتل، وفي المحصلة تفتيت الدولة العراقية إلى طوائف متناحرة ومتقاتلة.

فمجمل التطورات والتغيرات الجيوسياسية العربية تنسجم مع جوهر مخطط ينون المرسوم للمنطقة العربية، لتمكين إسرائيل من تثبيت مشروعها التوسعي الإستعماري. المفكرون الإستراتيجيون الصهاينة نظروا دوماً إلى العراق باعتباره التحدي الإستراتيجي الأخطر. لذا شكل العراق الحلقة المركزية في عملية بلقنة المنطقة العربية وتفتيتها. وإستناداً إلى مخطط ينون، فقد نظر الصهاينة لتجزئة العراق إلى ثلاث دويلات، كردية وشيعية وسنية. ومن هنا، كانت الخطوة التمهيدية لتحقيق ذلك المخطط هي الحرب الإيرانية - العراقية. 

كذلك، ومنذ عام 2011، جاء مشروع تجزئة سوريا إلى دويلات سنية وعلوية ودرزية، وتقسيم لبنان إلى كيانات مارونية وسنية وشيعية، ومصر إلى دويلات قبطية وسنية، وهكذا. إن إستدامة دولة إسرائيل "العظمى" والإمبريالية المتفوقة على محيطها العربي، تتطلب تفكيك الأقطار العربية الحالية إلى دويلات طائفية وإثنية صغيرة هشة ووكيلة لإسرائيل. إن وجود كيانات سياسية عربية مستقلة وقومية التوجه بشكل واضح ومتماسك، يتناقض مع جوهر وجود "الدولة اليهودية". بمعنى أن الدويلات العربية والإسلامية والمسيحية القائمة على أساس ديني - إثني سيثبت ويشرعن مزاعم الحركة الصهيونية بيهودية الدولة إستناداً إلى الميثولوجيا الدينية، ما يشرعن أيضاً إدعاءات المنظرين الصهاينة ومستشرقي الغرب الإستعماري، وبخاصة الأميركيين؛ تلك الإدعاءات القائلة بأن الصراعات في العالم بعامة، وفي "الشرق الأوسط" بخاصة، هي أساسا صراعات حضارية ودينية (نظرية هنتغتون). 

ولننتبه هنا أن جميع التدخلات الإستعمارية والأطلسية في البلاد العربية بالإستعانة بأدوات عربية محلية، تمخض عنها تفتت إثني وإقتتال طائفي ودول فاشلة أو شبه فاشلة؛ كما شاهدنا في السنوات الأخيرة في العراق وليبيا وسوريا واليمن والسودان والصومال.

وتحصيل حاصل، أن مخطط ينون يهدف في سياق عملية التفتيت، إلى تثبيت الإستيطان الصهيوني وتكثيفه في الضفة الغربية وطرد أكبر كم ممكن من الفلسطينيين من وطنهم، وضم الضفة وقطاع غزة إلى إسرائيل.  ولأغراض تفتيت البنية الوطنية الفلسطينية حاولت وتحاول إسرائيل اللعب على وتر الطائفية.

البديل الأقوى

باعتقادي، الوحدة بمفهومها العربي وليس الطائفي أنجح وأكثر فعالية وواقعية وخدمة لنا كعرب، لأنها توحد العرب بجميع طوائفهم ومذاهبهم المختلفة تحت إطار راية عربية وحدوية، لا تصنف العربي كسني وشيعي ومسيحي... وذلك بديلاً للتعصب والتحزب الطائفي، وتكوين كيانات عشائرية-طائفية تحمي مصالح العشيرة والطائفة، وتكرس وتعمق تضارب مصالح كل مجموعة وتخلد اشتعال الحروب والصراعات في ما بينها، لصالح تخليد الدولة الإمبريالية المهيمنة (إسرائيل).

فما نحتاجه الآن هو بلورة مدرسة عربية فكرية وحدوية نهضوية هدفها النهوض بالأمة العربية فكرياً وثقافياً، وإنهاء حال التشرذم وسرطان الطائفية والأساطير والأوهام الدينية المتفشية في بلادنا. مثل هكذا مدرسة يمكن أن تضم كافة شرائح وفئات المجتمعات العربية، من إسلاميين ومسيحيين وعلمانيين وقوميين وإشتراكيين، تحت مظلة نظام ديمقراطي يكفله دستور يحمي مصالح وحقوق الجميع على أساس المواطنة المتساوية، من دون سطوة جماعة على أخرى. ومع أن ذلك قد يبدو مستحيلاً، إلا أن أملنا منصب على تنمية عقول شابة واعية ومثقفة تعي مصيرها ومصير شعوبها.

خلاصة القول، أننا نحتاج إلى المفكرين والأدباء والمثقفين والسياسيين العرب، للبدء بحراك فكري نهضوي في الشارع العربي، وصولا إلى صيغة متفق عليها لحكم قومي ديمقراطي مقاوم للاحتلال، وضامن لحقوق كافة أفراد وفئات المجتمعات العربية.