تركيا وأميركا .. خَمس محطّات مريبة

بعد إغلاق الجيش السوري في تموز الماضي لطريق الكاستيللو المؤدّي إلى حلفاء تركيا في حلب الشرقية، استنفرت أميركا وتحالفها وفي مُقدّمهم تركيا، وذلك لإعادة التوازن العسكري إلى سابق عهده من خلال الدعم غير المَسبوق للفصائل المُسلَّحة، لفتح ثغرة الراموسة، وذلك كله حدث بُعيد الإنقلاب الفاشل في تركيا، ومسرحية الإستدارة التي يُطبّل لها كثرٌ اليوم في هذا العالم.

تركيا وأميركا .. خَمس محطّات مريبة .
في أواخر تموز من العام ٢٠١٥ ،- وبعد مخاض ٍعسيرٍ من الأخذ والرّد - إنجَلَت غبرة الإتفاق الأميركي- التركي المُشترك لمحاربة داعش في سوريا، وذلك بعد أن سمحت أنقرة للطّائرات الأميركية بالإقلاع من قاعدة إنجرليك التركية لقصف إرهابيي داعش في سوريا، وذلك بعد أن صدر بيانٌ مشترك في حينه من كلا الدولتين المعنيتين بهذا الإتّفاق، بحيث كانت أولى ضحاياه وأد ما كانت تريده تركيا في الشمال السوري بإقامة المنطقة العازلة - بالتفسير التركي لها - وذلك لصالح وعد أميركي بإقامة نظيرتها بحسب الرؤية الأميركية لها، وذلك منعاً للتخريب على مشروع أميركا لسوريا الجديدة من جهة، وضماناً لعدم الإصطدام المُباشر مع محور روسيا - إيران، وخطوطه الحمراء، الرافضة لذلك، من جهة أخرى ..  ( كنت قد فصّلتُ حول ذاك التخلّي التركي عن مفهوم المنطقة العازِلة، في مقالة نشرتها في تاريخ ١٣-١٠-٢٠١٤ ، والتي كانت بعنوان  " أميركا والمناطق العازلة، وفن الإغواء والإغراء" )، وقد أختُصرت تلك الرؤية الأميركية الموعودة لتركيا بأن المنطقة العازلة، يمكن أن تتحقّق أهداف إقامتها وذلك بأيدٍ سورية وبعيداً عن الأيدي الأميركية أو حتى التركية والأطلسية، وذلك منعاً للّعب تحت حِزام الخطوط الحمراء لأولئك. 


فجأةً، ومن دون أية مُقدّمات، وفي حمأة الشَطَط في التحليل حول مدى الإستدارة التركية في ما خصّ الأزمة السورية وذلك بُعيد الإنقلاب الفاشل فيها، وفي عزّ الحديث التركي المُستجد حول القبول بالرئيس الأسد شريكاً في التفاوض، فضلاً عن بقائه في سُدّة الحكم لفترة إنتقالية مع تكرار معزوفة انتفاء دوره في مستقبل سوريا.. يخرج علينا نائب رئيس الوزراء التركي بالأمس ليُجدِّد الحديث حول " المنطقة الآمنة على الحدود مع سوريا، وضرورة عدم سيطرة مكوّن واحد على تلك الحدود معها " وذلك في إشارة واضحة إلى منع تجاوز الخط الأحمر التركي في اتصال الكانتونات الكردية الثلاثة بعضها ببعض، وتحديداً من جرابلس حتى أعزاز في الشمال السوري.


وبالعودة إلى ذاك التفاهم الأميركي التركي حول ضرب داعش في العام الماضي، فلقد كان مُلفِتاً للنظر تصريح لرئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو بأن " أكراد سوريا، ليسوا أعداءً لتركيا … وأنه يمكن أن يكون لهم دور في سوريا الجديدة". ما يُثير الرَيبة  حول نوايا تركيا الحقيقية في سوريا تلك التطوّرات المُتسارِعة في الشمال السوري، فبعد إغلاق الجيش السوري في تموز الماضي لطريق الكاستيللو المؤدّي إلى حلفاء تركيا في حلب الشرقية، استنفرت أميركا وتحالفها وفي مُقدّمهم تركيا، وذلك لإعادة التوازن العسكري إلى سابق عهده وذلك من خلال الدعم غير المَسبوق للفصائل المُسلَّحة، لفتح ثغرة الراموسة، وذلك كله حدث بُعَيد الإنقلاب الفاشل في تركيا، ومسرحية الإستدارة التي يُطبّل لها كثرٌ اليوم في هذا العالم.


المحطّة المُريبة الثانية، والتي كشف عنها مؤخراً وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو والتي كانت بلاده تُهدّد بأنه من غير المسموح عبور الوحَدات الكردية إلى غرب الفُرات، فرأينا هذه الأخيرة في منبج وعينها على مدينة الباب أيضاً ‼ وكانت مفاجأة أوغلو بدعوة أميركا للإيفاء بوعدها بسحب وحدات الحماية من منبج بعد تحريرها من داعش، الأمر الذي يؤكِّد حصول  إتّفاق أميركي - تركي مُسبَق، باستخدام وحدات الحماية كرأس حربة للمشروع  الأميركي - التركي المُشترك لمحاربة داعش على الأرض.


المحطَّة الثالثة، والتي يدور الحديث حولها اليوم وهي مدينة جرابلس، والتي ترصدها الفصائل العسكرية المنقولة تركياً إلى قبالتها في الجانب التركي وذلك للعمل على تحريرها من داعش، وذلك في ضوء مسرحية تقدّم بضع عشرات من مقاتلي وحدات حماية الشعب من منبج باتجاهها، ومن دون أي غطاء جوّي أميركي، وما حُكِيَ عن قصف مدفعي تركي لهم، لمنع تقدّمهم نحو المدينة، وذلك لإفساح المجال أمام الفصائل الأخرى في المُعارضة السورية لإنتزاعها من داعش، وذلك بعد سيطرتهم سابقاً على بلدة الراعي الحدودية ذات الموقع الإستراتيجي على الحدود التركية.


المحطّة المُريبة الرابعة، ما حدث في محافظة الحَسَكَة، من افتعال كردي للإقتتال مع الجيش السوري، والذي رافقه تهديدٌ أميركي للطّائرات السورية بمنع التحليق في مناطق تواجد قواتها الخاصة، فضلاً عن منع ضرب من أسمَتهم بحلفائها على الأرض، وقد تمخّضت تلك الأحداث عن إتفاق ينصّ على ما يُشبه شِبه خروج للدولة السورية من الحَسَكَة مع الإحتفاظ بأجهزة أمنية في مربّعها الأمني فقط، وبسيطرة للأسايش على كل النُقاط التي احتلّوها في المدينة عقب تلك الإشتباكات.


المحطّة المُريبة الخامسة، والتي تمثّلت بإطلاق المدعو عبدلله المُحيسني  (شرعي ما يُسمّى بجيش الفتح)، مؤخراً سلسلة من التغريدات، والتي يُبشّر فيها باقتراب اندماج كل الفصائل العسكرية، وبغضّ النظر عن الإختلافات العقائدية في ما بينها، و حتى أنه تحدّث عن الفصائل العلمانية والتي تُسمّى بالجيش الحر، وهذا بحد ذاته تطورٌ لافت بُعَيد انسلاخ جبهة النصرة الإرهابية عن القاعدة وتغيير إسمها، ولربما حان موعد تذويبها في بوتقة عسكرية واسعة، وكأنه إحياء لمشروع مارتن ديمبسي في ضرورة إيجاد قيادة عسكرية موحّدة لجميع فصائل ما تُسمّى بالمُعارضة السورية المُعتدلة، وهذا المشروع الإندماجي - إن حصل - فإن اليد التركية - السعودية والأميركية ستكون الراعية الأساس له .

لنتخيّل الصورة الميدانية في الشمال والشمال الشرقي لسوريا لاحقاً، شبه سيطرة للأكراد في محافظة الحَسَكَة وصولا ً إلى الضفة الغربية للفرات - إذا استثنينا منبج، سيطرة لما يُسمّى بالجيش الحر على المنطقة المُمتدّة من أعزاز حتى جرابلس (وذلك في حال سيطرتهم المُرتقبة عليها)، الأكراد مُجدّداً في عفرين، حتى حدود محافظة إدلب، والتي تُسيطر عليها فصائل ما يُسمّى بجيش الفتح، والذي قد يتطّعم بفصائل أخرى، وذلك كما تحدّث المُحيسني.


بعيداً عن الرقّة، تبقى في تلك المنطقة الحيوية من سوريا مدينة حلب، بحيث تجري على أرضها  اليوم أمّ المعارك، والتي تضم أيضاً مقاتلين كُرداً في بعض أحيائها الغربية، والتي يُقال إنها عمدت إلى إقفال طريق الكاستيللو نارياً على الجيش السوري في ظلّ معارك الحَسَكَة، وعليه فإن  التطوّرات الميدانية فيها ستكون مؤشّراً قوياً على الوجهة التي سترسو عليها مشاريع أميركا المُعدّة لسوريا، وتحديداً من شمالها .. بحيث يحلو  لجو بايدن أن يُطلِق على سوريا المُشتَهاة أميركياً، بسوريا " الجديدة والمُسالِمة " في آنٍ معاً.


خلاصة القول، فإن الدور التركي الجلّي والواضح في تلك المحطّات المُريبة التي أوردناها سابقاً، والتصريحات المُتجدّدة لبعض مسؤوليها حول إحياء اتّفاقات معقودة مع أميركا، يُدلّل على أن تركيا، تمارس اليوم في استراتيجيتها الجديدة لعبة الرقص على الحِبال مع الخصوم والحلفاء على حد ٍسواء، وذلك لضمان حجز حصّتها في أية مشاريع تسووية قد تُطرَح في فضاء الأزمة السورية، وربما هي أيضاً تُناور اليوم  نحو روسيا وإيران، وذلك لإحياء مشروع  أوغلو - بايدن لسوريا الجديدة، وذلك من شمالها على وجه التحديد. وتبقى العين على حلب المدينة ، ومآلات الصِراع فيها وعليها في آن واحد.