حروب الأمس واليوم من النافذة اللاتينية

لا بد في الوقت عينه من أن يقوم إعلامٌ تحرّري يتجاوز المُزايدات والشعارات الفارغة، ويعمل على تطوير فعّالية أنظمة التواصل والإعلام البديل وكذلك الخيارات الإعلامية الأخرى وأن يُبْنى جسر من التعاون في ما بينها، سواء على المستوى الداخلي في البلدان أم على المستوى الاقليمي والدولي، لنشر الحقائق والمواقف والإنجازات التي حقّقتها القوى السياسية والاجتماعية التقدمية وحكوماتها بقوّة أكبر. إضافة إلى ما تقدّم فقد برزت أيضاً كمُهمة مُلحّة وهدف مباشر غير قابل للتأجيل عملية سدّ الثغرة الرقمية في شبكات التواصل الأجتماعي.

تجارب التغيير التي عاشتها أميركا اللاتينية تميّزت بمواجهة قويّة في المجال الثقافي والإعلامي
منذ زمن بعيد وتحديداً في عام 1892 ومن منفاه في الولايات المتحدة نصح البطل القومي الكوبي خوسي مارتي أحد الصحفيين، وكان أحد رفاقه في النضال بما يلي "أنشروا وانشروا واجعلوا أخبار كوبا تسدّ جميع الثغرات فالحروب تمضي قُدُماً وستتحوّل إلى حروب ورقيّة. إربحوا ثقة الناس بنا، افتحوا ذراعيكم لقوّة الحب وافتحوا العقل لقوّة الحكمة".

إذاً مارتي كان مُدركاً لأهمية التواصل والإعلام في خلق وتعزيز الوعي الوطني، وفي تنظيم وتناغم العوامل المتعلّقة بالنضال والنقاش السياسي والنقلة الثقافية التي تعنيها ثورة كتلك التي كان يحضّرها مارتي لكوبا.

ربما كان مارتي مُدرِكاً أيضاً ومنذ زمنٍ بعيد أن التواصل والإعلام أصبحا عاملين أساسيين لا نقاش حولهما  كعاملين للتغيير التاريخي. وقد استخدم صولون، مشترع اليونان، أسلوب المراثي والمطوّلات لتعزيز سلطته في وجه الطبقة الأرستقراطية الأثينية. وكانت بلاغة بيركليس ومهارته في تشكيل شبكة فريدة من نوعها للنشر من خلال حفلات وأعمال مسرحية و مسابقات أدبية ساهمت جميعها في إبقائه في السلطة لعدة عقود.

نيكولو ماكيافيلّي في كتابه "الأمير"، أكّد أنه بالنسبة إلى رجال الدولة "لم يكن من الضروري أن يتمتّعوا بكل المواصفات، ولكن لا بدّ من أن يتظاهروا بأنهم يملكونها". كما أدركت الكنيسة الكاثوليكية دائماً أهمية وقيمة التواصل، وفي مواجهة الخطر الذي استشعرته من البروتستانتية فأنشأت أخويّات نشر الإيمان للدفاع عن معتقداتها بطريقة مُنظّمة.

الثورة الفرنسية ذاتها كانت ستفتقر إلى القيمة الثقافية التي حدّدت معالمها وحوّلتها لاحقاً إلى مرجعية، لولا موسوعة دنيس ديدرو و تيّارات الفكر التنويرية وتطوّر الطباعة والفنون التصويرية. وحين استدرك نابليون ذلك الأمر أطلق  تحذيراته الشهيرة": لو أطلق العنان لعمل الصحافة لما بقيت في السلطة ولا حتى ثلاثة أشهر".

انتهى القرن التاسع عشر مع أول حرب أمبريالية في التاريخ الحديث وعلى وجه التحديد في كوبا، بين القوات الأميركية و الكوبيّة والاسبانية. وكانت الأحداث مسبوقة بحملة إعلامية مُكثّفة وجديدة من نوعها لتبرير التدخّل الأمريكي في الحرب التي خاضها المقاومون الوطنيون الكوبيون ضدّ الامبراطورية الإيبرية المتهالكة. ولا بد من الإشارة إلى العبارة الشهيرة لويليام راندولف هيرست، مدير تحرير صحيفة نيويورك جورنالمتوجّهاً إلى مراسله في كوبا، المُكلّف بتغطية الصراع الكوبي - الإسباني عبر إرسال الصوَر حيث قال له : "عليك المشاهد والرسومات وعليّ الحرب".

وخلال الحربين العالميتين في القرن العشرين تمت أيضاً تجربة تقنيّات جديدة من نوعها وأساليب وتقنيّات إعلامية ودعائيّة، والتي كانت تشهد تطوراً في كل مرّة أكثر وعلى نحو مُتزايد. وقد تجلّى دور الاتصالات والإعلام في المواجهة الإيديولوجية والثقافية وبلغ الذورة خلال الحرب الباردة. فقامت واشنطن بتوسيع مساحات عمل وسائل الإعلام "الإديولوجية" في سعيها إلى تقويض التجارب الإشتراكية والجهود الرامية إلى إنهاء الاستعمار والتحرّر. وباتت تلك الوسائل تتمحور حول مُهمّة استبدال الثوابت والقِيَم الإنسانية من خلال السينما والأدب والمسرح والتعليم والاستهلاك والترفيه، وتركّز على نحو كبير على جيل الشباب.

مرة أخرى.. الإعلام

أما تجارب التغيير التي عاشتها أميركا اللاتينية ومنطقة بحر الكاريبي خلال السنوات ال 15 الماضية، فقد  تميّزت بمواجهة قويّة في المجال الثقافي والإعلامي. وقد سادت على الأرضية التي قامت عليها العمليات الثورية والتقدمية والقومية عدة عوامل بنيويّة تسمح بإعادة إنتاج نظام قِيَم رأسمالية، وهو المُهيمن حتى يومنا هذا.
أما وسائل الاتصال والإعلام التي يحتكرها اليمين في قبضته، فقد تحوّلت من خلال قوالبها الإعلامية، ووفقاً لما قاله أمير صادر إلى "العمود الفقري لليمين" الذي لم يتوقّف يوماً عن السعي للحفاظ لاستعادة مواقع السلطة التي تم انتزاعها منه. وما التجارب في فنزويلا والأرجنتين والبرازيل إلا أدلّة كافية، كيف أن الصحافة اليمينية باتت العنصر الرئيس في الهجوم المُضادّ من قِبَل الأوليغارشيات والأمبريالية الأمريكية. والحال نفسها في الأكوادور وبوليفيا، لعبت الصحافة الاحتكارية دور المُحرّك لخطط زعزعة الاستقرار فيها. 

وبات الهجوم المُنظّم على القيادات يُشكّل نمطاً اقليمياً يعتمد على الأكاذيب والافتراءات والاختلاقات والأحكام المُشينة المُسبَقة مستغلّين تموضعهم المُتقدّم على الساحة الإعلامية وعلى مستوى التكنولوجيا والدعم المالي والصدى الدولي لما يُطلقونه من أكاذيب. وفي بعض الحالات مثل الباراغواي والأرجنتين والبرازيل، فقد كان للتواطؤ مع قطاعات سياسية وهيئات مؤسّساتية قضائية وتشريعية الدور الرئيس. تشافيز، مادورو، كريستينا، ديلما، لوغو، كورّريا وإيفو عاشوا عن كَثَب عمليات واسعة الطيف من صنع وتصميم الولايات المتحدة الأميركية. 

أما بالنسبة إلى البلدان التي لم يصل فيها اليسار بعد إلى الحكم، فنرى كيف أن الصحافة المُحافِظة لا تعطيهم مساحة للمشاركة السياسية وهو الأمر الذي يندرج في إطار جهود النظام لتجريم النشاطات اليسارية وتشويه سمعة قادتها والتّحريض على تقسيمهم. 

وقد يكون المؤسف فعلاً هو ما ترتكبه بعض القوى اليسارية في أميركا اللاتينية من تقليلٍ من شأن نفسها ومن أهمية دور وسائل الإعلام وتأثيرها على مجريات الأحداث، ومن هنا تبرز الحاجة المُلحّة لدقّ ناقوس الخطر حول هذا الموضوع، فالتنوّع والديمقراطية في ملكية وسائل الإعلام لمواجهة تلك التي يحتكرها اليمين حالياً،  يجب أن يكونا في صلب أهداف نضال اليسار الاقليمي والعالمي، من أجل مكافحة الهيمنة الرأسمالية الثقافية والإعلامية السائدة. وبهذه الطريقة تُسدّد الضربة القاضية لإحدى الركائز الرئيسية لحياة اليمين السياسية.

ولا بد في الوقت عينه من أن يقوم إعلامٌ تحرّري يتجاوز المُزايدات والشعارات الفارغة، ويعمل على تطوير فعّالية أنظمة التواصل والإعلام البديل وكذلك الخيارات الإعلامية الأخرى وأن يُبْنى جسر من التعاون في ما بينها، سواء على المستوى الداخلي في البلدان أم على المستوى الاقليمي والدولي، لنشر الحقائق والمواقف والإنجازات التي حقّقتها القوى السياسية والاجتماعية التقدمية وحكوماتها بقوّة أكبر. إضافة إلى ما تقدّم فقد برزت أيضاً كمُهمة مُلحّة وهدف مباشر غير قابل للتأجيل عملية سدّ الثغرة الرقمية في شبكات التواصل الأجتماعي.

هناك العديد من التجارب الإيجابية مثل تيليسور في منطقة أميركا اللاتينية والميادين في المنطقة العربية وغيرها من الشبكات الإعلامية البديلة الأخرى، ومع ذلك فإنها لا تزال غير كافية لمواجهة معركة الفكر في ظلّ  الأنتكاسات الحالية الواضحة. 

وقد قال خوسيه مارتي  خلال الأشهر الأولى من حرب الاستقلال في كوبا والتي تجدّدت في عام  1895  محذّراً : "بالفكر يحاربوننا، فلننتصر عليهم بالفكر أيضاً. يقاتلونا بخطابهم الملتوي، فلنقفل عليهم الطريق بخطابنا الأفضل".