مدينة للناس.. لأهلها

في هافانا، الكثير من مؤسّسات الدولة والاتحادات العمالية والنسائية والوسائل الإعلامية مقارها بيوت أرستقراطية. فخامة معمار هذه المباني تتناقض مع اشتراكية البلاد ومع بساطة العاملين فيها. التفسير الكوبي للأمر بسيط: هذه المباني كانت لحاشية باتيستا أو لأغنياء أجانب تملّكوا في كوبا قبل الثورة.

فخامة معمار هذه المباني تتناقض مع اشتراكية البلاد ومع بساطة العاملين فيها.
لم توزّع المباني على الثوار أو مؤيّدي الثورة، خُصّصت حصراً لما يعود بالنفع على كل الكوبيين لأن الثورة لا تريد إعادة إنتاج نمط الحياة الذي يتميّز فيه كوبي على آخر بما يملك وأين يعيش ولا سيما حين لا يتعب في بنائه.

 

بعد وصول الثوار إلى مشارف هافانا لم يدُم القتال طويلاً في المدينة، وإن تسبّب بمقتل آلاف الفقراء الذين دعموا الثوار القادمين من سييرا مايسترا.  مناصرو الرئيس السابق الذي تعتبره الثورة خيال ظل أميركي في البلاد لم يوفّروا سلاحاً في وجه الكوبيين. بالطائرات والدبابات والرشاشات حاولوا حماية أنفسهم، الثورة كانت أدق وأسرع منهم. دخل الثوار هافانا محمولين على الأكتاف. أحلامهم الكبيرة بكوبا حرّة ومستقلّة لا فقر فيها وتضحيتهم بأرواحهم جعلت الناس يصدّقونهم ويثقوا بهم. انتصرت الثورة ورحل باتيستا وحاشيته ومعهما أغلب الطبقة التي لطالما استفادت من امتيازات اقتصادية خاصة لقربها منه ولعلاقاتها مع الولايات المتحدة.

 

بقيت المدينة كما كل كوبا، للناس، لأهلها. هؤلاء يداً بيد مع الثوار بنوا بلادهم. بنوا بلاداً تشبه بساطتهم وحافظوا على تاريخها بفهم عميق وسليم لمعنى أن تُبنى الأوطان: بالتراكم. حجراً على حجر. حكاية على حكاية وحلماً على حلم.

 

التجريف الذاتي الذي اختارته طبقة المتعاملين مع واشنطن والمناوئين للثورة آنذاك وفّر على الثورة كثيراً من جولات مقارعة واشنطن على الأرض الكوبية. خلت البلاد من البيئة الحاضنة لأية ثورة مُضادّة. إذ لم يبق في البلاد مَن يحمل بذور التبعيّة للأميركان، ومن بقي من الذين لم تعجبهم الثورة كان أمامهم خيار واضح: أن يسبحوا إلى شاطئ ميامي الذي يبعد نحو 330 ميلاً عن بلادهم أو أن يُجذّفوا بقوارب بدائية إلى هناك.

عبر الأمواج المتلاطمة بين اليابستين، جذّف البعض وسبح كوبيون، بعضهم نحو حتفه أملاً بتحقيق الحلم الأميركي.

قانون ما يُعرف بالحق الكوبي في أمريكا أغرى كثر بالثراء السريع ورفاهية الحياة. مَن وصل حُرم العودة إلى بلاده وقلّة حقّقت الحلم الأميركي الهوليوودي التسويق. الهرب من كوبا الذي شجبته واشنطن طويلاً لم يكن وحده دليل تأزّم علاقة هافانا وواشنطن التي جوّعت أبناء كوبا وما أذلّتهم. أزمتا خليج الخنازير والصواريخ النووية وضعتا العالم يوماً على شفير حروب نوويّة ولكن التصعيد الكلامي الحاد آنذاك لم يُترجم عسكرياً.

يشكر المرء الله والأكوان والسماوات أن كوبا الصغيرة الجميلة لم تضطر إلى هزّ أمانها اليومي البديهي لتكون مسرحاً آخر لحروب الأميركيين على أراضي غيرهم.