كوبا.. أرض الألوان والأحلام

كوبا التي ما خانت ثورتها ولا أكلت ذكر محرريها ومقاتليها تستحق أكثر من الحديث عن سيجارها الفاخر وسياراتها القديمة الملونة والمعتنى بها جيداً وأبعد من موسيقاها التي تحرك القلب ومفاصل أي جسد تعب.

مرحلة جديدة تعيشها كوبا مع انتهاء القطيعة مع الولايات المتحدة
أزرق بدرجات أعرفها ولا أعرفها تكشف بأناقة أمام عيني بمجرد بدء الطائرة الروسية الاستعداد للهبوط في مطار هافانا الدولي.

هذا التدرج الجمالي الساحر في ألوان البحر قبالة السواحل الشمالية الغربية لأرخبيل الجزر الكارييية التي تقوم عليها كوبا، خفف فوراً من تعب رحلة استمرت نحو 18 ساعة من بيروت إلى هافانا.
الانتظار لإنهاء معاملات الخروج من مطار خوسيه مارتي كان تحدياً شخصيا لي. أريد أن أخرج إلى كوبا. أحدث نفسي غير مصدقة: هل أنا حقاً هنا؟ وهؤلاء الذين خرجوا من بطن الطائرة بكل ألوانهم وخلفياتهم وغابتهم اللغوية، متى ينتهون من أخذ شنطهم وقصصهم إلى مكان آخر فأخرج إلى كوبا؟ أنا حقا في كوبا؟ متحمسة كطفلة ليلة العيد. أكلني القلق حتى قطعت بوابة الخروج من المطار الذي أهلته كندا قبل سنوات وحمله الكوبيون اسم مارتي الغالي على قلوبهم. هذه شعوب تعترف بفضل محرريها ومفكريها على أمسها ويومها وغدها، فكيف لا تضع بصمتها في التاريخ؟

من المطار إلى الفندق، امتدت لوحة فنية طبيعية أمام عيني. أشجار وحقول مزروعة بعناية وجمال بري متروك لطبيعته. كل تفصيل في المشهد ضروري لتكتمل مشهدية استقبال هافانا لزوارها بخصوصية لا تشبه إلا كوبا. أما النظافة فشأن مذهل بالنسبة للقادمة مثلي من بلاد تأكل الزبالة أرضها وبحرها وتقضم الأوكسجين اللازم ليتنفس ناسها ما يكفيهم للبقاء على قيد الحياة، وأي حياة؟ أحمل نفسي على العودة إلى اللحظة.

أفتح عيني على آخرهما. في رأسي صوت موسيقى أغان عن كوبا وتختلط أمام نظري المشاهد وكلمات القصائد، أما في القلب فتتسع ابتسامة تشي غيفارا الساحرة التي فتنتني كما فتنت الآلاف حول العالم. لا أفهم الإسبانية لكن ابتسامة الكومندانتي مترجمة عالمية بلغة الثورة. الألوان والابتسامات التي ربيت روحي على الإيمان بها والوعود بأيام لا تنسى في كوبا استقبلتني. ماذا تحملين لي بعد يا كوبا؟

قبل نحو 6 عقود، قاتل ألف رجل وامرأة قتال الموت والحياة ضد 80 ألف رجل أحاط بهم الرئيس السابق للبلاد فولجنسيو باتيستا نفسه وحكمه الكاريكاتوري. الرجل الذي كان خيال ظل لسكان البيت الأبيض في واشنطن لم يصمد أمام الثوار المدججين بالأحلام بغد أفضل لشعبهم ولشعوب العالم. رحل ومرحلته من هذا البلد الذي لا تزيد مساحته عن مئة ألف كيلومتر مربع لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ شعوب الكاريبي وأميركا اللاتينية لا زلنا نشهد فصولاً منها حتى اليوم.
بين هؤلاء الحالمين كان تشي غيفارا. الطبيب الأرجنتيني الذي نغص الربو عليه كثيراً من أيامه، لاحق إيمانه بأن على الثورة أن تبقى مستمرة حتى لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء حتى قتل في بوليفيا إثر مؤامرة رخيصة لا ترقى لعظمة أثره في المنجز الإنساني للشعوب.

باتيستا رحل وكذلك تشي لكن الأول إذا ذكر، تصاحب اسمه اللعنات كما يجدر بمن يخون وطناً، أما ذكر الأخير في كوبا فنار لا تنطفئ جذوتها. صوره في كل مكان. سيرته على كل لسان وصغار البلاد ينشدون على اسمه الثوري أغاني الوفاء والحب والرغبة في تتبع خطاه قائداً ومثلاً أعلى جسد أحلام أجيال سبقتهم وأخرى ستلي جيلهم الذي يعيش عصر تحولات كبرى في علاقات جزيرتهم مع جارها اليانكي الأميركي.

كوبا بألوان طبيعتها وبيوتها البسيطة المفتوحة الأبواب وملابس ناسها وتركيبات الميلانين، أو الصبغة اللونية البشرية، في جلودهم كلها أمامي ولأيام سبع لأرى فيها أسراراً تبدو عصية على البعد ولأنهل مع ناسها من أحلام أوسع من بحر وأكبر من جبروت من يصفها القادة الكوبيون حتى اليوم بالامبراطورية التي تبعد سواحلها أقل من ربع ساعة بالطائرات عنهم.

كوبا التي ما خانت ثورتها ولا أكلت ذكر محرريها ومقاتليها تستحق أكثر من الحديث عن سيجارها الفاخر وسياراتها القديمة الملونة والمعتنى بها جيداً وأبعد من موسيقاها التي تحرك القلب ومفاصل أي جسد تعب.
كوبا التي لا زلت لا أصدق أني فيها، تستحق الاكتشاف، بعين الصحافي وقلب الإنسان والأهم بعقل المدرك رمزية صمود ثورة كوبا ومعنى التحولات الكبرى التي تعيشها في هذه اللحظة التاريخية التي ستغير حياة أحفاد تشي وفيديل ورفاقهم الذين حلموا أحلاماً كبيرة ورووها بدمائهم ليتغير وجه العالم.