أسئلة مُلحّة باتت بحاجة إلى إجابات

سوريا قلب الأمة النابض، ومهد الديانات السماوية، الضارِبة جذورها الحضارية في عُمق التاريخ ، بحاجة اليوم لاجتراح مشروعها القومي الحضاري العلماني الجامع الموحّد لكل ابنائها، الذي يجب أن يشكّل النموذج الأهم في المنطقة ، والقاطرة الأولى لقطار التغيير الحقيقي في كل العالم العربي بحيث تستعيد عبر هذا المشروع دورها الحضاري الريادي في عالمها العربي والعالم أجمع. سوريا بوطنيّة شعبها وجيشها وقيادتها، وبصلابة وحدتها الاجتماعية والروحية (رغم الجِراح التي أصابتها) هزمت مشروع التكفير الصهيو أميركي الذي نظَر (لحتمية صراع الحضارات والثقافات والديانات) وقدّمت نموذجها الخاص للعالم العربي وللعالم أجمع بالعيش المشترك ووحدة الحياة و(حتميّة حوار الحضارات والثقافات والديانات لا صراعها، والتي هي مهدها).

صورة أرشيفية

إن إحدى نتائج الحرب في سوريا وعليها هي سقوط حدود "سايكس-بيكو" التي مثلت أكبر كارثة قومية وجيو-سياسية أصابت أمّتنا وقسّمتها لضرب الوحدة والقومية الاجتماعية والسيطرة على مواردها وسيادتها كمقدّمة لزرع الكيان الإسرائيلي الغاصِب، التي عانت أمتنا ولا تزال تعاني ويلاته طيلة مئة عام .  "الإيجابية" الوحيدة التي حقّقها داعش أنه أسقط حدود "سايكس-بيكو" التي استنفد حلف "النهب" الأميركي أهدافه منها. والمقاومة وحلفاؤها أيضاً أسقطوا حدود "سايكس-بيكو" عبر الجرود اللبنانية السورية وعبر الحدود السورية العراقية لضرورات الجغرافية العسكرية للمواجهة. فحين يكون مسرح قتال داعش وأخواتها يشمل العراق وسوريا ولبنان بقيادة غرفة عمليات واحدة، يكون ردّ محور المقاومة بنفس الأسلوب مُتّحداً مُتضامناً تحت عنوان وحدة المصير والمسار، كما يسمّونه، والذي نسمّيه نحن المصير القومي الواحد. ففي حرب الوجود تسقط كل الموانع والحدود. وهذا يستدعي منا الإجابة عن الاسئلة التالية:

 

- ما هي الخرائط الجغرافية التي سترسو عليها الأمّة بعد سقوط "سايكس-بيكو" ونهاية الحرب على الإرهاب؟ هل ستُفتت "سايكس-بيكو" مذهبياً وعرقياً أم سنعود إلى حدودها القديمة؟ أم إلى ما قبلها؟ أم إلى حدود جديدة ترسمها التسويات؟ وما هو دور سوريا ومحورها المقاوم في صوغ هذه التسويات ورسم حدودها خاصة أنه بات على قاب قوسين من النصر بقيادة عملاقة رسمت استراتيجية موحّدة للمقاومة والحرب والأمن والمصير القومي الواحد؟. هل ستفرض سوريا ومحورها استراتيجية بناء قومية جديدة مُتكامِلة لمرحلة ما بعد الحرب تُعالج الثغرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية، التى سمحت للمؤامرة أن تنفذ منها خاصة إن التسويات ترسمها أقدام المقاتلين وموازين القوى على الأرض، وسوريا ومحورها كانا الأساس في تحقيق الانتصار ودفع التضحيات؟ ما هو شكل الدولة السورية الجديدة؟ وما هو نظامها خاصة أن الفيدرالية هي أحد المشاريع المطروحة لمستقبل سوريا؟ (والفيدرالية على أساس مذهبي أو عرقي أو اثني هي مقدّمة للتقسيم)

  • النتيجة الثانية للحرب في سوريا هي سقوط الشعارات الواهية التي رفعها حلف المتآمرين وأدواتهم لتغطبة الحرب على سوريا، وبروز الأهداف الحقيقية للحرب ألا وهي إزاحة الحّكم الممانع في سوريا بقيادة الرئيس الأسد المُتحالف مع روسيا وإيران، ليسهل تفتيت سوريا وتغيير موقعها في الصراع كمقدمة لتفتيت المنطقة اثنياً ومذهبياً والسيطرة عليها، ومنع إيران من إيصال غازها إلى المتوسّط ودعم المقاومات، ودفع روسيا خارج حافة اليابسة وحرمانها من قاعدة طرطوس العسكرية القاعدة الوحيدة لها في المياه الدافئة. ونظراً لأهمية موقع سوريا الجيو-استراتيجي كملتقى لثلاث قارات، وعقدة طرقها الطاقوية، وبوابة سكك الحديد وطريق الحرير الصينية العابرة للقارات إلى أوروبا. هذا الموقع بات يُمثّل قلب العالم ونقطة صِدام جيواستراتيجي خاصة بعد المشاريع الصينية الروسية لآسيا كي تكون قارة القرن الـ 21. وبعد الاكتشافات الغازية والطاقوية التي رشّحت سوريا أن تكون ثالث دولة منتجة للغاز (الطاقة النظيفة للقرن الجديد)، وبات مَن يتحكّم بسوريا يتحكّم في رسم مصير قارة آسيا والعالم . من هنا رأينا شراسة صِدام المشاريع الاقليمية والدولية في الحرب السورية التي كادت أن تؤدّي إلى حرب كونية ثالثة لولا التوافق الأميركي مع روسيا في هامبورغ في قمّة العشرين.
  • في ظل غياب المشروع القومي الذي يُحاكي هذه التطوّرات ، يأتي السؤال التالي: أين هو المشروع القومي الحضاري والجيوسياسي والاقتصادي الجديد لسوريا الذي يحمل رسالتها الحضارية لعالمها العربي وللعالم ، ويُعبّر عن تطلّعات أبنائها ومصالحهم القومية والطاقوية والاقتصادية المُنسَجم مع بروز أهمية موقع سوريا الجيوسياسي المفصلي والحاكم في مشاريع القرن الاقتصادية الآسيوية (الصينية الروسية الإيرانية)، والتي تمثّل (سكك الحديد السريعة وأنابيب الطاقة وحفر القنوات المائية التي تختصر المسافات بين الدول والقارات سمة هذه المشاريع)، خاصة بعد انتقال مركز الثقل الاقتصادي من الغرب إلى الشرق وبات الشرق قبلة العالم؟

سوريا قلب الأمة النابض، ومهد الديانات السماوية، الضارِبة جذورها الحضارية في عُمق التاريخ ، بحاجة اليوم لاجتراح مشروعها القومي الحضاري العلماني الجامع الموحّد لكل ابنائها، الذي يجب أن يشكّل النموذج الأهم في المنطقة ، والقاطرة الأولى لقطار التغيير الحقيقي في كل العالم العربي بحيث تستعيد عبر هذا المشروع دورها الحضاري الريادي في عالمها العربي والعالم أجمع. سوريا بوطنيّة شعبها وجيشها وقيادتها، وبصلابة وحدتها الاجتماعية والروحية (رغم الجِراح التي أصابتها) هزمت مشروع التكفير الصهيو أميركي الذي نظَر (لحتمية صراع الحضارات والثقافات والديانات) وقدّمت نموذجها الخاص للعالم العربي وللعالم أجمع بالعيش المشترك ووحدة الحياة و(حتميّة حوار الحضارات والثقافات والديانات لا صراعها، والتي هي مهدها). وأثبتت بأن المخطط الذي ضرب سوريا وسقط فيها يمكن أن يسقط في أيّ مكان آخر في العالم، فأميركا ليست قدراً لا يُردّ، بل إرادة الشعوب المسلّحة بالإيمان والوعي هي القضاء والقدر.

  • النتيجة الثالثة للحرب هي فشل استراتيجية (الجيل الرابع من الحروب) وهي الحرب الناعِمة والحروب بالوكالة التي فجّرتها أميركا عبر أدواتها الإسلام السياسي الوهّابي والأخواني الذي ولّد القوى التكفيرية للانقضاض على سوريا، ورغم تجنيدها بروبغندا إعلامية ضخمة من الفضائيات العربية للترويج لـ "الهلال الشيعي"، أو "البدر الشيعي" اليوم بإضافة البحرين والشمال السعودي إليه، وإطلاق الحرب السنّية الشيعية لتعبئة التكفيريين من كل أصقاع العالم واستجلابهم إلى سوريا لزرع "دولة" داعش (وفق تصريح هيلاري كلينتون). إلا أن داعش فشل في الصمود أمام محور المقاومة وخرج عن الضوابط الموضوعة له، وبات خطراً على مشغّليه وعلى العالم والإنسانية جمعاء. وأعطى أيضاً نتائج عكسية على أميركا ومشاريعها في المنطقة. فمشروع إطلاق الإرهاب التكفيري في سوريا لمواجهة الهلال الشيعي، كما ادعوا، لم يهزم إيران بل هزم مشروع المقاومة المدعوم إيرانياً أميركا وحلفاءها، وباتت إيران دولة اقليمية عُظمى على أنقاض مصالح أميركا. واستعجل مشروع إطلاق الإرهاب في سوريا الدخول العسكري الروسي المباشر بالحرب خريف عام 2015 لضرب الإرهاب في سوريا قبل تمدّده إلى روسيا. وعبر هذه الحرب استطاعت روسيا أن تتحكّم بلعبة الغاز العالمية وتحمي سوقها في أوروبا، وتستعيد دورها كدولة عُظمى تُقارع أميركا على مناطق النفوذ في العالم خاصة في أوراسيا، وتقوّض النظام العالمي الأحادي القطب لمصلحة نظام متعدّد الأقطاب قيد التشكل. وأمام هذا الفشل الذريع للمشروع التكفيري وأسياده، وسقوط مواقعه أمام ضربات سوريا وحلفها المقاوم، وأمام إصرار سوريا وحلفها على الحسم العسكري غير آبهين بالخطوط الحمر الأميركية، اضطرت أميركا للتوافق مع روسيا على ضرب الإرهاب وتلزيمها إنضاج التسوية بعد أن بتنا على قاب قوسين من هزيمة الإرهاب الكاملة عسكرياً في سوريا، بات السؤال المطروح الآن:
  • ماذا بعد داعش؟، ماذا بعد فشل الإسلام السياسي الأخواني والوهّابي؟ هل سيختفي التطرّف الإسلامي الذي يُمثّله فكْر هذا التنظيم بعد هزيمته العسكرية؟ أم ستبقى الأيديولوجية على قيد الحياة طالما بقيت منابعها ومصادر تمويلها في الوهّابية السعودية، تتمظهر في شكل ما من الحروب الأميركية (غبّ الطلب) في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط؟ وهل لا زال بالإمكان تسويق الإسلام السياسي بعد فوبيا الخوف من الإسلام ووصمه بالإرهاب، بعد العمليات الإرهابية في الغرب؟ هل هزيمة داعش تتم عسكرياً؟ أم بإبراز أن هذا الفكر المتطرّف لا علاقة له بالإسلام الحقيقي السّمِح؟ أين دور الأزهر الشريف هنا وأين دور المدارس الصوفية؟ كتبت مؤسّسة راند الأميركية للدراسات تقريراً خطيراً عام 2007 عن أي إسلام تريده أميركا. بعد سنوات قليلة أطلق ما سُمّي بالربيع العربي. وبعد زيارة ترامب للسعودية أسّس أكاديمة لتدريس "إسلام جديد" تريده أميركا لمرحلة ما بعد داعش. أليس من حقنا أن نسأل أي إسلام يلائم سوريا لمرحلة ما بعد الحرب. إذا كان الدين هو المحرّك الأساسي لهذه الحرب، ولكل الحروب السابقة الذي عبْر استغلاله استطاع الغرب شنّ حروبه على أمّتنا، أليس واجب علينا أن نُعطّل استغلال هذا المُحرّك بالفصل الكلّي بين الدين والدولة، وإطلاق فكر علماني جامِع موحِّد يُلغي الحواجز بين مختلف المذاهب والطوائف، ويقيم الدولة المدنية العصرية الحرّة القوية العادلة التي تُحقّق مفهوم المواطِنة والمساواة بين كل مكوّنات المجتمع وتساهم في صون وحدته، وتطمئن الأقليات في سوريا التي تعيش هاجس القلق والخوف جرّاء التصفيات على الهوية والتهجير، وتقيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج مكان الاقتصاد الريعي، وتحقّق العدالة الاجتماعية، وتضرب الاحتكار والفساد والمُفسدين، وتُعيد إنماء الريف الزراعي بتحقيق الإنماء المتوازِن لتأمين الاطمئنان والعيش الرغيد للمواطنين.

 

ختاماً، إن سوريا ذات الحضارة الضارِبة جذورها في التاريخ لأكثر من 6000 عام قبل المسيح، أمّ الشرائع، مهد الديانات السماوية، قلب الأمّة النابِض، سيف العالم العربي وترسه، ليست دولة فقط بل هي دور ورسالة. التحدّي هنا كيف تنهض سوريا (كطائر الفينيق) بعد الحرب بهذا الدور وهذه الرسالة كأمّة موحّدة هادِية مُعلّمة للعالم العربي وللأمم جمعاء، وكيف تثبت أنها أمّة ترفض أن يكون القبر مكاناً لها تحت الشمس.