بين العقوبات الغربية والفكر الثوري في إيران

بعد هذا العرض للأرقام والرؤى الإقتصادية المختلفة لا بدّ من الإشارة إلى أن العقوبات لم تكن يوماً بسبب تطوير إيران لقدراتها النووية، إذ في 23 فبراير 1975 (إبان حُكم الشاه) وُقّعت اتفاقية لبدء التعاون النووي بين إيران وفرنسا على أن تستلم فرنسا قرضاً بمليار دولار من إيران.

من يعيش في إيران يعرف أن العقوبات فرضت لتستهدف الثوري والمقاوم للشعب الإيراني

في 13 من تشرين الثاني الفائت وقبيل تفعيل العقوبات الأميركية الأخيرة على طهران طالعنا مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي الحالي بتصريح لفوكس نيوز مؤكّداً أن العقوبات لن تؤذي الشعب الإيراني، ولكن قبل ذلك بيومين كان البيت الأبيض قد أعلن بأن العقوبات سوف "تخنق" الإقتصاد الإيراني. أسطوانة الإزدواجية هذه رافقت معظم الإدارات الأميركية السابقة. على أية حال لغة الأرقام كفيلة بتوضيح كل شيء:

تغيّر مؤشرات الإقتصاد الإيراني تزامناً مع العقوبات الغربية بين عامي 1989- 1997

 

الغرب يُحارب العقيدة الإقتصادية الإصلاحية ويساهم في تكريس سيكولوجية الإقتصاد المقاوِم

نظرة تحليلية سريعة على بيانات الجدول أعلاه يمكن أن تخلص بنا بوضوح إلى تأثير العقوبات على مؤشّرات اقتصادية مرتبطة بالشعب الإيراني مباشرة، كما يمكن ملاحظة تفاوت تأثير هذه العقوبات بين الفترات الرئاسية المختلفة، وطبعاً هذا مردّه للسياسات الإقتصادية المُتفاوتة لكل رئيس وفريقه السياسي.

فمنذ إنطلاق إيران الثورة ارتكزت معظم الحملات الإنتخابية للتيارين المحافظ والإصلاحي على عناوين إقتصادية متشابهة تقريباً من قبيل النهضة الإقتصادية ، وزيادة النمو والحد من التضخّم والبطالة وغيرها، إلا أن ما ميّز الإصلاحيين إيمانهم بإمكانية اعتماد الإنفتاح على الغرب لفكّ القيود الإقتصادية.

وبحسب البيانات الإقتصادية أعلاه ومتابعة التطوّرات السياسية المُرافقة (الملاحظات) نجد أن الغرب الذي طالما لمّح لدعمه التيار الإصلاحي (وخصوصاً في فترة خاتمي) بصورة أو بأخرى هو مَن أفشل حكومات هذا التيار إقتصادياً بالعقوبات وغيرها من سياسات التضييق ونكث العهود.

من ناحية أخرى يبدو واضحاً أن فترة حُكم أحمدي نجاد (المحسوب على المحافظين) شكّلت شبه ثورة إقتصادية غير مسبوقة في تاريخ إيران الثورة، حيث تضاعف الناتج المحلي إلى أكثر من ثلاثة أضعاف ما كان عليه، هذا ناهيكم عن النهضة العمرانية وتحرّك العجلة الإقتصادية والعقارية في البلاد في دورة حكمه الأولى على وجه الخصوص رغم تعرّض حكومته لأشدّ العقوبات الإقتصادية هو الآخر.

وهنا لا يمكن إلا أن نُعرّج على مفهوم الإقتصاد المقاوِم الذي نظّر له المرشد الخامنئي منذ قرابة العقد من الزمن. وهو إقتصاد يقوم على الإستقلالية عن الخارج بتقوية ودعم الطاقات المحلية والمُنتَج المحلي لتحقيق الإكتفاء الذاتي على كافة الأصعدة، وهو من ناحية لا يتطابق مع الفكر الإقتصادي الإصلاحي المُنفتح على الخارج إقتصادياً في جزء منه، ومن ناحية أخرى يخرج من الثقافة الوطنية وسيكولوجية الشعب الإيراني المبنية على روح الجهاد والقناعة والاقتصاد في النفقات في حالتيّ الحرب والسلم.

بعد هذا العرض للأرقام والرؤى الإقتصادية المختلفة لا بدّ من الإشارة إلى أن العقوبات لم تكن يوماً بسبب تطوير إيران لقدراتها النووية، إذ في 23 فبراير 1975 (إبان حُكم الشاه) وُقّعت اتفاقية لبدء التعاون النووي بين إيران وفرنسا على أن تستلم فرنسا قرضاً بمليار دولار من إيران.

وكذلك لم تكن يوماً بسبب ما تمتلكه إيران من قدرات تسليحية ، فوفقاً لقاعدة بيانات نقل الأسلحة التابعة لمؤسّسة "ستوكهولم الدولية لأبحاث السلام" والتي جمعت كل عمليات نقل الأسلحة التقليدية الرئيسية في العالم منذ العام 1950، كانت الولايات المتحدة، هي أكبر مصدر للأسلحة إلى إيران الشاه من فترة الخمسينات إلى السبعينات  في القرن الماضي.

ومن يعيش في إيران يعرف جيّداً أن العقوبات فُرِضَت لتستهدف لقمة عيش الجميع لا فئة من دون أخرى بهدف دفن الفكر الثوري والمقاوِم للشعب الإيراني الرافِض لكل أشكال التطبيع مع الإستعمار الحديث، لذا تطال العقوبات اليوم كل ما يستهلكه المواطن، من دواء وغذاء وحتى المواد الأوليّة للصناعات الأساسية، وبطبيعة الحال التضخّم الناتج من العقوبات أدّى إلى رفع أسعار الخدمات والسلع المُتبقية وبالتالي إضعاف القدرة الشرائية للمواطن.

في ظل ما ورد يتبقّى على المُمسكين بزمام الأمور الإجرائية في إيران أن يحسنوا إدارة الصراع بالإدارة والتخطيط والرقابة والحذر ليعطوا للشعب الطمأنينة ليُكمل معركة صموده، ولمَن خلف الكواليس الوقت اللازم لبناء ما تبقّى من دعائم وأساسات الصمود لا بل ربما الهجوم ، وبالتالي حفظ الثورة، لأن الأميركي بوجهه الترامبي بات يقولها جَهارة وبالكلمة الصريحة نريد "خنق" إقتصادكم والعين على إخماد ثورتكم.