نصرالله 2019 وجه جديد، ووعد آخر

إنّ كلّ مَن يراقب الوضع في لبنان يُدرِك أنّ الواقع الإقتصادي وصل إلى المرحلة الأكثر خطورة، وذلك بعد أكثر من ثمانية وعشرين عاماً من تطبيق الرؤية الاقتصادية، والسياسات العشوائية المُتخلّفة التي أدّت إلى تحميل الشعب اللبناني أكثر من مئة مليار دولار، مع خدمة دَين سنوية مُتراكمة تصل إلى أكثر من خمسة مليارات دولار يستفيد منها المودعون الكبار والمُفسدون والمصارف والكارتيل المالي في مقدّمهم، وذلك من دون أيّ إنجاز خدماتي واضح، حتى الكهرباء والنفايات لم يجدوا لها حلولاً.

يُدرِك السيّد نصرالله أنّ الحصار المفروض على المقاومة، والضغط الكبير على الاقتصاد اللبناني، يهدفان إلى إضعاف بيئة المقاومة وضعضتها

بعد مخاض عسير ومُناكفات ومُزايدات ولِدت الحكومة الجديدة التي أطلق عليها رئيس الجمهورية حكومة العهد الأولى.. دعونا نهجر النقّ والتحبيط لبرهة، إلى ما هو أكثر أهمية. لعلّنا نتلمّس نوراً ضئيلاً في هذا الليل المظلم، ونمنح لأنفسنا بعضاً من أمل.
بعد طول غياب، وفي أقل من أسبوع يخرج السيّد حسن نصرالله على الجمهور ويتكلّم بصراحةٍ ووضوح ٍعلى الوضع الداخلي، ويتحدّث عن ملفات معيشية واقتصادية بالتفصيل، وفي ذلك دلالة وإشارة إلى مُقاربة مختلفة للواقع الحكومي والسياسي الذي طالما نأى السيّد نصرالله والحزب عن الدخول في تفاصيله و"حساسيّته" وربما مشاكله وتعقيداته.
قد يكون سبب المُقاربة المختلفة للسيّد نصرالله عائدٌ إلى جملةٍ من الأسباب:
أولها: إنّ كلّ مَن يراقب الوضع في لبنان يُدرِك أنّ الواقع الإقتصادي وصل إلى المرحلة الأكثر خطورة، وذلك بعد أكثر من ثمانية وعشرين عاماً من تطبيق الرؤية الاقتصادية، والسياسات العشوائية المُتخلّفة التي أدّت إلى تحميل الشعب اللبناني أكثر من مئة مليار دولار، مع خدمة دَين سنوية مُتراكمة تصل إلى أكثر من خمسة مليارات دولار يستفيد منها المودعون الكبار والمُفسدون والمصارف والكارتيل المالي في مقدّمهم، وذلك من دون أيّ إنجاز خدماتي واضح، حتى الكهرباء والنفايات لم يجدوا لها حلولاً.
ثانيها: الواضح من السياق العام أن المواطن والطبقات الوسطى والفقيرة هي التي تتحمّل فقط أعباء المشكلة الاقتصادية وخدمة الدَين، وما زالت سياسة مصرف لبنان تُكابِر، وتضع مصلحة "المافيات المالية والمصرفية" في مقدّمة رؤيتها وسياستها. لذا نرى هذا التفاقم الكارثي للمشكلة الاجتماعية بشكلٍ قد يؤدّي إلى انفجارٍ اجتماعي واسعٍ وعابرٍ للطوائف جرّاء هذه الأزمة، ولم يعد باستطاعة الشعب تحمّل المزيد من الضرائب المُجحِفة التي بشَّر بها رئيس حكومة "إلى العمل" سعد الحريري عندما أوحى أنّنا بصدد قرارات صعبة ستتّخذ للخروج من الأزمة، هذه القرارات الصعبة ، لن تطال كبار المُتموّلين ومعهم المصارف، بطبيعة الحال، وسيتم إعفاؤهم من الإسهام، ولو في تحمّل جزء من حل المشكلة الذين كانوا- وما زالوا- الأكثر استفادة منها. وما إن تفوّه وزير المال علي حسن خليل بكلمات قصار مُحقّة عن النيّة في "إعادة هيكلة الدَين" حتى قامت الدنيا عليه، ولمّا تقعد بعد، لأنه حاول أن يوحي أنّ على المصارف أيضاً تحمّل جزءٍ من مشكلة البلد الإقتصادية. وهذا مؤشّر إلى أنّ طَرْقَ بابِ هذه المجموعة "الفاجِرة" سيواجَه بالتخوين والتآمُر على اقتصاد البلد وسمعته.
ثالثها: على مشارف نهاية الحرب السورية، بدا أنّ المقاومة في طور مرحلة جديدة، وإنّ الالتفات إلى الداخل صار إحدى الأولويات في رؤيتها.
رابعها: لقد أخذ الفريق الاقتصادي- السياسي الذي تحكّم منفرداً بالسياسة الاقتصادية للبلد الفرصة تلو الأخرى منذ العام 1992 وتبيّن عُقم رؤيته، بل وكارثيّتها، وهذه النتيجة نراها أمامنا اليوم، والبلد يسير نحو الخراب، وتهجير الشباب، ومُراكمة الدَين، وانتشار الفساد، والوصول بالدولة إلى حافّة الهاوية. لذا على الجميع إفساح المجال للآخرين بتقديم الحلول لمُعالجة المشكلة، ولا أعتقد أنّ وضع العراقيل والتذرّع بحِجج واهية قد يؤتي أُكُله، لأنّ الخطر بات يتهدّد الجميع، ولم يعد هناك من مجال لمزيد من الدّلع، من ناحية، ولا مزيد من إعطائهم الفُرَص، وغضّ النظر عن ارتكاباتهم من ناحية ثانية.
خامسها: يُدرِك السيّد نصرالله أنّ الحصار المفروض على المقاومة، والضغط الكبير على الاقتصاد اللبناني، يهدفان إلى إضعاف بيئة المقاومة وضعضتها، لكي تنفضّ الناس عنها، وتشكّل ضغطاً عليها، ما يجعل الانقضاض عليها أكثر سهولةً، طالما أنّ همّ الناس والجمهور في مكانٍ آخر، وهو تأمين لقمة العيش المفقودة، وفاتورة اشتراك المولّدات، ودفع أقساط المدارس، ناهيك عن الفاتورة الصحيّة، وليس الدفاع عن الأرض في مواجهة أيّ عدوان. ويشكّل استمرار النهج الاقتصادي في البلد على المنوال نفسه تماشياً مع هذا الهدف الأميركي- الإسرائيلي بتحطيم الإنجازات جميعها التي حقّقتها المقاومة في العقود الماضية، وآخرها ضرب مشروع الشرق الأوسط الكبير في مقتل، وبناء منظومة ردع فاعِلة للدفاع عن لبنان من أيّ عدوان إسرائيلي. وهذا الأسلوب الأميركي المعروف استخدِم ويُستخدَم منذ عقود كثيرة مع خصوم الولايات المتحدة وأعدائها. وما لم يستطيعوا أخذه بالقوّة، يحاولون أن يحصلوا عليه عبر الانهيار الإقتصادي الاجتماعي في لبنان. لذا فإنّ تقاطع المشروعين أصبح واضحاً، والحصار المفروض على المقاومة وأهلها من الداخل والخارج يحقّق الغرض نفسه، والسيّد نصرالله مُدرِكٌ لهذه الحقيقة، والأكيد أنه غير مستعدٍّ للتفريط بالمقاومة وإنجازاتها، وبالتضحيات الجِسام التي قُدّمتْ، كرمى لعيون ثلّةٍ من السرّاق والمُفسدين، الذين يتآمرون على البلد، ويخدمون أهداف العدو، من حيث يدرون أو لا يدرون. لذا ستشهدُ المرحلة المقبلة صراخاً وعويلاً للمُتضرّرين من مشروع مُحاربة الفساد.. إذا ما أكمل طريقه.
الفرصة الأخيرة
تمثّل المرحلة الحالية الفرصة الأخيرة لمحاولة النهوض في البلد، وفي منع الانهيار الكبير الذي قد يؤدّي إلى كوارث اجتماعية واقتصادية وإنسانية، وهذا ما حاول السيّد نصرالله أن يعمل عليه، ويدعو إلى الانتباه إليه وتفاديه، فعندما يقف السيّد على المنبر وأمام الجماهير ووسائل الإعلام، وفي لحظةٍ مفصليةٍ حساسةٍ، قبل الانتخابات النيابية، وفي غير منطقة، ويَعِدُ أنه سيقف مع الناس في لبنان في مواجهة المُفسدين، فإنّه يحمل على كاهله وعداً ثقيلاً، ويضع نفسه محلّ مُساءلة من جمهوره، بغضّ النظر عن الظروف التي ستواجه مشروعه لمحاربة الفساد، وهذا شيء مُتوقّع من نظامٍ وطبقةٍ سياسيةٍ اعتادت أن تفعل ما تريد في المال العام، من دون حسيب ولا رقيب، مُتّكئة على غير عامل إقليمي حيناً ودولي حيناً، وطائفي في الأحيان جميعها. وإلا سيكون الموقف أكثر إحراجاً أمام الناس في أية محطة مقبلة.
تشي المرحلة الحالية بأنّ "الغُنج والبهلوانيات" التي تمارسها معظم الطبقة السياسية، ولا سيما من كان مسؤولاً عن الملف الاقتصادي في لبنان قد انتهى، وأنّ الناس تطالب بالحلول الواضحة، غير القابلة للتأويل والاجتهاد، والفلسفة والتسويف. والناس تطالب المقاومة بالوقوف معهم، وهم الذين لم يقصّروا معها في المراحل الصعبة.
لذا نحن أمام مشهد مختلف، في الشكل وفي المضمون، إذ ضيّق السيّد المجال والفرصةً لرفض ما قدّمه- كدفعة أولى- في موضوع الكهرباء وغيره على سبيل المثال لا الحصر، لأنّ الأمر جدّي وغير قابل للمُزايدات، ومن لديه أيّ اقتراح آخر، عليه تقديمه أمام الرأي العام، بعيداً من "العَلْك" التقني والسياسي الذي سمعناه منذ العام 1992 في موضوع الكهرباء وغيره، فذلك لم يعد قابلاً للصرف عند اللبنانيين، فإذا كانت الولايات المتحدة مُعترضة على ما تنوي إيران وغير إيران إذا وُجِد، تقديمه، فلتتفضّل، ولتشمّرْ عن سواعدها، وتقدّم الحلّ الناجِع والسريع، وبالكلفة الزهيدة نفسها التي سترفع عن كاهل الخزينة حوالى ثلاثة مليارات دولار في العام الواحد، وهو مبلغ يحتاجه البلد لإطفاء خدمة الدَين، والعمل على سدّ العجز الفادِح في الموازنة.
إنّ مشهد حرق المواطن جورج زريق نفسه، وأمام الملأ بسبب قِصْر يده عن دفع أقساط ولديه في المدرسة، سيكون حاضراً في أذهان كل اللبنانيين، لأنّ العشرات إن لم نقل المئات مستعدّون لإحراق أنفسهم، وربما غيرهم، إذا ما وصلت الأمور إلى لقمة عيش عائلاتهم، وهم يشاهدون طبقة الفاسدين وأبناءهم وبناتهم يتنعّمون بأموال الشعب في ملاهي بيروت وأوروبا وعلى متن يخوتهم الفاخرة.
يعلم الجميع أنّ الانهيار الاقتصادي في لبنان -إذا حصل- لن تتضرّر منه الطبقات الفقيرة والمتوسّطة فحسب، والفوضى التي ستعمّ، ستطال الجميع، من مصارف وشركات وفنادق وممتلكات وغيرها، لأنّه في زمن الفوضى، وفي زمن الجوع لن يكون مُتاحاً التنظير والدعوات إلى ضبط النفس، والعضّ على الجرح، حفاظاً على الوحدة الوطنية والعيش المشترك، وباقي المعزوفة الممجوجة. لقد اتُهمت المقاومة وغيرها، في غير مناسبة أنّها تريدُ تغيير اتفاق الطائف، وقد يصبح الاتهام واقعاً في حال دخل البلد في مرحلة الخراب، لأنّ من المنطقي في أعقاب أية حرب، أو انهيار اقتصادي كبير، أن يتمّ الاتفاق على عقدٍ اجتماعي جديدٍ، ولن يكون البكاء على اتفاق الطائف مُجدياً حينها. ولاتَ ساعة مندمٍ.