نيوزيلندا: مجزرة أم مُعضلة عالمية

ما جرى يوم الجمعة 15 آذار 2019 في نيوزيلندا، لن يقلَّ تأثيره عما وقع في اليوم ذاته سنة 2011 في سوريا وانعكاساته عليها. حيث انقلبت الرزنامة السورية وحدها، وأقبل يوم جديد بعدها، حمل موازين ومعايير غريبة أرجعتنا إلى 11 أيلول 2001.

جريمة قتلت 49 مؤمناً مسلماً وشرَّدت وستشتّت وعشرات آلاف أو أكثر ذهنياً

هذه من التواريخ التي لا يجوز أن تُمحى ولن تُنسى لأسبابٍ قلَّ نظيرها وكَثُرَ عددها. فالجريمة التي اِرتُكِبَت في مسجدي نيوزيلندا هي المؤشّر الأبرز إلى سياسات الدول المنحرفة المتطرّفة، التي تقدِّم أكبر خدمة مقصودة (ليس همجية أو وهمية أو مفتعلة) للإرهاب نفسه. 

فسياسات الدول الكبرى التي تدَّعي أنها الوصي على باقي دول العالم، هي التي تحمل وزر إنسان اعتمر كاميرا على رأسه وامتطى بندقيته ودخل إلى مسجدين فقتل 49 شخصاً في مدينة نيوزيليندية انتكبت مرتين بزلازل. هذه المجزرة ستؤسّس لمفاصل ومفصليات جديدة في المستقبل القانوني الجزائي الدولي؛ وستفتح أبواباً على علم النفس الإجرامي الدولي. فبرودة دم المجرم عند ارتكابه وسماعه الموسيقى، من الأدلّة الواضحة على غاياته الإجرامية الأبعد من القتل ذاته.

فإزهاق نفس إنسان حيّ من دون نفس أو فسادٍ في الأرض، ينبئنا أن العالم مقبل على مستقبلٍ جديد بعيد المدى قريب التحقّق. نقل المجرم مجزرته هذه على صفحة الفيس بوك؛ كي يتحدّى العالم أجمع وليس من السهل بل الصعب جداً مُجابهة هذه المُعضلة المتأزّمة ذات الأبعاد الدلالية العميقة التي قد لا يسبغ غورها.

هي ليست جريمة مسيحي ضد مسلمين أو إسلام، بل عبء وخزان من الذاكرة البشرية المتراكمة المحفّزة على ارتكاب الإرهاب كردّةِ فعل على وطأة تاريخ قريب لم يبدأ بـ11 أيلول بل تجلّى عندها. كما أنه تجسيد لسياسةٍ دولية عامة حالية قائمة بحد ذاتها، تنطلق إلى الناس وتنتقم منهم.

هي جريمة قتلت 49 مؤمناً مسلماً وشرَّدت وستشتّت عشرات وربما معيشياً وعشرات آلاف أو أكثر ذهنياً. فهذه المجزرة جرحٌ مفتوح ستنزف دماء توتّر حسّاسية أثارته وأثاره على صعد عدّة.

إذ لم يعد يصلح أن نعتبر المجرم معتوهاً أو مجنوناً أو سفيهاً أو ذي غفلة. هذه التشاركية الإجرامية الباردة التلقائية المفتعلة المشرعنة لمثل هذه الجرائم، لم تعد خياراً معلّباً مقبولاً جاهزاً. فهذا المجرم ليس جانياً وضحية في الوقت نفسه، بل هو جانٍ لـ49 نفساً طاهرة بكل إصرار متعمّد، لشخص ارتدى بندقيته وجعلها في رأسه فتشرّب واقعيتها وسربلها بمنطق قوة الجُبن المسلّح بنار يطلق شرارته صراع وصراخ الحضارات الدفين هذا.

لكن القاتل يمثل نفسه ويعبِّر عن سلوكيته الإجرامية، فلا يجوز أن تزر وازرة وزر أخرى، فكل جريمة ترتكب من هذا النوع، يجب أن يتم التضييق على آثارها. فهذه جريمة حساسة من حيث النواة، وأسبابها سياسية لذا يجدر بحث الإهداف لإجراء خطى استباقية ردعية درئية للنتائج الكثيرة الكبيرة العميقة الكارثية التي قد تتمخّض عن مثل هذه التحرّكات والحركات التي قد تلوذ بالبشرية جمعاء من أقاصي الأرض إلى أقاصيها. فنتائج الجرائم السياسية قد تفوق كارثيةً فحوى هذه الجرائم ذاتها، فمجزرة نيوزيلندا قتلت مجموعة مؤمنة مصلّية، لكن يحذَر على مَن بَقِيَ. فالجرائم الإشكالية الكبرى ذات الدلالات التي جرت في العالم، ترتَّبت عنها خلاصات ارتبطت بالمسبّبات مباشرةً وكانت منفصلة عن الأفعال الإجرامية ونتائجها المباشرة.

يُخشى من ردّة الفعل التي ستظهر بأشكال مختلفة وبمندرجات عميقة بائنة على مستوى العالم بأسره. فمثل هذه الجرائم تنهي حياة جماعة معينة استهدفتها البندقية، لكنها تهدّد جماعات كثيرة قصدها من مسك الزناد.

تنقل هذه الجريمة، البشرية من مستوى إلى آخر، وتجعل حيّزاً كبيراً منهم خاضعاً لاستراتيجية الخوف ومنطق الرعب من الآخر، واعتبار المختلف متّهماً إلى أن يثبت الزمان والمكان عكس ذلك.

بالطبع فإن الإرهاب لا دين له، ولكن للإرهابين دين، إن اُسيء استخدامه قد تغتنم نصوصه وأدبياته لخدمة مصالح القتل والنار والدمار ، لذا يجدر أن يصار لإعادة مطالعة شاملة نقدية بانورامية متكاملة متدرّجة تدرس هذه الظواهر الإجرامية الخطيرة التي نشهدها، وبلغت ذروتها في 15 آذار 2019.

فهل ستقدِّم المنظومة الدينية مطالعة نقدية متكاملة للواقع الذي وصلنا إليه، والقيام بإعادة قولبة جديدة قائمة على فَهْم الآخر والتعرُّف عليه عبر بياناته وما يقدِّم وبأسس المحبة والتلاقي والأخوّة الإنسانية المشتركة فعلياً؟. فالمؤسّسة الدينية من حيث المبدأ حركة إصلاحية للواقع، من فوق إلى تحت وليس العكس. فترسّبات إشكالية تراكمية هي التي تحمِّلنا وزر مثل هذه الجرائم، ولم يعد يكفي أن نطرد الرذيلة، بل لا بدَّ من زرع مكانها فضيلة تقبُّل الآخر، إذ بعث الله الرسائل الدينية للارتقاء بالبشر ليس إلا.

يمكن اعتبار هذه الجريمة عملاً فردياً، لكن المسؤول عنه أطر كثيرة يفترض أن تتحمل مسؤولياتها تجاه العالم أجمع؛ لأنها شعرة قاسية قصمت ظهر بعير متشرذم متشتّت يدفع فيه الإنسان الطاهر أثماناً باهظة قد تودي بحياة وتكسر جدار الأمان في دول عدّة حول العالم.

هذا المجرم طبَّق قناعاته الإجرامية، ولكن يُنتظر في المقلب الثاني، من المنظومة الدينية أن ترسم خططاً إصلاحية استشرافية مشرقة بناءً على المعطيات التي شكَّلت النواة الأساس الدقيقة المحفّزة على هذا الإجرام المرتكب بدمٍ بارد. الموضوع كارثي وسيبقى إن لم يتم اتخاذ قرارات وتنفيذها بشكل واضح فعَّال لخلق لبنة جدِّية جذرية في هذا المجال. المجزرة حدث أليم لكنه مألوف في كثيرٍ من مفرداته، فيفترض بحث انعكاساته المبدئية والحقيقية والنهائية من جهة، والمباشرة وغير المباشرة من جهة ثانية. 

يجب ان تُفتَح صفحة جديدة بيضاء ناصعة يُكتب عليها، تطلّعات خيرة أهل المعمورة ممن اصطفى لنفسه مكانة جدِّية ساعية للارتقاء بواقعٍ إليم تعيش مستخلصاته شعوب كثيرة باتت منتشرة حول العالم أجمع. إذ يوجد شيء ما فاسد، في مملكة العالم هذه! لن يصلحه الفاسدون، إن لم يتحرّك الساكِت عن الحق كشيطان أخرس. يجب أن يستفيد من هذه القارعة التي صدمت، وصدَّقت على جرائم كبرى انعكست من خلالها. فالويل لمَن لا يُجيد استشراف المستقبل من خلاصات الحاضر ومفرزات الماضي.