الأم والأمّة العربية

إن العنصر الرابع الإلزامي إضافته إلى الحبر، والورق، والحرية لأيّ نص هو أن يبثّ الأمل في نفوس الناس ممَن سكن على وجه الأرض بكل ما لها وما عليها. لذا يفترض بهذا المقال أن يُسلِّط الضوء على إرهاصات من الأمل بيوم غابر وليس بألم عابر. ففي 21 آذار من كل عام يحتفل العالم بعيد الأمّ، وقد قيل الكثير في سبيل السعي لتوصيف دورها وربما يصعب أن تطال الكلمات قيمة هذه القامة التي تزيّن الوجود والكون بأكمله.

نحن العرب لدينا أمّان: الأمّة العربية من جهة، والأمّ العربية من جهة ثانية

 فالأمّ هي التي تستيقظ قبل أن يطلع الضوء وإن نامت فتفكّر بأولادها وزوجها وعائلتها؛ فهي قطعة منهم وهم كيانيتها. إذ يبدأ الأنسان بالوفاة عندما يخسر والدته؛ لأنه يشرئب عندئذ ليطال السماء من أوسع أبوابها. فالأمّ هي الشخص الذي تتيقّن من أنك لن تجد حضناً أكثر دفئاً من لطفها لأنها مستعدّة أن تقدِّم لك ما يجب ساعة يلزم. هي العطية الأسمى التي منحها الرب للإنسان، والأمومة نعمة يخصُّ بها كثر ويطمح إلى تملّكها السواد الأعظم من النساء. فإن كانت المجتمعات ركيزة الشعوب، والعائلة منطوقها ومنطلقها فإن الأمّ هي الركن الأساس للمجتمعات، والمجتمع من دون حنانها سيفقد ألقه وسيصبح محاولة أو مجرد سعي. فدور الأمذ هو النمطية الأغلى للمحافظة على كينونة البشر في كل زمان ومكان. باختصار فإن الأم هي الأم والكلمات أعجز عن وصف دورها، لكن إطارنا العربي هو المسرى الذي نطلُّ منه في يومنا هذا، والعرب اليوم ليسوا في أفضل حال. فنحن اليوم في مرحلة الانحطاط فما لي العروبة تبكي مثل أرملةٍ وليس في كتب الأفراح مَن يُنادينا!
نحن العرب لدينا أمّان: الأمّة العربية من جهة، والأمّ العربية من جهة ثانية. فأمّتنا العربية تتعب وتبذل كل ما حبتها السماء من مقدَّرات ومقدّرات، فهي التي تنمّي الشعوب العربية بكل ما لهم من طاقات لتصقِّل مواهبهم وتشجّعهم على الانطلاق من جديد في نهار كل يوم تشرق فيه الشمس وتطلّ من الشرق وتتعب ماشيةً صابرة لتصل إلى الغرب في آخر النهار، ثم يأتي الليل ويوم آخر فتمرّ الأسابيع، والشهور، والسنوات، والعقود، والقرون.
كما تتعب الأمّ بشكل عام منذ أن يلد الطفل فتكون صديقة، وحبيبة، وأختاً، ورفيقة درب، تلعب كل الأدوار التي تمكّنها من الوصول إلى مسعاها في أن يكون إبنها أفضل منها وتتشارك مع صديق الكفاح والجندي المجهول المجبول بنار الشوق ليرى إبنه أفضل منه، فتأتي إشراقة الصباح في يوم آخر ليكون السعي قد كَبُر لمواصلة الحلم وحمل المسؤولية.
فالأمّ والأمّة العربية، تسعيان لبذل الجهد الذي يفوق ما يكفي لتحقيق هذه المآرب، فيأتي يوم آخر يقطف الحلم فيحلُّ موعد السفر.
الأم والأمّة العربية يتعبان في بذل كل ما يلزم، ويربيان أولادهما فيقطف الغرباء خير أكتافنا. نحن نبذل وهم يتنعّمون، فصنيعتنا الخلاَّقة تسقط عند أقدام الغرب بكل ما لهم وما عليهم فينعم الآخر وننكب نحن بكل ذواتنا.
كانت هجرة الأدمغة في فترات معينة، ثم أصبحت تطال العقول، واليوم بات تشمل الأجساد بكليتها! حتى النفوس باتت تهاجر وتبارح المكان، فأصبحنا نرنو إلى المستقبل الآتي المترجي لحاضرنا أن يكون أفضل.
الأمّ العربية تبكي كلما يكبر إبنها واليوم تدمع على فراقه وتسعى مشتاقة من أجله، فهي الغريب الآخر في هذا الوطن الحبيب الأعزل. فلولا الأولاد لما أصبحت أمّاً، وفي الوقت نفسه أصبح السؤال الأكثر إلحاحاً ما إذا كانت الأمّ والأمة العربية بذات الصفة! فمرحلة الإنجراف المنحرف هذه تزيل معها كل رابط ومنطق، يجدر أن تنطلق منه الشعوب لإيجاد إشراقة جديدة متكاملة.
أما سئمت الأمّ والأمّة، فهما عطيشتان للأولاد. فنحن اليوم بتنا بحاجة إلى سياق جديد حسبما تحدّث أدونيس، فسياقنا العربي لم يعد يكفي بل هو متعطش للقيانا بكل ما للكلمة من معنى. فنحن اليوم نتطلّع لتغيّر هذا السياق الذي أنهكنا من فروة الرأس إلى أخمص القدمين. فالمنطق الذي يعايش هذه المنطقة بات بحاجة إلى منطلق جديد متكامل. فالحلول الجزئية لم تعد تكفي، بل بات يفترض أن ننطق بكيانية حديثة مجارية للواقع السامي الذي يفترض أن نتقدّم من خلاله.
لم يعد يطاق أن تحافظ الأمّ والأمّة على أمومتهما حتى يكبر الولد، فيهاجر أو يفكر بترك المكان ولو بالإمكان لترك نفسه كي يبارح هذه المنطقة.
لا أعتقد أن الأم ّالعربية تنتظر في هذا اليوم، باقة ورد بل بارقة أمل فالألم بات موجعاً. هي تأمل أن تنطوي صفحة الحقد، والفقد، والدم، والدمار جَفَّت المآقي فبات يشعر الضجيج لامس الحاجة لسيمون بوليفار واحد يقود أمّة العرب إلى خلاص كل أمّ عربية. الطريق طويل ولكنه يبدأ بالخطوة الجدِّية الدافعة.
في هذا اليوم يجب أن نُعايد من لا أمّ له، وكل أمّ لا إبن لها، وأمّهات الشهداء وزوجاتهم، وأن نضع على قبور الأحبة وردة حب ووعدٌ صادق بحُسن وصدق المستقبل القادم الذي ماتوا من أجله.
هو يوم تفرح فيه الأمّهات وتحزن به من حُرِمن هذه النعمة، ومن توفّى أولادها في مهدهم الذي تحوَّل للحدهم. هو يومٌ قاسٍ لكثر وعزيز على أخريات، فنرجو الرب أن يعيده على الجميع ببارقة وداعة الإخلاص لمستقبل جميل عتيد.