هل وضعت الحرب أوزارها قبل أن تبدأ؟

هذه الأجواء والإشارات حدت بالرئيس الأميركي إلى تقدّم المشهد والصورة، وإلى تنحية جون بولتون، ومايك بومبيو عن الصورة. وإنّ التصريح العلني من اليابان، دعوته الى التفاوض وإغداقه مشاعر التمني لإيران أن تكون دولة مزدهرة تحت ظل القيادة الحالية، ليس تفصيلًا، وإنما هو في جوهر رسائل التهدئة من الرئيس الأميركي في حضرة الوسيط المحتمل رئيس الوزراء اليابان "شيزو آبي".

لقد عبّرت التصريحات المتتالية من أعلى المستويات القيادية في واشنطن وطهران إلى سلوك المنحى التفاوضي الحواري

لقد بدا أنّ التصعيد بين طهران وواشنطن قد وصل إلى ذروته مع تحريك حاملة الطائرات المدمرة يو أس أس ترومان في مياه الخليج، والردّ الإيراني بنشر قطعات بحرية ، ورفع قادة الحرس الثوري مستوى التهديدات الإيرانية للوجود الأميركي في المنطقة، بالتزامن مع رسائل بدت واضحة من خلال استهداف ناقلات النفط في الفجيرة، وقصف أنابيب نفط شركة أرامكو السعودية. هذه الرسائل بالنار والاستعراض من الطرفين أوصلتهما الى قناعة مفادها أنّ الحرب المفترضة ستكون مدمرة، وذات كلفة فلكيّة بالأموال والضحايا والاقتصاد العالمي، إضافة إلى عوامل عديدة وضعها الرئيس الأميركي في حسابه تتعلق بالانتخابات الرئاسية القريبة، التي ستبدأ حملتها الانتخابية في الخريف المقبل أولًا، وأنّ هذه الحرب، إن وقعت، لن تنتهي بسهولة ثانيًا، وأنّ يكون استثمارها في الانتخابات ليس ممكنًا ثالثًا، وليس واضحًا أنّ نتيجتها ستكون حاسمة للجانب الأميركي رابعًا، إضافة الى أن انعكاسها على أسواق النفط العالمي ستكون كارثية خامسًا.
هذه الأجواء والإشارات حدت بالرئيس الأميركي إلى تقدّم المشهد والصورة، وإلى تنحية جون بولتون، ومايك بومبيو عن الصورة. وإنّ التصريح العلني من اليابان، دعوته الى التفاوض وإغداقه مشاعر التمني لإيران أن تكون دولة مزدهرة تحت ظل القيادة الحالية، ليس تفصيلًا، وإنما هو في جوهر رسائل التهدئة من الرئيس الأميركي في حضرة الوسيط المحتمل رئيس الوزراء اليابان "شيزو آبي". وعدم رفض إيران لهذه الوساطة، إضافة الى مقدمات كانت رشحت عن زيارة بومبيو وظريف لبغداد، وكلام عن وساطة عراقية، وأخرى ألمانية عبر المدير في وزارة الخارجية "ينس بلوتنر" الذي زار طهران بهدف «الاجتماع مع مسؤولين إيرانيين في محاولة للحفاظ على الاتفاق النووي، وتهدئة التوترات في المنطقة».
ولكن قبل الدخول في مؤشرات التهدئة، من الضروري فهم التفكير الأميركي وأولوياته في العالم والمنطقة. فثمّة سؤال مطروح بقوة في الأوساط السياسية الاميركية، هو كيف تنظر واشنطن الى المنطقة اليوم؟ وهل تشكَل إيران فعلًا تهديدًا وجوديًا للغمبراطورية الأميركية؟، أم هي قادرة على عرقلة مشاريع واشنطن وحلفائها في المنطقة؟ الإجابة عن هذا السؤال يفتح الباب واسعًا لقراءة الواقع السياسي ولجدوى حرب طاحنة مجهولة النتائج قد تقع. وهل ما يحصل مع الصين اليوم يقرّب رؤية ترامب وقبله أوباما لخطر الصين أضعاف ما يمثّله خصوم الولايات المنحدة وأعدائها في الشرق الأوسط؟
كتب الباحث "دانييل ديبتريوس" مقالًا في مجلة "ناشونال إنترست" الأميركية،بعنوان"لا تصدقوا جعجعة الحرب" يقول فيه إنه لا يرى تلك الأهمية للشرق الأوسط؛ فالمصالح الأميركية في تلك المنطقة "ضيقة للغاية" على حد وصفه، ولا تعدو أن تكون قائمة على تفادي انقطاع إمدادات النفط عبر منع القوة الإقليمية المهيمنة من القيام بعرقلة تدفق تلك السلعة الحيوية، والقضاء على التهديدات "الإرهابية ضد أميركا" إن تلك غايات مهمة وقابلة للتحقيق، إلا أنها لا تتطلب الكثير من الولايات المتحدة لكي تنال مقاصدها، ذلك أن سوق الطاقة العالمية يعجّ بمصادر بديلة، كما أن واشنطن زادت بشكل كبير إنتاجها من النفط الخام، حتى أضحت أكبر منتج له في العالم، ومن مصدريه الرئيسيين. إضافة إلى خطورة الوضع، وأنّ خطأ واحدًا في الحسابات من شأنه أن يشعل مواجهة عسكرية كبيرة بين واشنطن وطهران، رغم أن كلا الشعبين الأميركي والإيراني لا يريدانها. وهذا يعني أن الخليج لم يعد "شأنًا جيوسياسيًا" في سياسة الولايات المتحدة الخارجية كما كان في السابق، حتى أن وارداتها من الشرق الأوسط ما عادت بتلك الضرورة. وأنّ مصالح الأمن القومي الأميركي لا يفيدها الانحياز إلى أطراف بعينها في منطقة من العالم "تعج بأطراف فاعلة سيئة"، مضيفًا أن من الأجدر لواشنطن أن تركز على ما يهمّ الأميركيين، لا أن تسعى (وتفشل) في حل مشاكل المنطقة." وما قاله الباحث الاميركي لا يشكّل بعداً كبيراً عن رؤية دونالد ترامب إلى المنطقة .
إلى المفاوضات
لقد عبّرت التصريحات المتتالية من أعلى المستويات القيادية في واشنطن وطهران إلى سلوك المنحى التفاوضي الحواري، بعيدًا من قرقعة السيوف. فرأينا الرئيس ترامب يسلك مسارًا مغايرًا كليًا، ويخفّض مستوى شروطه، عائدًا الى روزنامة باراك اوباما والدولة العميقة في واشنطن، متجاوزًا تحريض بولتون وبومبيو والسعودية والإمارات وإسرائيل، حين قال "إنّ الهدف هو عدم امتلاك ايران للسلاح النووي، وأنّ الولايات المتحدة لا ترغب في تغيير النظام الإيراني". مخالفًا بذلك رأي جون بولتون.وأضاف إنه يرغب في التحدث إلى قادة إيران إذا كانت لديهم رغبة في ذلك. وأنه "لا أحد يريد رؤية فظاعات تحدث، وخصوصا أنا. أعتقد حقًا أن إيران ترغب في إبرام اتفاق، وأعتقد أن ذلك ينمّ عن ذكاء، وأعتقد أن هذا يمكن أن يتحقق."
وقال ترامب، خلال مؤتمر صحفي في العاصمة اليابانية طوكيو: "أعتقد أن إيران لديها الفرصة في أن تكون دولة عظيمة مع القيادة الحالية نفسها، نحن لا نسعى إلى تغيير النظام، وانا لا أسعى الى إيذائها. أريد توضيح ذلك، نحن نسعى إلى عدم امتلاك إيران السلاح النووي" "أعتقد أن الإيرانيين يريدون الحديث، وكذلك نحن، وسنرى ما سيحدث" .
واللافت في هذا «العرض» الجديد أنه لم يضمّن مطلب بحث ملفي الصواريخ البالستية والنفوذ الإقليمي، مع أنه كرّر في الوقت نفسه إبداء اعتقاده بجدوى العقوبات. وقال انه لا يعتقد بوجوب ارسال جنود الى المنطقة لمواجهة ايران. واذا كان يتعين علي أن أغزو إيران، فسأغزوها اقتصاديًا.
وفي السياق نفسه أكدت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية "مورغان أورتاغوس" أن بلادها لا تريد حربًا مع إيران، وإنما ترغب في حضورها إلى طاولة المفاوضات. وقال وزير الدفاع الأميركي بالوكالة باتريك شاناهان إنه لا أحد يرغب في وقوع حرب مع إيران، وإن الرئيس كان واضحا للغاية في أنه لا يريد الحرب.
ومن الواضح انّ هناك تمايزًا إن لم نقل اختلافًا في خطاب كل من مايك بومبيو وجون بولتون من جهة، والرئيس ترامب من جهة ثانية، ففي حين يقول ترامب إنّ الهدف من المفاوضات هو منع امتلاك إيران للسلاح النووي، تقول الخارجية الأميركية إنّ حوارنا مرهون بوقف ايران دعمها لحركات المقاومة. مؤكدةً "أننا مستعدون للتفاوض مع طهران إذا وافقت على شروطنا الـ12"، لافتةً إلى أن "حوارنا مع طهران مرهون بوقف تحكمها ببيروت ودمشق وصنعاء ووقف القتل والهجمات ووقف رعايتها للإرهاب".
ولم يكن ردّ الجانب الإيراني بعيدًا من لغة الحوار والمفاوضات، مع إرسال السيد الخامنئي رسالة مفادها انه يفهم كيفية تفكير العقل الأميركي، مما يختصر الطريق على الأميركيين، ويوفّر عليهم التلاعب والمراوغة، فهو إذ شكّك في دعوة التفاوض الحالية وجدواها، واصفًا إياها بـ«الحيلة» التي لن تخدع الإيرانيين، أكّد أن إيران لا تسعى إلى امتلاك سلاح نووي، ليس بسبب العقوبات الأميركية "ولكن لأننا نحرّم امتلاكه". وهذا تقاطع مهمّ. وأكمل الرئيس روحاني ما بداه السيد الخامنئي، أنّ ايران لم تسعَ يومًا الى امتلاك السلاح النووي، ولمّح إلى أن إجراء محادثات مع واشنطن قد يكون ممكنًا، وأن "الباب لم يغلق، إذا رفعت الولايات المتحدة العقوبات ونفّذت التزاماتها" بموجب الاتفاق النووي. في إشارة شديدة الوضوح إلى الجانب الآخر ان هناك ارضية ممكنة للمفاوضات. وتتماشى تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، عباس موسوي، في السياق نفسه، في إن طهران «لا تشعر بأي توتر أو (إمكانية) صدام» مع الولايات المتحدة، مشيرًا إلى أن المخاوف «خلقها آخرون».. وإن إيران «تستمع لآراء الدول» التي أبدت نيتها التوسط.
تشير كل التصريحات والمواقف إلى أنّ الطرفين يحضران لمرحلة جديدة، بعيداً من لغة التهويل والحرب، وأنّ المواقف الملوذنة بعبارات التشدّد هي لزوم العدّة التي سيتخدمها الطرفان.
وفي الوقت الذي سيلتقي فيه قادة العالمين العربي والإسلامي وامراء الخليج في قمم ثلاث فارغة المضمون والمحتوى، بإمامة جون بولتون، سوى من تحميل إيران أسباب عجزهم التاريخي؛ من الممكن أن يكون الوسطاء في مكانٍ ما بدأوا بترتيب "شراشف الطاولة" المستديرة، وحملوا الأقلام التي سيرسمون فيها طريق الخروج من أزمة أحرجت الأطراف جميعها وخنقتها، ولا سيما أنّ الوقت ليس مفتوحًا لترامب، وأنّ هناك فرصة للتفلّت من الضغوط الهائلة التي يمارسها نتنياهو العالق في المأزق السياسي، والمشغول بالانتخابات في أيلول القادم، وبالخوف الدائم من محاكمته. وأنّ صفقة القرن تمر بمرحلة صعبة بعد الرفض الفلسطيني، وانّ وصفات جون بولتون في فنزويلا لم تؤدِّ إلا إلى إحراج ترامب وتبيان عجزه، وربما تكون رسالتا "الفجيرة وينبع" قد أفهمتا السعودية والإمارات انّ دونالد تاومب لا يعمل عندهم، وهو ليس بوارد الدفاع عنهم، وأنّ وظيفتهم محصورة بالتعبئة المذهبية، ودفع كلفة الحماية لعروشهم.