توقيت قرار حل الحشد الشعبي

في المُحصّلة، لا شك بأن الوضع المُضطرب في الشرق الأوسط يجعل من الصعب على العراق الحفاظ على وضع مُتوازِن، خاصة وأن المُتحاربين هما الولايات المتحدة بقوّاتها العسكرية المتمركزة في العراق، وإيران الجارة القريبة من العراق، وبالتالي فإن قرار حلّ الحشد الشعبي يأتي في توقيتٍ سياسي وعسكري غاية في الدِقّة.

الواضح أن الحضور الشعبي الواسع للحشد الشعبي يُشكّل عاملَ ضغطٍ على السياسة الأميركية

لعلّ مُقاربة الشأن العراقي والبحث في تجاذباته السياسية، تحتاج إلى الإضاءة على المسارات الإقليمية والدولية المُتشابكة، لكن ضمن هذه المسارات لابد من التنويه إلى ما قاله في وقتٍ سابقٍ ثعلب السياسية الأميركية وزير الخارجية السابق هنري كسينجر: "إن خلاصة سياستنا الحالية في العراق، أن يبقى لسنواتٍ طويلةٍ قادمةٍ تحت سيطرتنا الكاملة مباشرة وغير مباشرة سياسياً وعسكرياً، العامل المهم الذي نجحنا بتأسيسه ونعمل على ابقائه، إننا جعلنا الدولة العراقية مُنقسمة طائفياً وقومياً، بحيث لا يمكنها أن تكون دولة مركزية قوية، وهي عُرضة سهلة لتفجيرها والتحكّم بها"، وبالتالي يمكن تلخيص المشهد العراقي وفق هذه الرؤية الأميركية، وأيّ قرار سياسي أو عسكري سيكون مُرتبطاً وبشكلٍ مباشرٍ بالأجندة الأميركية في المنطقة، الرامية إلى مُحاصرة إيران وتحييد شركائها عن أيّ مشهدٍ على المستويين السياسي والعسكري، وعليه فقد كانت زيارة المسؤولين الأميركيين للعاصمة العراقية بغداد في وقتٍ سابقٍ، واجتماعهم مع رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، تحمل في طيّاتها مطالب قد لا يقوى العراق بوضعه الحالي على تحمّل تداعيات رفضها، فقد كان لدى المسؤولين الأميركيين طلبان: أولاً، إغلاق جميع التبادلات التجارية والمالية مع إيران لخَنْقِ الاقتصاد الإيراني، والثاني هو تحييد الفصائل العراقية خاصة الحشد الشعبي.

عادل عبد المهدي ووفق رؤيته السياسية، يُدرِك بأن رفض المطالب الأميركية قد يقلب العراق رأساً على عقب، وتجنّباً لانقلاب مُحتَمل ومناورة أميركية تحمل معها عودة داعش وإرهابه، فقد أصدر رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي قراراً ديوانياً (مرسوم) رقم. 237 "لتنظيم الحشد الشعبي ، حيث تغلق جميع الفصائل مقرّها ويكون لها خيار إما الانضمام إلى القوات المسلّحة أو الانخراط في نشاطٍ سياسي (غير مسلّح)، كما يُحظّر أيّ فصيل يتصرَّف سرّاً أو عَلناً بتجاوز هذه التعليمات، وعلى جميع المعنيين الامتثال للمطلوب بحلول 31 تموز\ يوليو ".

الواضح أن الحضور الشعبي الواسع للحشد الشعبي، يُشكّل عاملَ ضغطٍ على السياسة الأميركية، فالمعارضة الأميركية لدور الحشد الشعبي تنطلق من أن فصائل الحشد قد أفشلت المُخطّطات الأميركية التي اتخذت من تنظيم داعش مُنطلقاً لتبرير تواجدها في الجغرافية العراقية، بَيْدَ أن الخشية الأميركية من تبعات الدور القتالي لفصائل الحشد الشعبي، قد تجلّت في القضاء على داعش وتهديداته، إضافة إلى أن انتصار الحشد الشعبي قد عزَّز موقع العراق الإقليمي، وساهم في تقوية المسار السيادي للعراق، لذلك يمكننا تفنيد القرار القاضي بضمّ فصائل الحشد الشعبي إلى الجيش العراقي، وذلك وفق مسارات عسكرية وسياسية، من دون إغفال الضغط الأميركي على العراق لجهة تحييد الدور القتالي للحشد الشعبي.

المسار العسكري: واشنطن ومنذ تأسيس الحشد الشعبي سعت لاستهدافه والتأثير بطُرُق مباشرة وغير مباشرة على دوره في قتال تنظيم داعش الإرهابي، وقد تعرّضت قوات الحشد لضرباتٍ عسكريةٍ أميركيةٍ مُتعدّدة، على سبيل المثال، لا الحَصْر، أعلن الحشد الشعبي استشهاد 22 من عناصره بغارةٍ جويةٍ أميركية استهدفت موقعاً عسكرياً في مدينة البوكمال السورية في صيف العام الماضي، لكن واشنطن تخشى المواجهة المباشرة مع الحشد نظراً للتبعات الكارثية، لذلك تعمد إلى استخدام قوات تنظيم داعش الإرهابي من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية من جهة أخرى.

المسار السياسي: لا تتوقّف الجهود الأميركية عند المسار العسكري، بل تسعى سياسياً لاستهداف الدور الذي يلعبه الحشد الشعبي، ليس آخره ما ظهر على لسان رئيس الوزراء العراقي الأسبق "إياد علاوي" الذي دعا إلى حلّ الحشد الشعبي تحت ذريعة الوصول إلى دولة مدنيّة، في السياق ذاته، نشر معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى مقالاً تحت عنوان "تعزيز قوات الأمن العراقية" وهو مقال مُشترَك للكاتبين الأميركي مايكل نايتس المُتخصّص في الشؤون العسكرية والأمنية للعراق وإيران والدول الخليجية، والعراقي إسماعيل السوداني العميد الركن الذي شغل منصب المُلحق العسكري في أميركا في الفترة بين 2007 و 2009، حيث طالب المقال حينها بصَهْر قوات الحشد الشعبي في وحدات الجيش العراقي بعد الفشل في استصدار قرار لحلّه سياسياً.

ضمن هذين المسارين، وجدت واشنطن نفسها في موقع المُتضرّر جرّاء تنامي قوّة الحشد الشعبي سياسياً وعسكرياً، فقد بات المسار السياسي في العراق بعيداً عن متناول الأيدي الأميركية، خاصة بعد النتائج الانتخابية التي تشكّلت على إثرها تحالفات نيابية رسّخت دور الحشد الشعبي كضمانةٍ لأمن العراق، فضلاً عن دور هذه التحالفات النيابية التي تسعى إلى تفعيل قوانين تطالب بطرد القوات الأميركية من العراق، كما أن المسار العسكري بات ضاغطاً على واشنطن، فالولايات المتحدة تدرك بأن أية مواجهة مباشرة مع الحشد العشبي ستكون باهِظة الثمن، وبالتالي فإن خيار المواجهة المباشر لم يعد مطروحاً على الطاولة، لذلك عمدت واشنطن إلى تفعيل حرب الوكالة عبر أدواتها من داعش إلى الوحدات الكردية.

ومن الجدير بالذكر، أنه و بعد الانتصار العسكري على داعش في أواخر عام 2017، سعت القيادات العليا للحشد الشعبي إلى جُملة من الإجراءات الخدمية والميدانية، بُغية توظيف الإمكانيات والقدرات بالاتجاه الصحيح، والذي يُرضي كافة أطياف الشعب العراقي، و لم يقتصر دور الحشد الشعبي على الجانب القتالي، فقد كانت له مُساهمات في مشاريع إعادة الإعمار، وإغاثة المتضرّرين من الفيضانات والسيول، فضلاً عن إخماد الحرائق التي اجتاحت مساحات زراعية شاسعة في عددٍ من المدن العراقية، كما طلب نائب رئيس هيئة الحشد أبو مهدي المهندس، إغلاق مقار الحشد ومكاتبه تحت أيّ مُسمَّى داخل جميع المدن العراقية، وخاصة المناطق التي تمّ تحريرها من تنظيم "داعش" في غرب وشمال البلاد، كل هذه الخطوات  والمبادرات كانت تجري في ظلّ حملات إعلامية مُمنهَجة ضد الحشد الشعبي والعمل على شيطنته، بُغية تأليب الرأي العام العراقي ضدّه، وبالتالي تشكيل جبهة تكون سبباً في حلّه، خاصة أن السبب الجوهري لتواجده تمحور حول قتال داعش، واليوم لم تعد هذه الذريعة قَيْدَ التداول.

في المُحصّلة، لا شك بأن الوضع المُضطرب في الشرق الأوسط يجعل من الصعب على العراق الحفاظ على وضع مُتوازِن، خاصة وأن المُتحاربين هما الولايات المتحدة بقوّاتها العسكرية المتمركزة في العراق، وإيران الجارة القريبة من العراق، وبالتالي فإن قرار حلّ الحشد الشعبي يأتي في توقيتٍ سياسي وعسكري غاية في الدِقّة.