الصراع الأميركي- الإيراني: ملامح نظام عالمي جديد

وضع أرباب المصالح الاقتصادية الكبرى حول العالم أيديهم على قلوبهم وهم يراقبون التوتر بين إيران والولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا يقترب من ذروته في مضيق هرمز الذي تعبر منه 40% من إمدادات الطاقة المستهلكة عالميا كل يوم.

رداً على حادثة احتجاز ناقلة النفط الإيرانية في جبل طارق، قامت إيران بإيقاف ثلاث ناقلات نفط حتى الآن

وفيما بدأ التوتر مع الانسحاب الأميركي من الاتفاق ومع إعلان الولايات المتحدة عن نشر قوات بحر-جوية ضاربة في منطقة الخليج منذ نحو شهرين بهدف ردع إيران، فقد أسفرت جولات الاحتكاك بين الطرفين في المضيق عن نتيجة معاكسة تماماً، إذ يبدو حتى الآن وكأن التوتر الذي خلقه ترامب قد منح إيران فرصة اثبات سيطرتها الفعلية على أهم معابر مائي في العالم، وهو ما لم يتحقق لأي دولة في المنطقة مثله أو ما يقاربه سابقاً.

فرداً على حادثة احتجاز ناقلة النفط الإيرانية في جبل طارق، قامت إيران بإيقاف ثلاث ناقلات نفط حتى الآن وفتشتها ثم أطلقتها، عدا ناقلة نفط بريطانية التي تستمر باحتجازها، أي أن الولايات المتحدة وحلفائها صاروا أمام واقع تشكل نقطة تفتيش إيرانية في أهم معبر مائي في العالم، ترافق ذلك مع حديث خرج من مجلس الشورى الإيراني عن احتمال فرض رسوم عبور على السفن المارة من هرمز مستقبلاً، فيما لم ينجح أسطول المدمرات الغربية الضخم، المرابط في الخليج في عرقلة عمليات الاحتجاز تلك، بل تحدثت الصحافة الانكليزية عن توجيه الإيرانيين تهديدات للفرقاطة البريطانية "مونتروز" التي كانت ترافق ناقلة النفط، لمنعها من التدخل لانقاذها.

وكان اللافت أيضاً في حادثة إسقاط طائرة التجسس الأميركية الأحدث من قبل الدفاعات الجوية الإيرانية، ليس فقط نوعية الطائرة التي تكلف تطويرها أكثر من 200 مليون دولار، والتي كان من المفترض أنها مخصصة أصلا للحرب الالكترونية والتشويش على الرادارات المعادية، بل كان المهم أكثر ما نشرته إيران من معلومات دقيقة عن مسار الطائرة المسيرة منذ لحظة إقلاعها من القاعدة العسكرية في الإمارات، إلى لحظة إسقاطها، ما يعني قدرة الرادارات الإيرانية على رصد كل التحركات في منطقة الخليج، وفرض السيطرة عليه جواً وبحراً، وهو ما دعمه الفيديو الذي ردت به إيران على إداعاء ترامب إسقاط مسيرة إيرانية لاقترابها من إحدى حاملات الطائرات الأمريكية في الخليج، حيث تظهر المسيرة الإيرانية في الفيديو مستمرة في التحليق فوق حاملة الطائرات الأميركية في نفس توقيت التصريح الذي أدلى به ترامب، وتبدو حاملة الطائرات الأميركية كهدف سهل للطائرات المسيرة الإيرانية التي تمتلك القدرة على القصف، وهدفاً كذلك لصليات الصواريخ التي يمكن أن تنطلق من البر الإيراني في أي لحظة وأن توجهها تلك الطائرات المسيرة لتحقيق الإصابة الدقيقة.

لكن الثقة التي أظهرتها إيران في مواجهة التصعيد الأميركي، لا تعود إلى امتلاكها تفوقاً عسكريا تقنياً على الولايات المتحدة، التي تنفق كل عام ميزانية خيالية على أبحاث تطوير وصناعة الأسلحة لم تنفق مثلها أو ما يدانيها أي دولة في التاريخ البشري، صحيح أن إيران صعدت إلى المركز 17 عالمياً والأول على الشرق الأوسط في الإنتاج العلمي المنشور وذلك بدءاً من العام 2013 الذي نشرت خلاله 2925 مقالاً علميا متخصصاً، وصحيح أن إيران تنفق سنويا حوالي 6.5 مليار دولار على البحث العلمي، لكن هذا لا يجعلها قريبةً حتى من مستوى التطور التكنولوجي الذي وصلته القوة العسكرية الأولى في العالم.

بل إن ما يمنح إيران ميزة التفوق على الولايات المتحدة في المواجهة الحالية هو وقوع ميدان الاشتباك على مرمى حجر أو (مرمى صاروخ بالأصح) من أراضيها، وأنها كيفت إمكانياتها التسليحية على هذا الأساس، وذلك من خلال تطوير ترسانة ضخمة جداً من الصواريخ (الأرض-أرض) التي تهدد القواعد العسكرية الأميركية في دول الجوار وإسرائيل بالدمار، وترسانة مشابهة من صواريخ (الأرض-بحر) التي تهدد الأسطول الأمريكي المرابط في الخليج، والعمل على زيادة دقة تلك الصواريخ، بالإضافة إلى أسطول إيراني من الطائرات المسيرة القادرة على الرصد والقصف والتي أثبتت الحرب اليمنية قدرتها على التملص من كل الدفاعات الجوية الأميركية المتطورة التي يديرها خبراء أميركيون في السعودية، إلى جانب تطوير إيران أسطولاً كبيراً من القوارب العسكرية الصغيرة والمتوسطة فائقة السرعة.

فبينما اعتمدت الولايات المتحدة في مغامراتها العسكرية العدوانية ضد دول العالم الثالث على حاملات طائراتها التي تمثل قواعد عسكرية صغيرة يتم تحريكها بمواجهة الدولة المستهدفة، فإن هذه الحاملات تحولت في الحالة الإيرانية إلى أهداف سهلة، أمام بلد بمساحة قارية وتضاريس متنوعة توفر إمكانية تمويه وتحصين الصواريخ بحيث يستحيل كشفها، وسواحل طويلة تشكل منطلقاً لأسطول القوارب السريعة التي يمكن أن تهدد الأسطول الخامس الأميركي في الخليج بالفناء في حال اندلاع مواجهة شاملة، وهنا تعطي التجربة الإيرانية درساً لكل دول العالم الثالث، ملخصه بأنك إذا امتلكت إرادة المقاومة، فأنت تمتلك فرصة أن تكون الأقوى داخل حدودك الوطنية وفي مجالك الحيوي، (لا يوجد من يطمح لمواجهة الولايات المتحدة في مجالها الحيوي أو في أعالي البحار).

كما ترسم لنا نتائج المواجهة الأميركية-الإيرانية الحالية ملامح نظام عالمي جديد يخرج للنور على أنقاض نظام القطبية الأحادية المتداعي، وهو على الأرجح نظام لن تفرض فيه قوة عظمى واحدة سيطرتها على العالم، بل لن تتشارك قوتان عظميان حتى في إدارة ملفات الصراع الدولية كما كان الحال عليه في الحرب الباردة، بدلاً عن ذلك  ستكون هناك مجموعة من القوى الإقليمية الكبرى التي تفرض كل منها  نفوذها في مجالها الحيوي، وهي النتيجة التي سبق أن تنبأت به لجنة (بيكر-هاملتون) الأميركية التي تشكلت عام 2006 لدراسة سبل الخروج من الورطة العسكرية في العراق، وانتهت إلى اقتراح تسوية شاملة في المنطقة تتضمن الاعتراف بدور إيران الاقليمي، وإيجاد حل للصراع العربي – الإسرائيلي مبني على أساس الانسحاب من الأراضي المحتلة، النصيحة التي لم تأخذ بها مراكز السلطة الحقيقية في الدولة الأمريكية، وفضلت الاستمرار في التصرف كما لو أن موازين القوى المتغيرة بسرعة لا تزال تسمح للولايات المتحدة بالاستمرار بالانفراد بالتحكم بشؤون العالم.