إمبراطوريات وأوبئة: منظور بعيد المدى (2)

أهم الأعمال التي حاولت تفسير سقوط روما وأحدثها لا ترى أنَّ الأوبئة أدت دوراً مهماً في السقوط فحسب، ولكنَّها ترى أيضاً أن السقوط هو إحدى نتائج التبعات العميقة والبعيدة المدى للأوبئة.

  •  كتب القديس جيروم في إحدى رسائله متحسراً:
    كتب القديس جيروم في إحدى رسائله متحسراً: "تم الاستيلاء على المدينة التي استولت على العالم كله"

في بداية العام 400م، ألقى الشاعر الروماني الشهير "كلوديان" كلمة ترحيبية في احتفال مهيب أُقيم في مدرج المنتدى الروماني، تكريماً للجنرال الروماني الشهير فلافيوس ستيليكو أثناء زيارته للمدينة. كانت عظمة روما، وعظمة الإمبراطورية يومها، مِحْوَر كلمة الشاعر، الذي يوصف في عبارة نُقِشَتْ أسفل تمثال أقيم تكريماً له من الإمبراطور ومجلس الشيوخ في منتدى تارجان (أو تاريان)، بأنه الشّاعر الذي يَجْمَع "عقل فيرجيل وإلهام هوميروس". 

إنَّ روما التي نشأت، كما قال، "من بدايات متواضعة، امتدَّت لاحقاً إلى قطبي الأرض، وانتشرت قوّتها من ذلك المكان الصغير، إلى أن أصبحت تتزامن مع امتداد ضوء الشمس". أما الإمبراطورية، أضاف الشّاعر، فكانت "والدة الأسلحة والقوانين"، فقد "خاضت ألف معركة، وامتدَّ نفوذها ليصل إلى كلّ بقاع الأرض" . 

كان كلوديان محقاً طبعاً بخصوص خوض روما الحروب من دون توقف، فأبواب معبد "جانوس"، التي كانت تبقى مفتوحة في فترة الحروب، لم تُغْلَقْ على مدار أكثر من 7 قرون سوى مرتين. 

وفي نهاية الحفل الذي تخلَّله موكب إمبراطوري مهيب، تكريماً للجنرال الذي "أعاد التوازن إلى الأرض"، كما وصف كلوديان انتصاراته في أعقاب تقهقر مؤقّت شهدته الإمبراطورية، بسبب هزيمة عسكرية في العام 378، كانت الخاتمة عبارة عن استعراض إمبراطوري للقوة، تخلله "عرض مجموعة غريبة (عن روما) من الحيوانات، بِهَدَف تأكيد مصداقية ادعاءات الإمبراطورية بالعظمة، فقد تم جلب الخنازير البرية والدببة من أوروبا، والنمور والأسود من أفريقيا، وأنياب الأفيال من الهند". 

وإمعاناً في إظهار مدى سطوة الإمبراطورية، تم ذبح "سادة الأدغال" وأعاجيب الجنوب من الحيوانات المفترسة، في ممارسة لرياضة إمبراطورية خاصّة، "فكان سفك دم أكثر وحوش الطبيعة ضراوة أمام الجمهور في ساحة المنتدى تعبيراً صارخاً عن مدى هيمنة روما على الأرض وعلى كلّ مخلوقات الأرض" . 

لكن بعد هذا الحدث الأسطوري المدهش، وبعد استعراض القوة الإمبراطورية الفريدة بأقلّ من 8 سنوات، كان ألاريك، ملك القوط الغربيين، يقف مع جنوده على أبواب روما. وبعدها بعامين فقط (24 آب/أغسطس 410)، سقطت "المدينة الخالدة"، كما كان أهلها يظنّون، في يد من كانوا قبلها بسنوات قليلة مجرد لاجئين ضعفاء، لم يجرؤوا حتى على قطع الدانوب هرباً من أعدائهم من دون إذن من حكام روما المتجبّرين. 

ومن بيت لحم، كتب القديس جيروم في إحدى رسائله متحسراً: "تم الاستيلاء على المدينة التي استولت على العالم كله" . كان سقوط الإمبراطورية الّتي كان شعارها اللاتيني (Imperium Sin Fine) أو "إمبراطورية إلى الأبد"؛ والتي وعد الإله جوبيتر، كما جاء في "الإلياذة"، بأنها "ستكون بلا حدود في الزمان والمكان" ، حدثاً عصياً على القبول، حتى لا نقول قابلاً للفهم والتفسير العقلاني، لمن ظنّ أن هذه الإمبراطورية، غير كل الإمبراطوريات، وُجدت لتبقى. 

منظور بعيد المدى

منذ اليوم الأول لسقوط روما؛ الحدث الأهم في سلسلة أحداث انتهت بسقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية نهائياً في العام 476 ميلادية إلى يومنا هذا، لا تزال محاولات تفسير السقوط محور الكثير من الأعمال التاريخية. 

آخر هذه الأعمال وأهمها، والتي بدأت باستخدام نمط تفسيري جديد للتاريخ، لا ترى أنَّ الأوبئة أدت دوراً مهماً في السقوط فحسب، ولكنَّها ترى أيضاً أن السقوط هو إحدى نتائج التبعات العميقة والبعيدة المدى للأوبئة، فالاتجاهات النظرية الجديدة في كتابة التاريخ تفترض كمبدأ أساسي جدلية التاريخ البيئي والتاريخ الإنساني وترابطه، وهو ما أسَّس لإعادة كتابة التاريخ الإنساني، وحتى التاريخ الوطني لبعض الشعوب.

تستند هذه الرؤية ببساطة إلى الإقرار بأنَّ التنمية البشرية والتغير الاجتماعي والتاريخي لهما حدود (وقيود) حقيقية، وأنَّ هذه الحدود إيكولوجية إلى حد كبير، كما يشير إدموند بيرك وكينيث بوميرانتز في "البيئة وتاريخ العالم" . كنت قد جادلت في مكان آخر أن خلاصة المجموعة الموسوعية لجمال حمدان "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان"، تتلخص في نتيجة واحدة: لا يمكن لمصر إلا أن تكون عربية، وأيضاً لا يمكن لمصر إلا أن تعادي الكيان الصهيوني وجودياً. 

لتعرف ذلك بالتفصيل، ما عليك إلا أن تقرأ عرض حمدان العبقري لعلاقة جغرافيا مصر بتاريخها، ولتفاعل الزمان والمكان اللذين أنتجا "مجالها التاريخي"، ولمكان ومكانة مصر التي أنتجتها "الملحمة الكبرى للجغرافيا" التي أرَّخ لها حمدان.

ولهذا، لا يمكن إدراك تبعات الأوبئة جدّياً إلا بفهم تأثيراتها في الوقائع والتحولات العميقة للمجتمعات (النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحتى الحضارية)، أو على "المدى الطويل"، وليس في حياة الأفراد القصيرة نسبياً، والتي لها زمنها الخاص والسريع، كما يجادل فرنان بروديل في "المتوسّط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني" ، فهذه التحولات العميقة لها زمنها الخاص الآخر والمُختلف أيضاً، الذي تحدث فيه التحولات بوتائر أعمق كثيراً، وفي أزمنة أشدّ بطئاً. 

ولهذا، فإنَّها تحدث وتبقى عادة خارج حدود وعي الأفراد والجماعات، وحتى المؤرخين والخبراء أحياناً، فقد يظهر سقوط الإمبراطوريات في سياق "زمن حياة الأفراد"، نتيجة لسبب مباشر وواضح، كهزيمة عسكرية كبرى مثلاً، أو بسبب عدم كفاءة رئيس أو إمبراطور (كما يتم لَوْم "رومولوس أوغسطس"، الإمبراطور الأخير للإمبراطورية الرومانية الغربية الذي حكم خلال الأعوام (460-476)، لكن الفهم العميق يتطلَّب إدراك الأحداث في سياق الزمن الاجتماعي والجغرافي الطويل والبعيد المدى. 

حينها فقط، ستبدو الأحداث التي نعيشها كأفراد، وربما نعتبرها حاسمة جداً أحياناً، "القشة التي قصمت ظهر البعير" فقط، كما يقول العرب، فحتى إدوارد غيبون، المرجع التاريخي الأهم لتاريخ الإمبراطورية الرومانية، وصل إلى نتيجة مشابهة، رغم أن النمط التفسيري الجديد للتاريخ لم يكن قد تطوَّر أصلاً في زمنه، فهو يجادل في الجزء الثالث من سداسيته "تاريخ أفول وسقوط الإمبراطورية الرومانية" أن "ازدهار (الإمبراطورية) قاد إلى نضج (أو تَخَمُّر) حالة التعفن والانحلال، فيما تضاعفت أسباب الخراب مع كل غزو جديد قامت به الإمبراطورية". ولهذا، "بمجرّد أن يُقَوِّض الزمن أو حدث ما الحوامل الاصطناعية، فإن النسيج الهائل (للإمبراطورية) سينهار تحت ضغط وزنه الكبير" . 

سقوط روما.. صعود الصين

مع تأسيس سلالة سونغ في العام 960م، كتب ويليام ماكنيل: "انتشر نظام بيروقراطي ناجح نسبياً في معظم أنحاء الصين، وأصبح النمط العقلاني المتميز لتدريب كبار المسؤولين واختيارهم أمراً طبيعياً وعادياً. وفيما لا يفترض أحد أن القمع الرسمي قد توقف تماماً، إلا أنَّ نطاقه كان أقل كثيراً في عهد سلالة سونغ مما كان عليه في الأزمنة السابقة. 

وفي الوقت نفسه، كان الإشراف المنهجي للطبقة الحاكمة يميل إلى التحقق أكثر مما سبق من الفساد الصارخ والحد منه. ويثبت التوسّع الهائل للسكّان في الجنوب أنه تم تحديد الإيجارات والضّرائب التقليديّة على مستوى يسمح للفلاحين بالازدهار من عملهم الشاق في الحقول، على الأقل ما دام كان يمكن إضافة أراضي جديدة كافية للزراعة لاستيعاب فائض النسل" .

ما كتبه ماكنيل أعلاه يمثّل الفارق الأساسي الَّذي ميَّز الصين وتعاطيها مع الأوبئة في تلك المرحلة (القرن العاشر) عن الإمبراطورية الرومانية قبلها بقرون، وقاد إلى تفوّق النموذج الصيني ونجاحه نسبياً، فيما قاد النموذج الآخر الذي أسهم في زيادة الاختلال في العلاقة بين الطفيليات الصغرى (الفيروسات) والكبرى (بفرض المزيد من الضرائب ونهب أطراف الإمبراطورية والفقراء رغم معاناتهم من الأوبئة) لزوال الإمبراطورية الرومانية، فبحلول العام 1200، بلغ عدد سكان الصين حوالى 100 مليون نسمة، وبدأت الكثافة السكانية التي أصبحت مألوفة لاحقاً تظهر في وادي النهر الأصفر ونهر اليانغتسي والمناطق الجنوبية لأول مرة في تاريخ الصين الطويل، بعد انتكاسات كبرى أصابت النموّ السكّاني على مدى قرون مضت، وأدَّت في أحيان كثيرة إلى انخفاض حاد جداً في عدد السكّان بسبب الأوبئة . 

ورغم تشابه أداء بعض السلالات التي حكمت الصين وطريقة عمل إداراتها لنماذج الحكم في أوروبا ومنطقة المتوسط في مواجهة الأوبئة في القرون السابقة، كان نجاح نموذج سلالة سونغ (960 - 1279) يعتمد أساساً على الوصول إلى توازن (أو الحد من الخلل على الأقل) بين التطفل الصغير أو الجزئي (الفيروسات)، والتطفّل الكلي أو الكبير (توزيع الدخل والثروة)، عبر تغيير علاقات توزيع فائض القيمة لصالح المنتجين الحقيقيين. 
وإضافة إلى الحاجة لمواجهة الطفيليات الدقيقة والتأقلم مع الظروف البيئية في وادي اليانغتسي والمناطق الجنوبية تحديداً، حيث انتشرت الأوبئة، وواجه السكان بسببها ما يشبه الإبادة في حالات عديدة، كانت هناك أيضاً ضرورة لإعادة النظر في العلاقات الإنتاجية وتغيير آليات ونسب التوزيع، حتى يتمكَّنوا من مواجهة الوباء وتعويض الخسائر السكانية والاقتصادية. 

ولهذا، لجأت البيروقراطية الجديدة (في الصين) إلى تقنين وتنظيم التطفل الكلي المنظم المتمثل بالنهب "الشرعي" لكبار الملاك والضرائب التي فرضتها بيروقراطية الدولة، وحصص كل من عاش على حساب المنتجين الحقيقيين.

هكذا، مكَّنت هذه السياسة الفلاحين الصينيين من الاحتفاظ بما يكفي من إنتاجهم، ليتمكنوا من تعويض خسائرهم البشرية والمادية، عبر الحد من تغول التطفل الكبير. وهكذا أيضاً تمكَّن الفلاحون من الحفاظ على معدل زيادة طبيعية أو نمو سكاني كبير على مدى عدة أجيال، وبدأت بعدها ملايين من البشر تملأ مزارع الأرز في المساحات الشاسعة نسبياً في وسط الصين وجنوبها.

ولأنَّ الخلل في العلاقة بين التطفّل الصغير والتطفّل الكبير أسَّس لتعفّن، ولاحقاً سقوط إمبراطوريات، أو انهيار سلالات إمبراطورية، فإنَّ النمط التفسيري للتاريخ الذي تعتمده هذه المحاولة، يمكنه أن يضيء على مدى خطر الاقتصاد النيوليبرالي في المواجهة التي تقودها الإنسانية هذه الأيام مع وباء كورونا. 

القضية، كما سنرى، لا يمكن حصرها فقط في تبعات الحدّ الكبير من الإنفاق الاجتماعي والصحي أو في خصخصة المنظومات الصحية. الخلل الراهن والحاد في العلاقة بين التطفل الصغير والتطفل الكبير، سيجعل المواجهة، أو حتى مجرد التأقلم، مع وباء "كوفيد 19"، أصعب بما لا يقاس مما لو كانت الإنسانية تتبنّى نموذجاً اقتصادياً اجتماعياً أكثر عدالة وأقلّ نهب بالحد الأدنى.

لكنَّ الأهم حتى من هذا القلق، هو الدّور الذي أدّته، ويمكن أن تؤدّيه، الأوبئة في التحوّلات التاريخيّة والاجتماعيّة العميقة بعيدة المدى، والتي ساهمت في صعود إمبراطوريات وسقوطها، وفي إبادة شعوب وثقافات عمرها آلاف السنين، وغيّرت مسار التاريخ. 

ما سوف يلي مجرد تمرين في استشراف المستقبل يعتمد قصَّة 3 مدن طفيلية عاشت أو تعيش على نهب الأطراف في صعودها (روما، لندن، وشيكاغو)، لكن التغوّل في التطفّل الكبير (النهب)، وخصوصاً في فترة تصاعد التطفّل الصغير (الأوبئة)، قد يؤدي على المدى البعيد إلى عجز الأطراف عن إسناد وزن الإمبراطوريات القائمة على النهب، فتنهار. هكذا سقطت روما.
يتبع...

المراجع

  Kyle Harper. 2017. “The Fate of Rome: Climate, Disease, and the End of the Roman Empire.” Princeton: Princeton University Press. P. 2
  “The Fate of Rome”. P. 3
  https://en.wikisource.org/wiki/Nicene_and_Post-Nicene_Fathers:_Series_II/Volume_VI/The_Letters_of_St._Jerome/Letter_27
  فيرجيل، "الإنياذة"، الكتاب الأول: 371 - 375.
  Edmund Burke and Kenneth Pomerantz. 2009. “The Environment and World History”. Berkley: University of California Press. 
  Fernand Braudel. 1995. “The Mediterranean and the Mediterranean World in the Age of Philip II”. Berkley: University of California Press. 
  Edward Gibbon. (1782) 1843. “History of the Decline and Fall of the Roman Empire”. V3. Pp. 1705 (iBook)  William McNeill. 1976. “Plagues and People”. NY: Anchor Books. Pp. 122-123


 "هناك سبب كافٍ للاعتقاد بأن عدد سكان الصين انخفض بشكل حاد من إجمالي 58 مليوناً ونصف مليون مسجلين في العام 2 ميلادية"، يقول ويليام ماكنيل، فكما كان "الحال في مناطق البحر الأبيض المتوسط حينها، أدى التعفن السكاني إلى تعطيل الإدارة، فيما كانت السجلات التي تم الحفاظ (والعثور) عليها مجزأة وغير موثوقة، لكن عندما حصل تعداد آخر يمكن الاعتماد عليه أكثر للصين في العام 742م، كان عدد المواقد (مواقد الطبخ) المسجّلة حوالى 8.9 مليون موقد، بينما في العام 2م، تم تسجيل إجمالي 12.3 مليون موقد. وفيما تشير العوائد الإحصائية المجزأة المختلفة إلى انخفاض كبير في عدد السكان في أجزاء معينة من الصين، وخصوصاً في الجنوب، ربما بسبب الأمن مقارنة بمناطق أخرى، بسبب الغارات البدوية أكبر من موازنته بخطر المرض الثقيل المسؤول عن النقص في عدد الفلاحين الذين يتبعون أسلوب الزراعة الصيني. فبحلول منتصف القرن الخامس، على سبيل المثال، لم تسجل المنطقة المحيطة بنانجينغ في منتصف نهر اليانغتسي سوى خُمس (20%) عدد المواقد التي تم تسجيلها في العام 140. وفي حين أن التعفّن السكاني في الشمال كان كبيراً، لم يكن كبيراً نسبياً مقارنة بالجنوب" (ص: 119-120).