إمبراطوريات وأوبئة: منظور بعيد المدى (3)

كما كان صعود بعض "المدن المستوطنات" يرمز إلى قوة العالم "الأنكلوساكسوني" وسطوته، فإنَّ تبعات أفولها الجاري الآن على العالم، ستكون أكبر حتى من تبعات سقوط روما.

  • إمبراطوريات وأوبئة: منظور بعيد المدى (3)
    إمبراطوريات وأوبئة: منظور بعيد المدى (3)

كانت روما، فعلاً، مدينة مدهشة واستثنائية بكلِّ المقاييس في زمنها. وصفها الشّاعر الروماني كلوديان بأنَّها "أعظم من أيِّ مدينة أخرى يحيط بها الهواء على وجه الأرض"، مضيفاً أنَّ "عظمتها أكبر بكثير من أن تستطيع أي عَينٍ أن تراها كلّها، وأنَّ سحرها أكبر بكثير مما يمكن لأي عقل أن يدرك".

ولأنَّ روما، المدينة، كانت رمز قوة الإمبراطورية ورمز عظمتها، فقد تمتَّع سكانها، القريبون من مليون نسمة حينها، بوسائل راحة وامتيازات غير مسبوقة من قبل على نطاق إمبراطوري. ففي مَسْحٍ يعود إلى القرن الرابع، كان في روما حينها "28 مكتبة، و19 قناة مائية، وسيركان (من سيرك)، و37 بوابة، و423 حياً سكنياً، و46602 مبنى سكني، و1790 بيتاً ضخماً (قصراً)، و290 صومعة حبوب، و856 حماماً عاماً، و1352 خزان مياه، و254 مخبزاً، و144 مرحاضاً عاماً، وحتى 46 بيت دعارة"[i]. 

لكن روما التي نشأت من بدايات متواضعة جداً، كما رأينا سابقاً، لم يكن ممكناً لها (أو حتى لكلِّ إيطاليا حينها) أن تُمَوِّل وسائل الراحة والبذخ والمعيشة الهائلة التكاليف التي وفّرتها المدينة. وإذا كان البعض يرى في ما وفَّرته روما لسكانها دليلاً على عظمة المدينة وعظمة الإمبراطورية، فإنَّها في الحقيقة دليل أكبر على مدى طفيلية المدينة واعتمادها على النهب الفاحش لأطراف الإمبراطورية.

لهذا، كان سقوط المدينة وسقوط الإمبراطورية لاحقاً، من ضمن أسباب عديدة، من تبعات انهيار الأطراف التي عانت من تغوّل تطفّل مزدوج[ii]، ففي الفترة التي عانت منها أطراف الإمبراطورية من الفيروسات والأوبئة (التطفل الجزئي)، ازداد النهب والضرائب لتمويل عمليات الإمبراطورية وأسلوب حياة المدينة الطفيلية (التطفل الكلي) عليها - بدلاً من تخفيف التطفل والنهب، كما فعلت سلالة سونغ في الصين بعدها بقرون لمساعدة الأطراف على مواجهة الأوبئة.

ولهذا، إذا كانت روما استثنائية فعلاً، وإذا لم يكن هناك مدن أخرى مثلها على "وجه الأرض"، فلم يكن ذلك حقاً لأنها كانت عظيمة بحد ذاتها، كما ادعى كلوديان، بل لأنه لم يكن خلف المدن الأخرى إمبراطوريات قادرة على النهب وتمويل البذخ الإمبراطوري الذي تمتَّعت به، لكن حال روما حينها شبيه بحال أغلب المدن الكبرى، حتى الحديثة منها، كما سنرى في حالتي لندن وشيكاغو. 

وفي حالة ما أسميه "المدينة المستوطنة"، من مثل لندن وشيكاغو وملبورن ونيويورك وغيرها من المستوطنات، فإن التطفّل الكلي لبعض المدن لم يصل فقط إلى حد غير مسبوق في تغوّله، ولكنّه امتد ليصل إلى كلّ أركان الأرض. هكذا يصبح مصير الإمبراطورية التي تصعد بتغول تطفّلها. تسقط أيضاً، وتحفر قبرها، بسبب هذا التطفل، وخصوصاً إذا كانت الأطراف تعاني من التطفّل الصّغير أيضاً. 

لهذا، فكما كان (أو لا يزال) صعود بعض هذه المدن يرمز إلى قوة العالم "الأنكلوساكسوني" وسطوته، فإنَّ تبعات أفولها الجاري الآن على العالم، ستكون أكبر حتى من تبعات سقوط روما، وخصوصاً أن الخلل بين التطفل الكبير والصغير محلياً وعالمياً يتفاقم ويتصاعد أكثر في سياق النموذج النيوليبرالي المتوحش.

المدينة والتطفّل الكلّي

نموذج المدينة هو أفضل الخيارات الممكنة لاستعراض جدليّة الطفيليات الكبرى والصغرى وتبعاتها، وبالتالي تفسير دور الأوبئة في التاريخ، وحتى جدليّة صعود الإمبراطوريات وأفولها، لا لأنّ المدينة تمثّل نموذج التطفل الأقصى الممكن و"مص دماء" الأطراف فقط، ولا لأنّ "المدن المستوطنات"، والمدن الأوروبية عموماً، وَسَّعَتْ مجال تطفّلها واعتمادها إلى خارج حدود الدولة – الأمّة، ليصل إلى العالم كله أيضاً، بل بسبب طبيعة وبنية المدينة التي تشبه الإمبراطورية ذاتها، أو أنها، بتطفلها، تشكّل صورة مصغّرة عنها، فالدّور الذي تؤدّيه المدينة في تصعيد الخلل بين التطفّل الكبير والصّغير يجعل الأوبئة أكثر فتكاً في الأطراف، وبالتالي حتمية تأثيره فيها وسقوطها لاحقاً.

كذلك، يمكن أن نجد بعض آليات (وتفسيرات) صعود الإمبراطوريات وأفولها في بنية المدينة وطبيعتها، أو المشهد الحضري بحدّ ذاته. بشكل أدق، هناك علاقة تاريخية بين الأوبئة (ودورها في التاريخ) وتحولات صِيَغْ الاجتماع الإنساني التي قادت، وتقود، باستمرار إلى اضطراب وخلل في العلاقة التي تربط الأمراض المعدية والأوبئة (الطفيليات) وصِيَغْ الاجتماع الإنساني المتغيرة. 

منذ العصر الحجري الحديث، أو ما يسمى "الثورة الحجرية الجديدة"، والتي ترافقت مع بداية استقرار البشرية في مجتمعات ثابتة (قبل 12 ألف عام تقريباً)، وتحديداً في ما يطلق عليه "العالم القديم" (أي آسيا وأفريقيا وأوروبا)، أصبحت الميول التاريخية إلى أن تكون الأوبئة أشدّ فتكاً مما سبق، فالاستقرار الإنساني، ولاحقاً التبادل والتواصل بين المجتمعات، هو ما جعل الأوبئة أكثر انتشاراً وفتكاً، وليست الفكرة السّاذجة السّائدة بأنّ هذه الأوبئة أو الفيروسات تظهر (أو تتطوّر) فجأة (رغم أن وباء الإيدز انتشر في الثمانينيات من القرن الماضي، يجادل وليام ماكنيل أنَّ الأدلّة على وجود فيروس "أتش آي في" قبل هذا التاريخ بعقود على الأقل، إن لم نقل قروناً، تؤكّد أن تحوّلات ما في صيغة الاجتماع الإنساني قد تكون أحد الأسباب وراء انتشاره). 

ففي المرحلة الَّتي سبقت العصر الحجري الجديد، وقبل استقرار البشر في تجمّعات كبيرة وبداية ظهور التطفّل الكبير، عَرَف البشر أيضاً الكثير من الأوبئة الفتاكة، لكنَّ قضاء الأوبئة على مجموعة بشرية ما، كلياً أو جزئياً، لم يكن ليؤثر في مجموعات أخرى بعيدة منها، لا تتبادل ولا تتواصل معها، والأهم لا تعتمد عليها في تمويل استمرارها.

هذا تحديداً هو السبب الرئيسي الذي وَضَعَ العالم القديم (أوروبا وآسيا) في موقع امتياز كبير جداً في مقابل ما سمي بـ "العالم الجديد" (الأميركيتين وأستراليا)، وجعل من الأوبئة، كما يجادل ألفريد كروسبي،[iii] أحد عوامل انتصاره وصعوده على حساب الشعوب الأصلية التي أُبيد بعضها إلى الأبد، فَتَأخُر الانتقال إلى العصر الحجري الجديد في "العالم الجديد" لآلاف السنين عن "العالم القديم"، وبالتالي تَأخُر ظهور الاستقرار، واختلاف صيغ الاجتماع الإنساني فيه عن العالم القديم، حَرَمَ شعوبه من تجربة الأمراض، وبالتالي إمكانية التكيُّف معها أو اكتساب مناعة مناسبة لها لاحقاً (وهذا له أسبابه الإيكولوجية والتاريخية طبعاً، وليس بينها مطلقاً أيّ "تفوق" أوروبي، أو أي خصوصية ثقافية بهذه الشعوب).

لذلك، كان اللقاء الأوَّل بين شعوب العالمين مع الغزو الأوروبي للأميركيتين قاتلاً جداً، ودفعت الشعوب الأصلية في الأميركيتين، وفي أستراليا ونيوزيلندا، ثمناً باهظاً تجاوز في بعض الحالات الموت ذاته، ووصل حد الإبادة الثقافية - هذا يعني أنّ صعود بعض مدن المرحلة الاستعمارية (المدن المستعمرات) ارتبط مع (أو حتى كان مشروطاً بـِ) القضاء على الشعوب الأصلية وأنماط حياتهم وثقافاتهم إلى الأبد.

لهذا، لم تنجح المشاريع الاستعمارية الأوروبية في الأميركيتين وأستراليا لأي سبب ثقافي (وهذا تفسير عنصري له جمهوره)، ولم تنجح حتى نتيجة تفوّق عسكري أو تقني أو اقتصادي فقط، بل أدَّت الإيكولوجيا والبيولوجيا دوراً حاسماً أيضاً. 

"معجزة" شيكاغو: صعود العالم الأنغلوساكسوني

شيكاغو، لا نيويورك، هي "درّة تاج الهندسة المعمارية الأميركية". يكفي أن تتصفّح كتاب جون زوكوسكي "بناء شيكاغو: تُحَف الهندسة المعمارية"[iv] لتعرف أحد أسباب توصيف صعود هذه المدينة بـ"أحد أكثر الأشياء المدهشة في تاريخ الحضارة الحديثة"، كما ورد في أحد الاقتباسات عند جيمس بيليش في "تجديد الأرض: ثورة الاستيطان وصعود العالم الإنجليزي"[v].

يسرد لنا بيليش في كتابه جانباً واحداً ومهماً فقط من قصة هذه المدينة التي يمكن اعتبارها بامتياز النموذج المثالي لقصة صعود العالم الأنغلوساكسوني، فقصّة بناء شيكاغو المثيرة وصعودها، وكولونياليتها الديموغرافية، وتاريخها القصير جداً، تشبه كلّها إلى حد كبير قصة صعود العالم الأنغلوساكسوني ذاته وتمدده وهيمنته، ولاحقاً إعادة تشكيله للعالم كلّه وفق مقاييسه وشروطه ومصالحه، لكن كما يمكن لقصة مدينة أن تسرد صعود إمبراطورية وقصة عالم جديد، كما هو حال شيكاغو، يمكنها أيضاً أن تختزن قصة أفول هذا العالم وصعود عالم آخر، كما تعلّمنا قصة روما.

الاسم، شيكاغو، يأتي من الكلمة الهندية المحلية التي تعني حرفياً بالإنكليزية (skunk weed)، أو "عشبة الظربان" بالعربية، في دلالة على الرائحة الكريهة جداً التي ميّزت هذا المكان، رغم التحريف الّذي عمّمته لاحقاً الأسطورة المحلية السائدة هذه الأيام لتجميل هذه الحقيقة بغسل الاسم إلى "حقل الثوم البريّ". 

و"عشبة الظربان" هذه التي أصبحت لاحقاً "معجزة الحضارة (الغربية) الحديثة"، لم تَعرف حتى نهاية النصف الأول من القرن التاسع عشر تقريباً أيّ وجود إنساني حضري مستقرّ على الإطلاق، فحتى نهاية أعوام العقد الرابع من ذلك القرن (نهايات العام 1830)، "تألّفت شيكاغو من "حوالى نصف دزينة" من المنازل فقط، وعدد قليل من الخيم الهندية، وفندق واحد"، إضافةً إلى مركز تجاري فرنسي وحصن أميركي صغير.

حينها، أي في نهاية الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، كان عدد سكّان المدينة ما بين 50 - 100 إنسان فقط، وهو العدد نفسه الذي كان عليه أيضاً لسنوات عديدة قبل ذلك، عندما كان عدد دافعي الضرائب فيها، ولسنوات، 14 شخصاً فقط (على اعتبار أن عدد دافعي الضرائب طريقة لتقدير عدد السكّان)[vi]، ثم حصلت "المعجزة".

بعد أقل من 60 عامًا فقط (في العام 1890)، وعلى الرغم من العوائق العديدة والهائلة التي عرفها صعود هذه المدينة، كالحريق الشهير الذي أتى على المدينة كلها تقريباً في العام 1871، أصبحت منازل شيكاغو الستة أول وأكثر ناطحات السحاب العنقودية كثافة في العالم، وبلغ عدد سكانها حينها 1.1 مليون نسمة (يقارب عدد سكان شيكاغو الكبرى هذه الأيام 10 ملايين إنسان)، و"في عمر جيل واحد فقط، نما "حقل الثوم البري" كريه الرائحة هذا إلى ما يقارب ضعف حجم مدينة روما أو القاهرة" التاريخيتين. 

طبعاً، غالباً ما يسود التفسير بأن هذه النوعية من المدن أصبحت ممكنة ومستدامة بسبب الثورة الصناعية - الزراعية الحديثة الضخمة التي قادت إلى طفرات غير مسبوقة في إنتاجية الزراعة (خفضت المكننة ساعات العمالة المطلوبة لإنتاج هكتار من القمح من 150 ساعة إلى 9 ساعات فقط)، فما بين الآلات الجديدة والتقنيات الزراعية الأفضل، وما بين استخدام أسمدة جديدة وبذور محسنة، إضافةً إلى تربية الماشية بعناية، زادت الإنتاجية ما بين العامين 1750 - 2000 أكثر من 10 أضعاف، ما جعل توفير حاجات هذه المدن الطفيلية من الأرياف والأطراف ممكناً ومستداماً، فيما كان للاستخدام الواسع للكهرباء ومحركات البترول أيضاً أثر هائل في تحسين شروط العيش في المدن. 

لكن ربما يكون بالأهمية ذاتها أيضاً السياق الاستعماري الاستيطاني، فالظروف الاستعمارية الاستيطانية وفرت إمكانية غير مسبوقة لتصعيد التطفّل الكبير. هكذا فعلاً صعد عالم "الأنغلوساكسون" ومدنه وما يسمى "حضارته" أيضاً.

لكنّ دهشة الأميركيين، أو بشكل أدق من أصرّ منهم على التصنيف العرقي بـ"الأنغلوساكسون"، بنموذج شيكاغو، وبأنفسهم أيضاً، كانت هائلة، إلى درجة أنهم "أدهشوا أنفسهم" بهذا الإنجاز، فلم يستطيعوا، وحتى لم يقبلوا، التفكير في صعود هذه المدينة وفق الشروط التاريخية التقليدية لصعود المدن أو حتى فهمها كـ"مدينة مستوطنة"، في سياق موجة الاستعمار الاستيطاني الأبيض والنهب الأوروبي الذي اجتاح العالم حينها - رغم الاختلاف في الشروط التاريخية لنشوء وتمدد مدينة لندن عن شيكاغو، إلا أن صعودها (أي لندن) الصاروخي أيضاً في القرن التاسع عشر، عمّا كانت عليه قبل ذلك في فترة بسيطة، يدين أيضاً للنهب الإمبريالي للعالم، كما سنرى بعد قليل. 

لهذا، ولأكثر من قرن، ظلت السردية تتحدث عن معجزة الأنغلوساكسون الحضرية المدهشة، فحتى قبل اندلاع الحريق الكبير في العام 1871، لم يكتفوا بتوصيف صعود شيكاغو بـ "أحد أكثر الأشياء المدهشة في تاريخ الحضارة الحديثة"، كما يخبرنا بيليش، لكن "عظمة" شيكاغو كانت عندهم رمز "عظمة" أميركا ذاتها: "أميركا عظيمة وشيكاغو نبيها". شيكاغو هي روما إمبراطورية الأنغلوساكسون.

ربما يكون صعود شيكاغو مدهشاً، كما كانت روما في زمنها، وربما تكون شيكاغو حتى أحد "أجمل" المدن الأميركية وأكثرها حداثة، لكن كل ذلك كان بفضل التاريخ وليس رغماً عنه. وهكذا أيضاً كان صعود روما التي لا تزال تفتن مؤرخي الغرب، وهكذا كان أيضاً أفولها – كان صعودها (وأفولها) أيضاً بفضل التاريخ وفعله، وليس رغماً عنه.

لندن: التطفّل الأقصى 

لم يكن على أصحاب الخيال "الأنغلوساكسوني" سوى تصفّح القليل من تاريخ بعض المدن العظيمة الأخرى ليدركوا أولاً أن فكرة العِرق "الأنغلوساكسوني" الذي ينسبون إليه جوهرانية عرقية أو ثقافية لتفسير ما ظنوا أنه "تفوق"، ليست أكثر من خيال وأسطورة حديثة اخترعت في العصر الحديث لتبرير همجية الإمبريالية الأوروبية. وثانياً، إن مدناً، كبغداد العربية في العهد العباسي، أو كاي فنغ وبيجين الصينية، أو حتى روما، كانت كلها مدعاة للدهشة والإعجاب أكثر بكثير مما يمكن لشيكاغو، أو حتى أي مدينة حديثة أخرى، أن تفعل. ورغم ذلك، لم تُنسب عظمة هذه المدن (كما في حالتي بغداد وكاي فنغ على الأقل) إلى تفوق عرقي أو ثقافي أو إلى اختيار إلهي. 

أهمية شيكاغو، ومثلها مدينة ملبورن في أستراليا، كما يخبرنا جيمس بيليش في "تجديد الأرض"، أنها تمثل قصة صعود العالم الأنغلوساكسوني وأفول كل ما عداه. ورغم أن هدف هذه المحاولة ليس التأريخ لصعود العالم الأنغلوساكسوني، بل استكشاف مدى طفيليته وطفيلية صعوده، فإن لندن وصعودها الصاروخي في أعقاب العام 1830 شكّلت نموذجاً للطفيليات الاستعمارية في حالتها الأقصى، فعدد سكان عاصمة العالم الناطق بالإنكليزية وصل إلى مليون نسمة للمرة الأولى في العام 1800، ثم تضاعف العدد إلى مليونين بعد 30 عاماً فقط (1830)، وتضاعفت مرة أخرى إلى 4 ملايين بحلول العام 1870. وبحلول العام 1920، كانت قد وصلت إلى عشرة ملايين.

ومثل لندن، كان لنيويورك، المدينة الأنغلوساكسونية الأخرى، حصّتها من الانفجار السكاني الذي شهده العالم الناطق بالإنكليزية مقارنة بالإمبراطوريات الأخرى - كانت أقل من 12% من عدد سكان روما في العام 1750 -وبحلول العام 1900، كانت 8 أضعافها، بعدد سكان وصل إلى 6 ملايين نسمة. 

ومن أجل فهم هذا الانفجار السكاني وصعود العالم الناطق بالإنكليزية (إنجلترا ومستعمراتها)، يكفي أن نعرف فقط أن بين العامين 1790 – 1930، زاد عدد سكان هذا العالم 16 مرة، متجاوزاً بذلك العالم الناطق بالإسبانية (إسبانيا ومستعمراتها)، ليصبح ضعفها في العام 1900، بعد أن كان أقل بكثير من نصفها في العام 1750، والعالم الروسي، والعالم الصيني. لم تكن صدفة، إذاً، ولا جوهرانية عابرة للتاريخ خاصة بالأنغلوساكسون، هي التي قادت إلى صعودهم وهيمنتهم على العالم في القرن التاسع عشر، وإلا، فإن أفول هذا العالم الذي يجري أمامنا سيشكّل معضلة للتفسير.

إن صعود لندن في هذا الوقت، وبهذه الطريقة، لم يكن عفوياً، بل ترافق مع أكبر عملية نهب للعالم في التاريخ، بحيث أصبحت لندن النموذج الطفيلي الخارق الذي لا ولم يتفوق عليه إلا نموذج المدن الأميركية لاحقاً، فما بين 1830 - 1850، كانت إنكلترا تأخذ من إيرلندا فقط (حتى لا نذكر الهند وأميركا الشمالية وباقي العالم الذي استعمرته) سنوياً 100 ألف رأس بقر، و200 ألف رأس من الأغنام والحملان، و400 ألف خنزير، و60-90 مليون بيضة، ما عدا الزبدة والجبنة ومنتجات الحليب الأخرى، إضافةً إلى 40% من ناتج القمح الإيرلندي (أو 90% من حاجة بريطانيا من القمح)[vii].

كانت إنكلترا تأخذ (حرفياً) هذه المنتجات، لأنها كانت حينها تحديداً تعيش ما عُرف بـ"المجاعة العظمى"، بسبب مرض أصاب محصول البطاطا (طعام الفقراء) بين العامين 1845 - 1849، ما تسبب بخسارة 25% من السكان، بسبب الموت جوعاً أو الهجرة.

لم تكن إيرلندا فقيرة أو بحاجة إلى المساعدة، ولم يكن على أهلها الموت جوعاً أو الهجرة، ففي الوقت الَّذي كان خيار الكثير من الإنكليز إما الموت جوعاً وإما الهجرة، كانت حاجة القوارض البشرية التي تقطن لندن تتزايد باطراد، وبالتالي، كان نهب إيرلندا وغيرها من المستعمرات يتصاعد.

اللافت أنّ التطفّل الإنكليزي تفاقم أكثر بعد "الثورة الصناعية". وبالتالي، فإن من يظن أن الثروة والبذخ الذي عاشته لندن خصوصاً، وإنكلترا عموماً، كان نتيجة "العبقرية" الإنكليزية وثورتها الصناعية، فهو مخطئ جداً. ما فعلته الثورة الصناعية، في الحقيقة، هو تسهيل النهب وتفاقمه بشكل غير مسبوق، وحتى غير قابل للتخيل قبلها بسنين، فما بعد العام 1815، تصاعد تصدير الحيوانات والمنتجات من إيرلندا، مثلاً، بسبب تطوّر وسائل النقل البحري ودخول المحركات البخارية التي قصرت زمن الرحلة من 7 أيام إلى أقل من 14 ساعة فقط. هكذا، تزايد نهب إنكلترا لإيرلندا 5 أضعاف بين العامين 1785 - 1815 فقط.

لكن مع الثورة الصناعية أيضاً، لم يتصاعد النهب فقط، بل تصاعدت أيضاً عملية إعادة توجيه الاقتصاد الكلي، أو إعادة تشكيل البُنى الاقتصادية للمستعمرات لصالح إنكلترا، وبحسب حاجاتها، وليس بحسب حاجات سكان هذه المستعمرات. حينها، دخل النهب والتطفل الكبير مرحلة جديدة غير مسبوقة في التاريخ. هكذا خُلق العالم الثالث.

يتبع..


 
[i] Kyle Harper. 2017. “The Fate of Rome: Climate, Disease, and the End of the Roman Empire.” Princeton: Princeton University Press. P. 1

 
[ii] لم يكن تفشّي المرض شيئاً جديداً في التاريخ الروماني، ففي القرن الثاني الميلادي، سجَّل المؤرخون ما لا يقل عن 11 حالة من الكوارث المرضية في العصور الجمهورية، كان أقدمها في العام 387 ق.م. أما في عصر الإمبراطورية، فقد بدأ المرض ينتشر في العام 165 بعد الميلاد، وانتقل إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط في البداية من قبل القوات التي كانت تقوم بحملات عسكرية، وانتشر لاحقاً في جميع أنحاء الإمبراطورية في السنوات التالية. ورغم أنه لا يوجد اتفاق على طبيعة المرض، فإن "الطاعون" أو "الجدري" هما الأكثر ترشيحاً بناء على الأدلة المتوفرة. استمر انتشار الوباء لأكثر من 15 عاماً، واستفحل في أماكن مختلفة من سنة إلى أخرى من سنة، وكان يعود أحياناً إلى المدن المتضررة سابقاً.

 
[iii] Alfred Crosby. 2004. “Ecological Imperialism: The Biological Expansion of Europe, 900-1900”. Cambridge: Cambridge University Press

 
[iv] John Zukowsky. 2016. Building Chicago: The Architectural Masterwork. NY: Rizzoli

 
[v] James Belich. 2009. Replenishing the Earth: The Settler Revolution And The Rise Of The Angloworld. Oxford: Oxford University Press. 
 
[vi] “Replenishing the Earth.” P. 1-2 
[vii] Replenishing the Earth, P.446