عصرُ الجدران

إنه عصر الجدران، ليس فقط الجدران الإسمنتية، وهي كانت عشية سقوط جدار برلين 16 جداراً تحمي حدوداً حول العالم، فيما هي اليوم بحسب إليزابيت فاليه من جامعة كيبك 65 جداراً، بل أيضاً والأهم الجدران الأخرى اللامرئية الثقافية والاجتماعية والطبقية والاقتصادية التي تُنذر بحقبة جديدة مختلفة تماماً عما عهدناه.

لم يكن سقوط جدار برلين في العام ١٩٨٩ مجرد نهاية لحقبة تاريخية وبداية لأخرى.
لم يكن سقوط جدار برلين في العام  1989 مجرد نهاية لحقبة تاريخية وبداية لأخرى. الأحرى القول لم يُرَد لهذا السقوط أن يكون فقط فاصلاً بين حقبتين، بل أُريدَ له أن يكون إعلان انتصار جهة على أخرى، والمنتصر في عُرف منظِّرين كثيرين كان الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها، لا سيما وأن الاتحاد السوفياتي ومنظومته الشرقية آلَا إلى تفكك واندثار.
معظمنا يذكر أشهر نظريات تلك المرحلة التي قالت بنهاية التاريخ الإيديولوجي (راجع كتاب "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لِفرنسيس فوكوياما) واستقراره على صورة أخيرة ثابتة تمثلها الديمقراطيات الليبرالية الغربية بأبعادها المختلفة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، والتي ترفع لواء حقوق الإنسان وتفتح الحدود أمام ملايين اللاجئين والمهاجرين من شتى أصقاع الأرض، في تجاهل واضح لما ارتكبته تلك "الديمقراطيات" في حق الشعوب سواء بالإستعمار المباشر أو غير المباشر، وَقَفْزٍ فوق الأزمات البنيوية في تلك الأنظمة والتي تظهر الآن نتائجها الكارثية، بما في ذلك كارثة التمييز ضد المهاجرين الذين ظلوا مواطنين درجة ثانية، ولا يزال يعيش معظمهم على هامش المجتمع في أحياء أشبه بالغيتوات.

ليس بحثنا الآن في بطلان تلك الشعارات وزيفها، ولا في سقوط مقولة نهاية التاريخ الذي لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن ينتهي أو يستقر على صورة إيديولوجية واحدة وأخيرة ، لأن الحياة نفسها صيرورة متحركة لا كينونة ثابتة. ما نود الإشارة إليه الآن هو رمزية الجدار حين يعلو أو يسقط، خصوصاً وأن الجدران الآخذة في الارتفاع هنا وهناك ليست مجرد حدود عسكرية لِدولٍ تخشى على أمنها من الاختراق والإرهاب.
ثمة ما هو أبعد من ذلك وأعمق، فوز الأحزاب والتيارات اليمنية ودعاة الإنفصال في الانتخابات البلدية والبرلمانية، وتصاعد شعبيتها في معظم البلدان الأوروبية ليس موجة عابرة أو سطحية. العالم برمّته يدخل مرحلة نكوص وعودة إلى الوراء، ومن الضروري الإدراك أن هذا الأمر ما كان لِيَحدث لولا فشل تلك "الديمقراطيات" المزعومة في حل أزماتها البنيوية وإصرارها على سياسات الهيمنة على الشعوب، ونهب ثرواتها وخيراتها تحت ذرائع ومسميات مختلفة كان آخرها مزاعم نشر الديمقراطية ومحاربة الاستبداد، وعدم تورُّعها عن استخدام كل شيء بما في ذلك المنظمات الإرهابية كأدوات في صراعها مع خصومها، وإغراقها العديد من البلدان في الحروب والنزاعات.
هذه الإيديولوجية نفسها تسببت بقتل الملايين من الأبرياء وبخراب بلدان بحالها، وبالمزيد من الفقر والبطالة والتهميش وتصاعد مشاعر الغضب والنقمة واليأس، وأدت إلى تسونامي من النزوح والهجرة طلباً للأمن والأمان والعيش الكريم، ما وَلَّدَ هواجس ومخاوف لدى المجتمعات المستقرة التي استيقظت نزعاتها القومية والشوفينية بشكل يذكّر بتلك الأجواء التي سبقت الحربين العالميتين. 

لن نعود إلى مرحلة إسقاط الاتحاد السوفياتي وما تلاها من أحادية أميركية حاولت فرض سياسة القطب الأوحد على المعمورة. فما حدث منذ تسعينات القرن الماضي حتى اليوم بات معلوماً للقاصي والداني. فقط نشير إلى أن ما سُمِّيَ بالعولمة كان في الجوهر هيمنة رأسمالية على العالم واستعماراً غير مباشر تحت مسميات اقتصادية وأحلاف سياسية/ عسكرية ومحاور دولية/إقليمية تدور جميعها في الفلك الأميركي. من جملة ما فعلته هذه العولمة المتأمركة حتى الآن أنها عرَّت عالمين أمام بعضهما بعضاً، أحدهما غارقٌ في حروبه وأزماته والآخر يبدو للأول وكأنه الجنة الموعودة.

في المقابل، ما أن صحا العالم من سكرة انهيار الاتحاد السوفياتي ومعه حلف وارسو، حتى راحت تتبلور مقاومة متعددة الأشكال للهيمنة الأحادية، (لا يمكننا هنا نسيان هزيمة إسرائيل وفشل عدوان تموز 2006 الذي كان رأس حربة ما سُمِّي آنذاك بمشروع الشرق الأوسط الجديد) وأخذت في التصاعد حتى بلغت أوجها في التصدي لمحاولات تفتيت الكيانات وإسقاط الدول الوطنية وضرب الجيوش والتعامل مع الأوطان بوصفها مجموعة "مكونات" طائفية وعرقية وجهوية، وقد أدت الآلة الإعلامية الجهنمية دورها الفعّال في قلب المفاهيم والمصطلحات، وتضليل الرأي العام وهو ما أشرنا إليه في مقالة سابقة هنا بعنوان "إنها المؤامرة يا عزيزي".

في زمن الجدران المرتفعة ليس غريباً أن تكون إسرائيل أول المبادرين لبناء جدار فصل عنصري بحجة الحفاظ على أمنها من هجمات المقاومين الفلسطينيين. منطق "الصفاء العنصري" الذي قامت عليه دولة الاحتلال لا يختلف كثيراً عن خطاب شعبوي يدغدغ مشاعر شرائح واسعة في مجتمعات غربية كثيرة، وهي الشرائح نفسها المأخوذة بالخطاب اليميني العنصري الذي يُحمِّل المهاجرين واللاجئين كامل المسؤولية عن الأزمات الخانقة، ويتجاهل الأسباب الحقيقية الكامنة في صلب النظام الرأسمالي الذي لم يعد خاضعاً فقط لأصحاب المال المحليين بل بات خاضعاً لسطوة الشركات العملاقة العابرة للحدود، فضلاً عن سياسات الهيمنة وافتعال الحروب والأزمات وإغراق العالم في أتون أزمات اقتصادية عميقة وضعت الكوكب على حافة انفجار عظيم شعرت معه تلك الشرائح التي نعمت بنوع من الاستقرار والازدهار بعد الحرب العالمية الثانية أن مكتسباتها (التي تحقق جزء كبير منها على حساب شعوب أخرى) مهددة وهي على وشك الضياع لأن ثمة مَن يأتي لِيُشاركها تلك المكتسبات ويتسبب بالمشاكل والأزمات، متجاهلة كالعادة الأسباب الحقيقية التي أدت إليها.

بينما كان من المأمول أن تؤدي "الثورة الرقمية" التي سهَّلت التواصل بين البشر إلى مزيد من الانفتاح والتسامح والتفاعل بين الشعوب والثقافات حدث العكس تماماً، هاهو الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب يريد بناء جدار بين بلاده والمكسيك بطول 1600 كلم، وهذه بريطانيا وفرنسا تقيمان جداراً قرب كاليه لمنع عبور اللاجئين عبر بحر المانش، بولندا والمجر تفعلان الأمر نفسه، تركيا وإن لأسباب مختلفة تقيم جداراً على حدودها مع سوريا، وقبل كل هؤلاء جدار الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل على أرض فلسطين.
باختصار إنه عصر الجدران، ليس فقط الجدران الإسمنتية (وهي كانت عشية سقوط جدار برلين 16 جداراً تحمي حدوداً حول العالم، فيما هي اليوم بحسب إليزابيت فاليه من جامعة كيبك 65 جداراً) بل أيضاً والأهم الجدران الأخرى اللامرئية الثقافية والاجتماعية والطبقية والاقتصادية التي تُنذر بحقبة جديدة مختلفة تماماً عما عهدناه، مرحلة لا قيامة فيها ولا حياة لغير الشعوب التي تعرف كيف تستنبط أسباب قوتها وصمودها، وتبتكر أدواتها المعرفية في هذه المواجهة الضارية التي لا تقتصر رحاها على الجبهات والخنادق والمتاريس ...والجدران.