فرنسا تشرب من كأس ساركوزي وهولاند

ما كشفته مواكبة "الميادين" المكثّفة للحملات الرئاسية الفرنسية، يوضّح إلى حدٍ بعيد أن الثقافة السياسية التي أشاعها ردحاً بعض النُخب العربية عن مآثر الديمقراطية الغربية مبالَغة ترقى إلى التضليل أحياناً. فحجم المعلومات المعرفية التي نشرتها "الميادين"، استناداً إلى معطيات وتحليلات وفّرتها الحملات في العمق وفي قراءة الأحداث، تدل بما لا يقبل الشك بأن الدولة في فرنسا تتراجع عن الديمقراطية الاجتماعية التي كانت مألوفة بديهية، وتتراجع أيضاً عن أسس الجمهورية الضامنة للاستقرار الاجتماعي والسياسي.

الرئيس ساركوزي الذي حطّم عمق المجتمع الفرنسي، دمّر ليبيا وحاول ما استطاع إليه سبيلاً تحطيم سوريا والمنطقة
على مستوى واسع يظهر على الملأ للعرب عبر "الميادين"، أن الطقوس التي يبشّر بها تلاميذ خبراء الشركات الكبرى والمؤسسات الدولية في بلادنا تحتاج لإعادة النظر. وربما تحتاج إلى نقد ذاتي قد يفرض بعض القسوة على الذات حيناً لتنحية الأفكار الجاهزة جانباً. فلا الحريات الخاصة والعامة ولا محاربة الاستبداد والالتزام باختيار سلطة الحكم في صناديق الاقتراع، تحول من تصاعد الهمجيات ومن تهديد الدول بالشرخ والتفتيت. بل أن إعاقة الدولة عن القيام بدورها الاقتصادي ــ الاجتماعي وعن حماية أمنها القومي ومصالحها الوطنية العليا في المنظومة الدولية، هو الأساس في توليد الانهيار وانفجار المجتمعات.

الشرخ بين عالمي الرابحين والخاسرين من التحول عن الدولة إلى حرية السوق في فرنسا، هو استنتاج لواقع عنيد بات على كل لسان بعد أن حرره الإعلام مضطراً لتغطية ما يطفو على السطح خلال الحملات الانتخابية. وهو شرخ عامودي بين مراكز المدن وبين عمق الحواضر والأرياف. وبين المنتجين للثروة العامة وبين الصاعدين على رياح تحويل ثروات الحياة والطبيعة إلى مال في تجارة البيع المتحرر من أي قيد ثقافي أو اجتماعي وحتى أخلاقي. لكن هذا الشرخ الواسع تعيشه فرنسا والدول الأوروبية الأخرى منذ أكثر من ثلاثة عقود. وهو التحوّل الذي بدأ تزامنه مع تحوّل أوسع في المنظومة الدولية، كانت نقطة انطلاقه غزو العراق وإعادته في تدمير دولته إلى القرون الوسطى. فما كان بالغزو العسكري والثقافي والاقتصادي لتدمير دول منطقتنا، اقتصر في تمدده إلى المجتمعات الغربية على الغزو الاقتصادي في حرية الرساميل الكبرى وعلى الغزو الثقافي السياسي لمعجزات الحريات الفردية وحرية الاختيار. والمفارقة أن حركة المناهضة التي انطلقت لحظة هذا التحوّل في "سياتيل" العام ألفين، لم تلقَ صدى كبير بين معظم  النُخب العربية، على الرغم أن حركة المناهضة ضمّت كبار المثقفين المرموقين أمثال بورديو وزيغلير وشومسكي وأمثالهم. بل نمت في هذه الفترة أوسع ظاهرة سياسية عربية مساندة لمقولات حرية الرساميل، في الاقتصاد وفي الثقافة السياسية وفي تحطيم صورة الدولة.

الحملات الانتخابية الرئاسية التي استمرت تسعة أشهر كشفت للفرنسيين الخاسرين من التحوّل عن الدولة إلى السوق، أمام بعضهم البعض أن المنظومة تعصف بهم فرادى وقطاعات. وفي مواكبة "الميادين" التي تناولت الأسباب والنتائج عبر البحث المعرفي ومقاربة الأحداث اليومية، ربما تكشف بعضاً من اللغط الشائع في أن ما تعيشه بلادنا من أزمات وحروب هو نتيجة "تخلّفنا" بالمقارنة مع الدول المتحضّرة في الإشارة إلى الدول الغربية. فالأسباب نفسها تؤدي إلى النتائج نفسها في كل مكان، سوى أنها في بلادنا تترافق مع تدخل غربي محموم بالحرب والاستخبارات وبالتخطيط الاستراتيجي لوضع اليد على الثروات والبشر والحجر.

الرئيس نيكولا ساركوزي الذي حطّم عمق المجتمع الفرنسي، دمّر ليبيا وحاول ما استطاع إليه سبيلاً تحطيم سوريا والمنطقة، محامياً عن قوى النفوذ والاستحواذ في فرنسا والاتحاد الأوروبي. وما توقف عنده ساركوزي أخذه فرنسوا هولاند على عاتقه بمهارة أقل وسؤ طالع فاضح. ومن خلفهما تأمل قوى النفوذ في البورصات والبنوك وحرية السوق، أن ينجح ايمانويل ماكرون في حفظ الاستمرارية بقالب أكثر براعة. وفي هذا المجرى وضعوا الفرنسيين أمام الاختيار بين ماكرون ولوبان، لكن قسماً كبيراً من الفرنسيين الخاسرين يرفض الاختيار بين الطاعون والكوليرا كما يقولون.