سرديات نتانياهو صناعة أميركية

"لا يهم ما تقول. المهم ما يسمعون". هذه الفكرة التي تبدو بسيطة جداً هي في الحقيقة أساس إستراتيجية العلاقات العامة الصهيونية، كما تشرح وتفسر سلسلة رسائل الفيديو التي بدأ رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو بنشرها مؤخراً عبر وسائل التواصل الإجتماعي. فكان آخرها "الفيديو" الذي يصف فيه طلب إخلاء المستوطنات بالتطهير العرقي (9 أيلول/سبتمبر 2016).

"كيف تتحدث عن العرب في إسرائيل".
أصل هذه الفكرة، وجوهر سياسة تسويق الكيان الصهيوني الراهنة، تعود لدراسة أنجزتها مؤسسة "لونتز" الأميركية بين عامي 2008 و 2009 (في أعقاب العدوان على غزة) وتستهدف تحديداً مخاطبة المترددين والمحايدين في المجتمعات الغربية (وخصوصا الولايات المتحدة) في موضوع الصراع العربي ــ الصهيوني. تفترض الدراسة ألاّ فائدة تُرجى من محاولة إقناع الأنصار والمؤيدين وتركيز الجهود عليهم، "فهم سيؤيدونك ويناصرونك في كل الأحوال، أنت بحاجة لاستهداف المحايدين والمترددين في سوق العلاقات العامة الواسع" بحسب نصائحها.

 

هذه النصيحة التي وردت في تصدير وثيقة "قاموس اللغة العالمية" التي أعدها فرانك لونتز، صاحب مؤسسة "لونتز الدولية" للعلاقات العامة بطلب من "مشروع إسرائيل 2009" كمرجع للناطقين باسم الحكومة الصهيونية وكانت نتاج للدراسة السالفة الذكر، هي في الحقيقة جزء من شعار مؤسسة "لونتز" واستراتيجية عملها التسويقي: "لا يهم ما تقول. المهم ما يسمعون. إعرف جمهورك ـ آرائهم، مزاجهم، عواطفهم وهو ما يجعلهم يتناغمون معك أو يبتعدوا عنك".

 

الناطقون باسم الكيان الصهيوني إلتزموا حرفياً بنصوص الوثيقة في تسويقهم لصورة الكيان، رغم تفاوت كبير في الأداء بين مارك ريغيف (الناطق السابق باسم حكومة الكيان أثناء العدوان الأخير على غزة والسفير الصهيوني في لندن حالياً) على سبيل المثال، وبين خليفته المبتدئ في مكتب نتنياهو حالياً ديفيد كيز. ولم يخرج نتانياهو على النص في سلسلة رسائل "الفيديو" الأخيرة إلا نادراً.
فهو حين يصف طلب إخلاء المستوطنات بالتطهير العرقي ويساوي فيه حق المستوطنين في السكن في الضفة الغربية بحق الفلسطينيين الذين يقطنون أراضي 1948، لم يكن "ضربة معلم" أو "عبقرية في الدعاية"، كما أوحى تقرير للنيويورك تايمز (12 أيلول/سبتمبر 2016). بل كان النص الذي قرأه نتنياهو بمثابة نقل حرفي تقريباً للفصل الثامن (ص: 62-64) من وثيقة "قاموس اللغة العالمية"[i] التي أعدها لهم "فرانك لونتز". فعدى عن توجيهات "لونتز" المفصلة للمتحدثين الإسرائيليين بشأن ما يجب وما لا يجب قوله وبشأن الأفكار والكلمات المحددة التي يجب إستخدامها أو عدم إستخدامها. وقد جاء في الفصل الثامن من الوثيقة المعنون "المستوطنات" (ص: 62) ما نصه بالحرف:

 

"إذا أردنا أن يكون هناك سلام حقيقي، فإن الإسرائيليين والفلسطينيين سيعيشون جنباً إلى جنب. ففكرة مكان فيه فلسطينيون لا يمكن أن يكون فيه يهود، أي أن بعض المناطق يجب أن تكون خالية تماماً من اليهود هي فكرة عنصرية. نحن لا نقول أنه يجب أن نقوم بالتطهير العرقي للعرب من إسرائيل. إنهم مواطنون في إسرائيل يتمتعون بحقوق متساوية. لهذا لا يمكننا فهم لماذا يتطلب تحقيق السلام القيام بالتطهير العرقي لكل اليهود من أي منطقة فلسطينية. نحن لا نستطيع القبول بذلك. التطهير العرقي من قبل أي من الطرفين ضد الآخر غير مقبول".  

 

نص رسالتي "الفيديو" قبل الأخير الذي تحدث فيهما نتنياهو عن الأطفال الفلسطينيين مدعياً أن "الحكومة الإسرائيلية أكثر حرصاً عليهم من القيادة الفلسطينية التي تشرف على تلقينهم ثقافة الكراهية" (2 و 11 آب/أغسطس 2016)  هو نص مأخوذ أيضاً بالحرف من الفصل الخامس عشر من الوثيقة المعنون "كيف تتحدث عن الأطفال وثقافة الكراهية" (ص: 84-86). وكذلك "الفيديو" الذي سبقهما "رسالة إلى المواطنون العرب في "إسرائيل" (25 تموز/يوليو 2016) مأخوذ أيضاً حرفياً من الفصل الرابع عشر "كيف تتحدث عن العرب في إسرائيل" (ص:83 -84). 

لكن هذا الفيديو الموجه للمواطنين العرب، وغيره، يثير الاستغراب ويستوجب طرح السؤال: لماذا يخاطب نتنياهو العرب في الأراضي المحتلة عام 1948 (ومحمود عباس في فيديو آخر) باللغة الإنكليزية وحتى بدون ترجمة عربية للنص مع أن أغلبهم يتقن العبرية؟ هذا طبعاً سؤال بلاغي (والأسئلة البلاغية هي نصيحة آخر قدمها لونتز للناطقين الإسرائيليين)، فالرسالة باللغة الانكليزية  ليست موجهة لهم بقدر ما هي جزء من محاولة تسويق الكيان الصهيوني لدى الناطقين بالإنكليزية خارج الأراضي المحتلة.

 

لكن نموذج نتنياهو (والناطق باسم حكومته الجديد ديفيد كيز) هو نموذج للأداء الفاشل ولا يبدو أنه أدرك حقاً جوهر الوثيقة التي أُعدت لهم بعد دراسات مستفيضة حول ما يؤثر بالجمهور الغربي وكيفية مخاطبته. لقد عمد إلى قراءتها حرفياً كسرِ من الأسرار على الهواء، رغم أنه تم تسريبها ورغم معرفة العالم بها. وليس هناك دليل على هذا الفشل أكثر من ردة الفعل الدولية المستهزئة برسالة نتنياهو الأخيرة ومساواته طلب إخلاء المستوطنات المُجمع عليه دولياً بالتطهير العرقي. نتنياهو قرأ النص حرفيا ولم يلتفت (ومعه الناطق بإسمه، ديفيد كيز، الذي يبدو أنه صاحب فكرة رسائل الفيديو هذه) إلى ملاحظات لونتز بالتفصيل ومعناها، وبالتالي تطوير آلية ناجحة لاستخدامها.

فمنذ البداية تشير الوثيقة إلى أن المستوطنات هي "أصعب قضية تواجه إسرائيل على الإطلاق، والعداء تجاه المستوطنات وتجاه السياسة الاسرائيلية التي تشجع النشاط الإستيطاني هو واضح بشكل كبير" (ص: 62). كل الأبحاث والإستطلاعات التي قامت بها مؤسسة "لونتز" تشير إلى أنه لا يوجد "أصعب من صياغة موقف للمحايدين والمترددين الأميركيين والأوربيين من قضية الإستيطان". فمشكلة "إسرائيل"، كما يشير لونتز، هي مع الكلمة ذاتها: "فمن جاء بمصطلح "المستوطنات" وأدخله إلى قاموس التداول، حكم عليها بالفشل منذ البداية."(ص: 64). لهذا بالضبط نصح "لونتز" بضرورة الحديث الدائم عن "الإستعداد للتفاوض" والتذكير بنموذجي "إخلاء مستوطنات سيناء بعد كامب ديفيد" و"غزة لاحقاً"، والإصرار أن الموضوع أكبر من المستوطنات بحد ذاتها.

 

خرج نتنياهو قليلاً على النص الأميركي المعد سلفاً (نعم. حتى الدعاية للكيان صنعت في أميركا)، فكانت ردة الفعل الدولية المستنكرة والمستهزئة (نيويورك تايمز 12 أيلول/سبتمبر 2016). لكن ليست قدرات كل الناطقين باسم الكيان بمستوى تدني قدرات نتنياهو الإدراكية بالمقارنة من أخطر شخصية إعلامية صهيونية لعبت الدور الأبرز في العدوان الأخير على غزة واستفادت من وثيقة "لونتز" للحد الأقصى حينها وبعدها:

 

"اليوم تحتفل إسرائيل بـ #توباف، عيد الحب اليهودي #الحب هو كل ما هناك". هذه كانت تغريدة مارك ريغيف، سفير الكيان الصهيوني الحالي في بريطانيا في 19 آب/أغسطس الماضي. ريغيف، أرفق تغريدته بأربع صور لا يمكن إلا تكون مختارة بعناية فائقة. الصورة الاولى هي لجندييْن مثلييْن متشابكيْ الأيدي. الثانية لمستوطن راكع يطلب الزواج من حبيبته. الثالثة لجندي وحبيبته. والرابعة لعروس وعريس إثيوبيين توحي التغريدة والصورة أنهما اختارا الزواج في ذلك اليوم. هذه هي "إسرائيل" المتسامحة والمتعددة الحاضنة للمثليين والسود فتفرد للحب يوماً خاصاً كما يروج لها مارك ريغيف.

 

لم يخترع "لونتز" العجلة في وثيقته طبعاً، ولا كان ريغيف عبقري زمانه حين أخذ بما جاء فيها. ففي كتابهما "سياسة الكلمة: استراتيجية اللفظ بين القوى العظمى" (19) يذكرنا "توماس فرانك وإدوارد وايزباند" بعلاقة ما يقوله السياسيون والعناوين السياسية التي يصنعونها (وتحتل صدارة حديث السياسة والمشهد السياسي) أو علاقة الخطاب السياسي ببناء تصورات ومواقف ومبادئ للوصول الى الفعل المطلوب.

يرى "فرانك ووايزباند"، باختصار أنّ بلاغة الامم السياسية وفصاحتها، وخصوصاً القوى العظمى، لهما وزن مهم في السياسة الدولية لا يجب تجاهله. لهذا، كان "لسياسة الكلمة"، أو "الاستراتيجية اللفظية" كما يسمونها، دور في تأسيس مبادئ التعامل الأميركي مع قضية غواتيمالا في 1954، أزمة الصواريخ الكوبية، وجمهورية الدومينيكان (وهو ما استثمره الاتحاد السوفياتي لاحقاً). بمعنى، "الاستراتيجية اللفظية" للولايات المتحدة كقوة عظمى هي التي أسست لمبدأ حق التدخل لحماية مكانتها ومصالحها، وليس القانون الدولي. لكن الاتحاد السوفياتي، كقوة عظمى، استثمر ذلك المبدأ لمصلحته حين اقتضت الحاجة.

 

صحيح، إذن، أنه يجب علينا العمل دائماً على تفكيك ألغام بلاغيات الأمم والسياسيين لفهم ارتباطها بتأسيس مبادئ سياسية وتبرير السياسات والممارسة السياسية. صحيح أيضاً أن الحرب على غزة ولبنان، مثلاً، كما كل الحروب الحديثة لم تكن عسكرية بحتة، بل كان الإعلام وسرديات الحرب الإعلامية في قلب المجهود الحربي للكيان الصهيوني. وصحيح كذلك أن صراع السرديات وحرب الواقع والحقيقة مع معادلهما الافتراضي وتمثيلهما الإعلامي، هما في صلب المواجهة العربية مع الاستعمار الصهيوني في فلسطين. لكن العالم في نهاية الأمر عالم حقيقي تتصارع فيه إرادات حقيقية وبشر حقيقيون يكتبون النصوص ويصنعون السرديات، ولهذا ستظل الكلمة الفصل في النهاية للميدان. في حرب تموز 2006 لم يستطع كل الإعلام العالمي ومعه بعض الإعلام العربي من إنقاذ الكيان من هزيمته المرة ولا حتى من الحد من تبعاتها.