اللّي بنى مصر، كان في الأصل..سائق توك توك

تتغيّر الطبيعة الاجتماعية والديموغرافية، بل والأنثروبولوجية، وفقاً للتغيرات الاقتصادية. السلوك الاقتصادي الذي ينتهجه المجتمع، وعادة ما يكون مفروضاً عليه من قِبَل الساسة، تنتج منه طبيعة الأعمال والأشغال المُربِحة، ولكل عمل منهاج في التداول ومدرسة في التعامل، ما يؤثّر على شخصية المُشتغِل بهذا العمل بشكلٍ أو بآخر، كما يؤثّر النظام الاقتصادي السائِد على قِيَم وأعراف وتقاليد المجتمع، والسلوك البشري الجماعي، بما يتناسب مع الوضع الاقتصادي.

هذه بديهيات وجب الإشارة إليها لرصد السلوك المجتمعي المصري. في الماضي كان المصري فلاحاً، يتخلّق بما يلزم مهنة الزراعة من صبرٍ وصمتٍ وهدوء وتدبّر، ثم أصبح عاملاً، أو موظفاً، فزاد اختلاط الناس ببعضها البعض، وتنامى تضارب المصالح، فأصبح المصري أكثر حدّة، ومع تراجع الزراعة والصناعة، وتشجيع فكرة توظيف النفس والمشاريع الصغيرة، وجد المصريون أن أكثر مهنة كما يقال  في المثل المصري "كويسة ورخيصة وبنت ناس" هي مهنة "التوصيل". بقول آخر، قيادة أية مركبة كانت لتوصيل الناس إلى حيث ترغب. لا يُخفى على أحد أن هناك تكدساً سكانياً في المدن الكبرى وعلى رأسها القاهرة، مع الزحام والتكدّس، وزيادة وسائل المواصلات المختلفة، تحوّل المصري إلى سائق، حتى وإن لم يمتهن مهنة سائق لأحدى المواصلات، عامة كانت أو خاصة، فإنه سائق لأنه يمضي وقتاً طويلاً جداً في قيادة سيارته، أو متابعة قائد المركبة الذي يركب معه – والذي غالباً ما يتّصف بالجنون وتعريض حياة الركاب للخطر – أو محاولة عبور الطريق المليء بمركبات يقودها أناس قد فقدوا أعصابهم تماماً بسبب الزِحام. لذلك، فالمصري خبير في ما يُسمّى بـ"القيادة السيركية" نسبة إلى السيرك.

فهو يقود سيارته الخاصة، أو الميكروباص، أو الحافلة، أو التوك توك، أو حتى الدراجة، بخارية كانت أم محافظة على البيئة، بأسلوب لاعبي الترابيز في السيرك. كما أنه يعبر الطريق بنفس النهج.

هناك خصال ما انطبعت على المصري بسبب قضائه وقتاً يعادل "وردية العمل" في الطريق. مثل: أنه أصبح مُتفجّراً بالغضب المستمر، مُتّبعاً المثل القديم: اللي يصعب عليك يفقرك، مفرغاً لكل أنواع الكبت الذي يواجهه في حياته في أثناء قيادته السيارة، كما أنه لابدّ وأن يمارس بعضاً من تراثه الطويل الذكوري أثناء قيادة المركبة.

لا أعلم تحديداً ما الذي يُصيب المواطن المصري الذكر حين يرى امرأة تقود سيارة! نوبة من الغضب والسخط والرغبة في التنكيل والسخرية من المرأة التي تقود السيارة. لا يفتأ يردّد على مسامعها: ما تقعدوا في بيوتكم... مال النسوان ومال السواقة؟

أو: ييييييي... مرا سايقة... عدي منها بقى عشان حتعلنا.

ربما يشعر ببعض العطف على امرأة تقود سيارتها بصحبة أطفالها، يعود ذلك إلى أن المجتمع المصري لا يحترم من النساء سوى صنفين: الأمّ والمرأة المُسنّة. والأمّ يجب أن يكون معها إثبات شخصية، ألا وهم أطفالها، بخلاف ذلك، لو أنها سارت وحيدة في الطريق من دون إثبات واضح بأنها أمّ، فإنها تُعامَل في الطريق مثلما تُعامَل أية أنثى يراها المارّة مُستحقّة للتحرّش أو السخرية أو اللعن أو النصيحة بأن تقر في بيتها لأن وجودها في الشارع يزعج البشرية.

هذه معلومات قديمة، التطوّر الجديد هو أن المرأة قائدة السيارة المصرية بدأت تتطوّر في أسلوب تعاملها اليومي. المعتاد أن الذكور يصابون بضيق من النساء  قائدات السيارات للأسباب التالية: أنهن يحترمن شارات المرور. أنهن يحترمن قواعد المرور التي تعلّمنها في مدرسة القيادة، بل إن المُتعارف عليه، إنه إذا أرادت المرأة تعلّم قيادة السيارة، فإنها تسير وفقاً للقواعد، وتذهب لتعلّم القيادة في مدرسة لتعليم قيادة السيارات، أما ما هو معهود من الرجال فإنهم يجلسون في السيارة، ويفهمون من أحد أصدقائهم مبادئ كيفية تشغيل السيارة، ثم يسيرون ويتعلّمون من خلال الصواب والخطأ، وهم ونصيبهم بقى، حتى أن الأمر اصبح محلاً للتندّر إذا ما ذهب ذكر إلى مدرسة لتعليم قيادة السيارة، حيث يسخر منه أصدقاؤه: إيه يا سوسن؟ بتروحي المدرسة يا بيضا؟

بالطبع، حين تذهب المرأة لتعلّم القيادة في أحد المدارس، فإن المُدرّس يعلّمها وفقاً للقواعد المرورية، أما أولئك الذين يتعلّمون من خلال الممارسة والتجربة فإنهم يكوّنون خبراتهم من خلال الشارع الذي يكون هو المعلّم والزعيم والأب، ما يخلق اختلافاً كبيراً في المفاهيم بين الجنسين.

لكن تطوراً ما حدث للمرأة المصرية، فهي الآن تقود سيارتها ولسان حالها: كنت باعامل الناس بضمير، والتقدير خسرنا كتير، بس خلاص فهمت اللعبة، حالعبها معاكوا على كبير.... مفيش صاحب بيتصاحب. الأمر الذي أصبح يثير المزيد من الغضب لدى السادة الرجال زملاء الطريق الطويل الذي لا ينتهي. فالأسلوب التقليدي في قيادة النساء الملتزمات بقواعد المرور يثير السخرية، والتعبير الدائم عن الملل، والضغط  المستمر على النفير، والذي ينتهي بعبارة: ما تقعدوا في بيوتكم بقى.

أما الأسلوب المتطوّر لقيادة النساء، خاصة الشابات، والذي أصبح يشبه كثيراً أسلوب سائقي الميكروباصات، والذين يحتلون المركز الأول في "القيادة السيركية" في شوارع المحروسة، فإنه يثير نعرات وغضبات وهبات: إيه يا مرا؟ أنت ست أنت ولا سواق توك توك؟ بتبلطجي علينا في الشارع؟

هناك تباين في ردود أفعال النساء، تتراوح ما بين التجاهُل وكأنها لم تسمع شيئاً، مروراً بنظرات الاحتقار، وأحياناً نظرات التوسّل: معلش، وانتهاء بـ"قعد أمك في البيت يا حيلتها". مع التجاهل ونظرات الاحتقار، يتتابع السباب والسخرية مشيّعين الضحية إلى مثواها حتى تتمكّن من الهرب، مع نظرات التوسّل، يتراجع السباب وتظهر نظرات الحكمة وتنهدات العفو والسماح: هييييح.... اتفضلي عدّي يا ستي... أما في ما يتعلق بـ"قعد أمك في البيت" فالأمر يتصل مباشرة  بالمستوى الاجتماعي، ونوع السيارة، وثمنها، ومظهر السيّدة، كما يتعلّق بالشخص الذي يرام له أن يقعد أمّه. فمثلاً إذا بدت المرأة ميسورة، وشجاعة، وصوتها عالٍ جداً، وأنيقة المظهر، وألقت الملاحظة على مواطن عادي، فإنه لا يتجاوز معها ويتجاهلها، لإنه يرجّح أنها زوجة ضابط شرطة، وهو الأمر الذي يعطيها جرأة، أما إذا بدت متوسّطة الحال فقد ينتج الأمر عن سباب والدة السيّدة، وربما ممارسة بعض البلطجة، كحصارها في الطريق، بشكل قد يُجبرها على الوقوع في حادث بسيط قد يضرّ بسيارتها ضرراً خفيفاً، أما إذا كان الشخص الذي اقترحت عليه السيّدة أن يقعد أمّه في البيت هو ذاته ضابط شرطة – وهناك وسائل لمعرفة هذه الحقيقة، كأن يدهن زجاج السيارة باللون البني أو العسلي – فلا داعي لذكر النتائج حفاظاً على الجهاز العصبي للقارئ.

بديهي أنه كلما كانت سنّ قائد السيارة – ذكراً كان أو أنثى – أصغر كلما زادت جرأته، ومعلوم من المرور بالضرورة أن شوارع مصر، خاصة المدن الكبرى المزدحمة، تحوّلت إلى ساحات قتال وعراك، لكن مما لا شك فيه أن هناك نضالاً نسائياً يومياً تقوم به أية امرأة تسوّل لها نفسها شراء سيارة وقيادتها في مصر، لكنه، وفي كل الأحوال، لا يقارن بنضالها في وسائل المواصلات لتدفع بعيداً المتدخّل والمتحرّش والنساء المُسنّات المُعلّقات على ملابسها الضيّقة.