الدعوة لزيارة القدس المحتلة بين التطبيع السياسي والتضييع الديني

كل هذا يقودنا للتأكيد على أن دعوة الدكتور "أسامة الأزهري"، سياسية أكثر منها دينية، قد تفيد الأشقاء في فلسطين في تنشيط الاقتصاد الفلسطيني، ولكن في النهاية، لن تمنع تهويد القدس، ولن تمنع من تنفيذ المُخطّطات الصهيونية في إشعال الفِتَن بين الدول العربية والإسلامية، ولن تمنع الفكرة العنصرية "من الفرات إلى النيل"، وبالتالي فإن الفلسطينيين ومعهم العرب هم أول الخاسرين، والكيان الصهيوني هو الرابح دائماً من تفرّق العرب والمسلمين.

عندما قام الدكتور "علي جمعة" في شهر نيسان/إبريل 2012، عندما كان مفتياً للديار المصرية، بزيارة المسجد الأقصى، وهي الزيارة التي أثارت جدلاً واسعاً

دعا الدكتور أسامة الأزهري، مستشار الرئيس عبد الفتاح السيسي للشؤون الدينية، ووكيل لجنة الشؤون الدينية في مجلس النواب المصري، خلال ندوة نظّمها البرلمان العربي يوم 16 أيلول|سبتمبر 2018، دعا لإعادة النظر في ما يُسمّى "الزيارة الرشيدة للمسجد الأقصى"، وقال : "إن الزيارة  للمسجد الأقصى، يجب ألا تكون عبر تل أبيب، وإنما يتم بالنزول في بيوت الفلسطينيين، وتناول الأطعمة الفلسطينية، ما ينعش حركة التجارة الفلسطينية"، هذا وقد رحَّب قاضى قضاة فلسطين، مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الدينية والعلاقات الإسلامية الشيخ "محمود الهباش"، بدعوة الأزهري، لما وصفه : "بأن الزيارة فيها منافع تعود بشكلٍ مباشرٍ على الفلسطينيين الذين يعانون الحصار والاضطهاد من قِبَل دولة الاحتلال الإسرائيلي في مدينة القدس المحتلة"، ولكن باقي رجال الدين في فلسطين يرفضون تلك الفكرة برمّتها.

تلك الدعوة قد تكون مقبولة على المستوى السياسي، ولكنها مرفوضة على المستوى الديني، وعلى المستوى الشعبي أيضاً، في مصر وغيرها، لأن دعوة الدكتور الأزهري لفتح الباب لمَن يريد السفر إلى القدس المحتلة، والصلاة في المسجد الأقصى، هو أمر مرفوض على المستوى الشعبي المصري، فالمصريون يعتبرون الكيان الصهيوني عدو العرب والمسلمين، وعدواً للمسيحيين قبل المسلمين،  وهو الأمر الذي جعل البابا "شنودة الثالث" يرفض حجّ المسيحيين إلى المُقدّسات المسيحية في الأراضي المحتلة ، إلا أن تكون أياديهم بأيادي المسلمين، وهو ما تم تنفيذه منذ أواخر السبعينات حتى اليوم.

هذا وقد رفض المصريون أيّ تطبيع مع الكيان الصهيوني، وظلّ السلام حسب اتفاقيات "كامب ديفيد" سلاماً بارِداً، على المستويات الاقتصادية والزراعية على وجه الخصوص، أما على المستوى الثقافي، فقد رفض المُثقّفون المصريون أيّ تطبيع ثقافي مع الكيان الإسرائيلي، وخاصموا وقاطعوا مَن سافرَ إلى دولةِ الاحتلال، مثل الدكتور "سعد الدين إبراهيم" الكاتب وعالِم الاجتماع المشهور، ومن قبله الكاتب المسرحي "علي سالم"، وحتى اللاعب المصري الدولي المُحترِف في أوروبا "محمّد صلاح" رفض مصافحة لاعب إسرائيلي عام 2013، وابتعد عنه وراوغ حتى لا يلتقيه أو يُسلِّم عليه، وهذا يثبت أن الشعور الشعبي المصري ضد التطبيع وضد زيارة القدس وهي تحت الاحتلال الصهيوني.

ومن ثم تأتي دعوة الدكتور "أسامة الأزهري" عكس الاتجاه الشعبي والديني، والشعور الشعبي مُرتبط بالحسّ الديني، ولا يُغيّر من الأمر شيئاً عندما دعا الدكتور "الأزهري" بأن الزيارة ستكون للقدس والمسجد الأقصى، وليس إلى "تل أبيب"، فالسفر تحت الاحتلال هو في الواقع تلميع سياسي للكيان الصهيوني، الذي يدَّعي الديمقراطية ويدَّعى أنه يحافظ على حقوق الإنسان، رغم المجازر الدائمة التي يقوم بها جنود الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، خاصة وأن كل المؤشّرات تقود إلى أن الاعتراف الأميركي بالقدس الموحَّدة عاصمة للصهيونية، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، يجعل من السفر إلى القدس المحتلة خطراً على السياسية والدين معاً، وهو ما نربأ بالدكتور الأزهري أو غيره أن يكونوا عرّابين له، لأنه يصدم المشاعر الإسلامية والمصرية منها بطبيعة الحال .

عندما قام الدكتور "علي جمعة" في شهر نيسان/إبريل 2012، عندما كان مفتياً للديار المصرية، بزيارة المسجد الأقصى، وهي الزيارة التي أثارت جدلاً واسعاً، فقد برّر زيارته آنذاك، بأنه " زار القدس ودخلها من الضفة الغربية عن طريق الأردن وليس من الجانب الإسرائيلي"، وأضاف إن: "الزيارة تمّت تحت الإشراف الكامل للسلطات الأردنية ومن دون الحصول على أية تأشيرات من إسرائيل، باعتبار أن الأردن هو المُشرٍف على المزارات المُقدّسة للقدس الشريف"، وإذا كان الأمر صحيحاً بالنسبة للدكتور "علي جمعة"، فالوضع اليوم مختلف مع دعوة الزيارة الجديدة، حيث لا يوجد أشراف أردني حقيقي على المُقدَّسات في القدس الشريف، وكلها واقع تحت احتلال صهيوني.

ولو عدنا إلى الماضي القريب، نجد أن شيوخ الأزهر، أو الأئمة الكبار رفضوا زيارة القدس الشريف، حيث جاءت البداية من الشيخ الراحل الدكتور الإمام الأكبر "عبد الحليم محمود" فقد رفض أن يكون ضمن الوفد المُسافِر مع الرئيس الراحل "محمّد أنور السادات" في زيارته المشهورة إلى القدس المحتلة يوم 17 تشرين الثاني/نوفمبر 1977 ، كما أصدر الإمام الأكبر التالي الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر، فتوى صريحة تنصّ على "أن مَن يذهب إلى القدس من المسلمين آثم آثم، والأولى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجّه إلى القدس حتى تتطهَّر من دَنس المُغتصبين".

أما الإمام الأكبر الشيخ التالي له الدكتور "محمّد سيّد طنطاوي" فقد أفتى على أن "الزيارة إلى القدس لن تتم في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، وأن الزيارة تُعدّ في الوقت الراهن اعترافاً بمشروعيّة الاحتلال الإسرائيلي"، وكان الكيان الصهيوني يعتبر الدكتور "محمّد سيّد طنطاوي" من ضمن المُعادين للسامية، لأن رسالته للدكتوراه كانت تحت عنوان "بنو إسرائيل في القرآن والسنّة"، وقد فنَّد فيها كل المزاعم الإسرائيلية حول الأحقيّة اليهودية في الأرض الفلسطينية، كما هاجم الزعم اليهودي التاريخي في فكرة "شعب الله المختار"، ودام نفس الاتجاه مع شيخ الأزهر الحالي الشيخ الدكتور "أحمد الطيب"، الذي أكَّد "أن زيارة المسلمين إلى القدس المحتلة، والتي تتم بإذن الاحتلال، لا تحقّق مصالح المسلمين بأية حال، كما أن تلك الدعوة تخدم الاحتلال الصهيوني  في التصوير للعالم بأنها الدولة الديمقراطية التي تسمح بزيارة المسلمين لمُقدَّساتهم، وبالتالي ليس هناك مشكلة في تهويد القدس أو إعلانها العاصمة الأبدية لإسرائيل".

كل هذا يقودنا للتأكيد على أن دعوة الدكتور "أسامة الأزهري"، سياسية أكثر منها دينية، قد تفيد الأشقاء في فلسطين في تنشيط الاقتصاد الفلسطيني، ولكن في النهاية، لن تمنع تهويد القدس، ولن تمنع من تنفيذ المُخطّطات الصهيونية في إشعال الفِتَن بين الدول العربية والإسلامية، ولن تمنع الفكرة العنصرية "من الفرات إلى النيل"، وبالتالي فإن الفلسطينيين ومعهم العرب هم أول الخاسرين، والكيان الصهيوني هو الرابح دائماً من تفرّق العرب والمسلمين.

يبقى الأمل في أن دعوة الدكتور "أسامة الأزهري"، لن تجد لها صدى، فالمسلمون عموماً يرفضون الاحتلال، ويكرهون العنصرية، ولهم شوق دائم في رؤية الأخوة الفلسطينيين في دولتهم التاريخية، وتحرير المسجد الأقصى، ومعه المُقدّسات المسيحية بيت لحم وكنيسة القيامة، وكلها آمال لا بد من أن تتحقًّق، فالحقّ ينتصر في النهاية، لأن الله هو الحقّ.