في ذكرى ثورة التحرير الجزائرية الاعتذار الفرنسي مؤجَّل

الحقيقة أنه لا يزال تاريخ الاستعمار الفرنسي في الجزائر يُثير نقاشات حادّة على المستويين الوطني والدولي، ذلك أن التصفية تمّت بالدم والحروب والآلام وهروب الأقدام السوداء، ما طبع مُقاربات هذا التاريخ بالمُغالطات التي جاءت من خلال تشويه أبحاث تاريخية تمّت منذ أواسط القرن العشرين في فرنسا وخارجها.

مأساة الحرب رافقت مسار الحقبة الاستعمارية، بدءاً من 1830 إلى 1962

يقيناً أن عُقدة التاريخ تُسمّم العلاقات عموماً ومنها (الجزائرية - الفرنسية)، فهي الشجرة التي تُخفي الغابة. ففي الذكرى السنوية تظهر حملات يشنّها جزائريون على باريس لتذكيرها بماضيها الإستعماري ومطالبتها بالاعتذار عن جرائم جيشها، ذلك نحو فتح خزائن التاريخ في مناورة لإحراج باريس وحملها على الاعتذار. وهنا يظلّ التاريخ الشفهي أحد الروافِد الهامّة في التاريخ البشري، وَهمْ وثِقل تظلّ تعاني منه فرنسا نحو ماضيها القمعي في الجزائر.

الحقيقة أنه لا يزال تاريخ الاستعمار الفرنسي في الجزائر يُثير نقاشات حادّة على المستويين الوطني والدولي، ذلك أن التصفية تمّت بالدم والحروب والآلام وهروب الأقدام السوداء، ما طبع مُقاربات هذا التاريخ بالمُغالطات التي جاءت من خلال تشويه أبحاث تاريخية تمّت منذ أواسط القرن العشرين في فرنسا وخارجها. هنا الأزمة الثنائية أكثر تعقيداً، لأن نَسَق تحسين العلاقات كان يسير في اتجاه تصاعُدي بعد مجيء بوتفليقة إلى سدَّة الرئاسة، وكان الجانبان على أبواب التوقيع على معاهدة صداقة. لكن ما أن بادر البرلمان الفرنسي بسنّ قانون في 23 شباط/ فبراير 2005 امتدح فيه الإستعمار وبرّر أعماله حتى انتكس التقارُب وعصفت الأزمة بالعلاقات، مُعطّلة أجندات الزيارات الرسمية بين كِبار المسؤولين في البلدين، حيث أثار القانون سخط الجزائريين. فقاعدة التعامُل مع فرنسا تمثلّت في تفاصيل مشروع قانون يحوي 15 مادة مُتشعّبة تتناول ملفات تاريخية في علاقة فرنسا بالجزائر. تتصدّرها مُطالبة السلطات الفرنسية بتعويض الجزائريين عن كامل الحقبة الاستعمارية، ومحاكمة مُجرمي الحرب، وتعويض ضحايا التجارب النووية الفرنسية في الصحراء، إضافة إلى استرجاع الأرشيف الذي أخذته الإدارة الاستعمارية عندما غادرت الجزائر 1962.

من البديهي أن نقاش كل عام على مستوى النُخَب السياسية الجزائرية وفي وسائل الإعلام المُختلفة حول ما يطلبه الجزائريون بملف ذاكرة الحرب (الفرنسية - الجزائرية)، لن يتوقّف حتى لو اعتذرت فرنسا جهراً عن جرائمها في الجزائر، لأن القضية لا يمكن أن تُختزَل في ارتجال كلمة إيجابية في هذا الشأن المُعقّد، بل إن الأمر يتعلّق بإرثٍ ثقيلٍ جداً له علاقة بتدمير الكثير من العناصر المادية والثقافية والروحية للهوية الجزائرية حيث مسّ هذا الإرث، ولا يزال يمسّ، شبكة العلاقات الثنائية التي يتقاطع فيها الماضي والحاضر والمستقبل معاً. وهنا يمكن لفرنسا أن تقدِّم الاعتذار عن الماضي الاستعماري بكل إحداثيّاته المادية والرمزيّة لأن مثل هذا الاعتذار ليس بغريبٍ عن الثقافة السياسية الفرنسية، والدليل على ذلك أن فرنسا نفسها قد طلبت من ألمانيا تقديم الاعتذار عن احتلالها لها وبعد تنفيذ الأخيرة له حدَث انفراج إيجابي في العلاقات الثنائية بين البلدين.

هنا يُلاحظ أن المسألة لها خصوصيّتها، فلم تحظَ بمُناقشةٍ جادّةٍ من طرف النُخَب السياسية الجزائرية وذلك في السياق (الفرنسي- الجزائري)، ذلك في ما يتّصل بمضامين اتفاقيات إيفيان التي تعتبرها الحكومات الفرنسية المُتعاقِبة منذ عام 1962 إلى اليوم حول تضمّنها كل ما أرادته الجزائر من فرنسا بشكلٍ رسمي بما في ذلك ما يتّصل بملف الذاكِرة. وأن تنفيذ كل مطالب الجزائر المُتمثّلة في فتح ملف جرائم الاحتلال الاستيطاني ومأساة الحرب التي رافقت مسار تلك الحقبة الاستعمارية، بدءاً من 1830 إلى 1962، يعني إمّا نسخاً مُكرّراً وإمّا تنكّراً وإسقاطاً لهذه الاتفاقيات وعدم الاحتكام إليها بعد مُضيّ عشرات السنوات على توقيعها بين الطرفين.

على فرنسا أن تُدرك أن عدَم فتح هذا الملف بكل شفافيّة يبقى المسؤول عن زرع شكوك تعطّل صنع بنية متينة في العلاقات بين البلدين، وأنه السبب المباشر في إبقائها تدور داخل المنطقة الرمادية القابلة للتعتيم في أيّة لحظة، وفي شلّ محاولات الانتقال بها إلى فضاء الشراكة الثنائية المُستدامة في الميادين الحيوية مثل التصنيع والثقافة والتعليم والتنسيق السياسي إفريقياً وعربياً ودولياً، رغم ما يُقال في وسائل الإعلام الجزائرية والفرنسية إن فرنسا هي الشريك التجاري الاقتصادي الأول للجزائر عالمياً حتى يومنا هذا، ولكن شبح ملف الذاكرة المُعلَّق منذ سنوات طويلة لا يزال يبعث بالعراقيل التي تحول دون التأسيس للثقة المُتبادَلة بين البلدين.

يبقى أن فُقدان كل هذا قد أدّى إلى غياب النديّة ببُعديها المادي والرمزي بين فرنسا، كدولةٍ متطوّرةٍ ومُصنّعة لها قوّة نووية ، وتمتلك حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي وتتمتّع بالهيمنة اللغوية والثقافية في الكثير من بقاع العالم، وبين الجزائر التي تريد أن تخرج من واقع العالم الثالث اقتصادياً وثقافياً وتقنياً ومعمارياً، ويُضاف إلى هذا أنه ظلّت الجزائر طوال فترة بعد الاستقلال تفقد الكثير من رأسمالها القديم المُتمثّل في المُفكّرين والمؤرّخين والإعلاميين والمُثقّفين والسياسيين وأسَرهم الفرنسية وأتباعهم الذين وقفوا بقوّةٍ إلى جانب حركة التحرّر الوطني الجزائري.

في الوسط جاء تخلٍّ من أنظمة الحُكم الجزائرية إلى تجريد البلاد من أسلحتها الرمزية داخل المجتمع الفرنسي ذاته، كما أن إهمال النظام الجزائري للجالية الجزائرية المُبعثَرة في فرنسا وفي عموم أوروبا، ساهم في إجهاض إمكانية صنع قوّة ناعِمة للجزائر داخل نسيج المجتمع الفرنسي. على أساس ما تقدَّم فإن مطلب الجزائريين المُتمثّل في دعوة فرنسا إلى الاعتراف بجرائم استعمارها للجزائر، وإلى تقديم الاعتذار والتعويضات المادية للجزائريين لا تسنده الدعامات المذكورة آنفاً ، وهذا ما يجعل موقف النظام الجزائري هُلامياً من دون أدنى شك. وعليه ظلّ النظام الجزائري على مدى سنوات الاستقلال، ضعيفاً في محاورة الدولة الفرنسية ومجتمعها المدني قَصْد خلق مناخ يساعد على إنضاج الظروف التي يتجسّد فيها الاعتراف الفرنسي بجرائم الحرب الاستعمارية الفرنسية في الجزائر .. فمتى يبدأ ذلك؟.