جورج حبش في ذكرى غيابه

جورج حبش من أوتاد هذه الأرض. أفنى عمره ثائراً يقاوم العدو، وأفناه يُقَوِّم زيغَ المُتنفذين الغارقين في الفساد والخيانة والشر والخراب، ليجعل منا بشراً أفضل، وليُعطي لهذه الحياة توازناً يجعل العيش فيها ممكناً ويبقي الأمل حياً. تقرأ كلمات هذا الثائر غير المهزوم، رغم كل الهزائم، وغير المقهور، رغم كل القهر، فلا تطلب ولا تتمنّى إلا أن يكون لدى كل منا شيء قليـل من هذه القناعة التي لا تتزعزع. تقرأ جورج حبش فتعرف أن هناك معنىً واحداً ووحيداً للوطن ومعنىً واحداً ووحيداً لفلسطين هو معنى الوطن ومعنى فلسطين عند جورج حبش.

«أن تعيش في قلوب من تركت خلفك، يعني أنك لن تموت أبداً"

وشراكتنا مع الحكيم وعهدنا له هما شراكة وعهد، كذلك، مع كل الذين أفنوا أعمارهم يقاومون على طريق تحرير كل الوطن المسلوب. شراكة وعهد حتى النهاية مع كل الذين أفنوا أعمارهم يقارعون الصهيونية في الزنازين أو في ساحات القتال. شراكة وعهد مع كل الذين أصبحت فلسطين قضيّتهم الأولى والأخيرة، قضيّتهم العامة وقضيّتهم الخاصة، وأعطوها، مُستلهمين القليل من نموذج القائد جورج حبش، كلَّ ثانية من أعمارهم الفانية. أكتب باسمنا جميعاً لنتعهّد للحكيم، ونتعهّد لكل هؤلاء الأبطال، بالوفاء والقسَم والعهد، وأن نتعهّد أولاً وقبل أي شيء لفلسطين حبنا إلى الأبد، واستعدادنا للتضحية من أجلها وفي سبيلها بكل شيء وبأي شيء، وأن نتعهّد للصهاينة الأعداء كرهنا وحقدنا وعزمنا على مقاومتهم حتى النهاية.
الكتابة فعل مقاومة وفعل اشتباك. لهذا بالضبط لا يزال الشهيد غسان كنفاني يحتلّ مكانة فريدة ومتميّزة بين كل الكتّاب العرب والفلسطينيين. فهو لم يكن مسكوناً في كتاباته بتصوير الحاضر القادم من ماضي النكبة فقط، بل، وربما أهم من ذلك، كان مهموماً باستتباع ذلك بفتح آفاق للمستقبل. لهذا كان كل نصّ لكنفاني، أدبياً كان أمْ سياسياً، أشبه ببيان ثوري. فكنفاني كان نموذجاً لكاتب من نوع خاص جداً اقتضت وجوده الحال العربية الجديدة. فما بعد النكبة، وتحديداً ما بعد ثورة 1952 في مصر، التي ساهمت في التأسيس لنشوء حركات التحرّر، «تفاقم دور الكاتب»، كما جادل إدوارد سعيد في «تأمّلات في المنفى». هكذا كانت الدعوة إلى الثورة «دقّوا جدران الخزان» في «رجال في الشمس». ولهذا ذكر الحكيم في رسالة التعزية لآني كنفاني «إننا تلقينا (باستشهاد غسان) ضربة موجعة جداً».
الكتابة فعل مقاومة وفعل اشتباك. فأهم ما قام به قسطنطين زريق، صاحب معنى النكبة، وأحد مُلهمي الحكيم، في كتابه عن النكبة، غير تعريفه للحدث وحفره للمُصطلح، هو «إلقاؤه الضوء على مشكلة الحاضر، موقع المعاصرة الإشكالي، الذي يشغله العرب ويعملون على إعاقته». فلقد أدرك مبكراً أن ما ينبغي على «الكتَّاب» العرب القيام به بمعرفة ودراية هو خلق الحاضر تمهيداً لمعركة استعادة الاستمرارية التاريخية، ورأب الصّدْع الذي تسبّبت به النكبة، والأهم من كل ذلك إطلاق إمكان تاريخي للتغيير.
الكتابة فعل مقاومة وفعل اشتباك. لهذا بالضبط علّق باولو فريري في كتابه «تعليم المقهورين» أن "أسلوب [تشي] غيفارا الواضح في سرد تجاربه هو ورفاقه، ووصف علاقته بالفلاحين الفقراء الموالين لهم بلغة إنجيلية تقريباً، يكشف القدرة الكبيرة لهذا الرجل المدهش على الحب والتواصل مع الناس". 
الكتابة فعل مقاومة وفعل اشتباك. هكذا يتوجّب قراءة النصّ الأخير، وفهم الفعل الأخير، لجورج حبش وإدراك الهدف منه. فهذا النصّ ليس سرداً بلا غاية، أو هذا ليس سرداً أراد له صاحبه أن يكون نوعاً من التاريخانية أو السرديات الأكاديمية أو المذكرات الذاتية. ليس سرداً أراد له صاحبه أن يكون مجرّد أرشفة أخرى للتاريخ بلا غاية أو لمجرّد الأرشفة. فالتاريخ يجب أن يُقرأ أولاً وأخيراً كحال أيديولوجية. يجب أن يُقرأ كتحفيز لعمل مستقبلي. يجب أن يُقرأ كخارطة طريق للمقاومة والتغيير والثورة. ففي نهاية الأمر، كل الحقائق التي يختارها مؤرّخو أية مرحلة من بين آلاف الحقائق الأخرى، هي (لذلك) ذاتية وسياسية أولاً وأخيراً، كما جادل مؤرّخ الثورة البلشفية إدوارد هاليت كار. لهذا، فجوهر التأريخ ليس النصّ وحده أو بحد ذاته (على أهميته)، بقدر ما هو الاستشراف والأفق الذي يفتحه أمامنا، فيضع السرد أو النصّ نفسه في حيّز المقاومة وسياقها في المستقبل، وحتى يمكن أن يعمل على تأسيس مسارها بفتحه آفاقاً من الإمكانات التحويلية - هذا هو المعنى الحقيقي لفكرة أن "الناس تموت والفكرة لا تموت".
الكتابة فعل مقاومة وفعل اشتباك، لأن الفعل والاشتباك المقصودين هنا بالذات هما اشتباك وفعل من أجل تكوين الوعي وخلق الإنسان من جهة، وإسقاط الخرافات (من خرافة «إسرائيل» نفسها إلى كل الخرافات التي يسوقها المهزومون)، من جهة أخرى. الكتابة فعل مقاومة واشتباك، لأن الكتابة عمل، ولأن العمل نفسه (والفعل المشتبك نفسه) هو الشيء الحقيقي الوحيد في التاريخ، والشيء الحقيقي الوحيد في هذه الحياة، وما عداه هو الخرافة والتزوير. لهذا، فالكتابة كـ «فعل مقاومة وفعل اشتباك» هي أكثر توصيف مناسب للنصّ الأخير الذي تركه لنا جورج حبش، ويُنشر بعد 11 عاماً على رحيله. فهذه ليست محاولة للتأريخ بقدر ما هي أحدى محاولات الحكيم المتعدّدة للاشتباك مرة أخرى مع الأسئلة الكبرى التي أرَّقته منذ اتفاقيات أوسلو، وتحديداً مع انعقاد المؤتمر الخامس للجبهة الشعبية (1993) حين أرسل الحكيم أول إشارات العزم على التخلّي عن الأمانة العامة، وأصرّ عليها ونفّذها في المؤتمر السادس (2000) من أجل خوض مرحلة جديدة من النضال تتمثّل، كما كتب، بالعمل "على إنشاء مركز [الغد] الذي يُعنى بدراسة تجربة حركة القوميين العرب ومن ثم الجبهة الشعبية والأحزاب القومية الأخرى، وكذلك تجربة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وأيضاً العمل القومي منذ النكبة، بحيث تكون تجربة الجبهة والحركة والأحزاب والتجارب الأخرى درساً مفيداً لمتابعة النضال الوطني والقومي".


يوم الإثنين الموافق 24 أيار/مايو 1948، دَوَّنَ دايفيد بن غوريون في مذكراته: «علينا تنظيم مجموعة الألوية الجديدة وتعزيز [الألوية] القديمة. وينبغي إقامة لواء من أفراد «كرياتي» بقيادة لرر [تسادوك]. لدى تسلّم المدافع، يجب تدمير الرملة واللد. بعدها بأسبوع، في 30 أيار/مايو 1948، عقب سقوط اللد والرملة وطرد من بقي حياً من أهلها العرب بالقوّة، بدأت مسيرة طويلة وصعبة في أشدّ أيام العام حرارة على الأقدام باتجاه رام الله - تشبه إلى حد بعيد «مسيرة الدموع» التي سارها سكان أميركا الأصليون المطرودون من وطنهم في جنوب شرق الولايات المتحدة باتجاه الشمال الغربي. وفي أثناء المسيرة سقط العشرات من سكان اللد الصغيرة من الأطفال والعجائز من العطش والجوع والحر وكانت جثثهم ملقاة على جوانب الطريق إلى رام الله.

يذكر الحكيم الذي عاش كل تلك الأيام بتفاصيلها المؤلمة أن كتاب «الطريق إلى بئر السبع» للإنكليزية إيثيل مانين‏ التي تصف رحلة الخروج المؤلمة من اللد والمسيرة إلى رام الله وعذاباتها، ليس فيه «أية مبالغة، بل أستطيع القول إن المأساة كما عشتها كانت أكثر حدة مما أظهرته تلك الرواية»‏. لكن من يقرأ الرواية يعرف أن أكثر ما شد الحكيم إليها، ربما، ليس التفاصيل المؤلمة لسقوط اللد أولاً ثم الترحيل القسري لأهلها، فتلك تجربة عاشها حبش لحظة بلحظة. لكن في كتاب مانين ما يلفت الانتباه من إصرار على التمسك بالوطن وعدم اليأس رغم كل ما حصل، ويبدو أنها كانت فعـلاً تدور في خاطر الحكيم حينها. فتقرأ على لسان بطرس منصور: «لم يستطيعوا أن يقتلونا. لم يقتلوا منا إلا الطاعنين في السن فقط والصغار جداً. لقد أخرجونا إلى البرية لنموت كالكلاب ولكننا لم نمت. إننا لم نزل هنا. معظمنا على الأقل»‏ والأهم، تقرأ على لسان وليد، أحد الشخصيات الرئيسية التي انتهت بالتسلل إلى بئر السبع للتأسيس للمقاومة في رفضه لكل مبررات الاستسلام والإصرار على المقاومة: «وإسرائيل؟ ألم تبدأ فكرتها بحلم أشد من هذا الحلم (تحرير فلسطين) إمعاناً في الخيال؟ لو سيطر هذا الحلم على قلوب مليون فلسطيني شاب فلا بد من أن يحفزهم على تحويل الحلم إلى حقيقة، بالإصرار والكفاح»‏. 
لكن الدمار، والمجازر، والتهجير القسري التي حلت باللد، وكان الحكيم شاهداً حيَّاً عليها وعاش مآسيها لحظة بلحظة مع أهله وأبناء بلدته، لم تشكل لحظة الولادة الحقيقية فقط لثائر حقيقي ومقاوم عنيد لا يتعب ولا يعرف التعب، ولا يهزم ولا يعرف الهزيمة، كما تدل على ذلك مذكراته. لكن تلك الظروف وتلك المآسي كانت مناسبة لتكشف الجوهر الحقيقي لجورج حبش وروحه الثائرة. ليس ذلك فقط لأن الحكيم عرف منذ البداية أن الهدف من هذه الحرب ومن هذا المشروع الصهيوني هو «اقتلاعنا من الجذور»‏ لذلك لم يتردد في حمل السلاح منذ البداية حين انضم إلى «كتائب الفداء العربي»‏. 

وليس ذلك فقط لأن الحكيم قاوم لأكثر من 60 عاماً بعدها من دون أن ينال منه اليأس أو الهزيمة للحظة واحدة. بل لأن هذا المقاوم العنيد، جورج حبش، كان معداً أصـلاً لأن يكون إنساناً من نوع خاص جداً وثائراً من نوع خاص جداً عرفنا القليل مثله في تاريخنا العربي كما في تاريخ الشرق. وفي هذه الأيام، الأسابيع الأولى من تموز/يوليو 1948، تكشفت الأحداث التي حلت باللد وفلسطين عن ثائر عربي من نوع خاص جداً أفنى عمره حتى اللحظة الأخيرة يقاوم من أجل استعادة وطنه المسلوب والعودة إليه. ثائر من نوع خاص لم يكن ليقبل أقل من تحرير حقيقي وكريم لكل فلسطين، وعودة كريمة لكل أهلها علّها تمسح قليـلاً من عار الهزيمة وذلّ الشتات. لهذا رفض أن يعود بالشروط التي عاد بها الآخرون جازماً أن عودته ستكون فقط مع عودة آخر لاجئ من الشتات. في تلك الأيام تكشفت الأحداث عن ثائر عربي حقيقي هو امتداد لتقليد ثوري إنساني فريد عرفه تاريخ العرب وتاريخ الشرق فكان خير سليل لهذا التقليد الثوري العظيم. ما يلي هو بعض من سيرة هذا القائد العظيم، ونشرها في الذكرى الـ11 لرحيله يعني أنه، برغم كل شيء، لا يزال حياً بيننا. فـ «أن تعيش في قلوب من تركت خلفك، يعني أنك لن تموت أبداً".