أيّ سيناريوهات مُتوقّعة لتوسيع العملية العسكرية في قطاع غزة!

الأوضاع في قطاع غزة الصغير ستشهد مزيداً من التأزّم على المستويات كافة، وفي مقدّمتها الأوضاع الإنسانية والصحية، والتي شهدت تراجعاً كبيراً خلال الشهرين الأخيرين.

  • إمكانية تراجع المقاومة عن مطالبها المحقّة والمشروعة  في غزة تبدو مستحيلة.
    إمكانية تراجع المقاومة عن مطالبها المحقّة والمشروعة في غزة تبدو مستحيلة.

لا تبدو الحكومة "الإسرائيلية" برئاسة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، في عجلة من أمرها فيما يتعلّق بإنهاء حربها المجنونة ضدّ قطاع غزة، تلك الحرب التي تستمر فصولها الدموية للشهر التاسع عشر على التوالي، من دون أن يبدو في الأفق القريب أيّ بوادر لنجاح الجهود المبذولة لوقفها، أو حتى التخفيض من تكلفتها الباهظة، والتي يدفع فاتورتها الأساسية المدنيون الفلسطينيون العزّل، والذين باتوا محاصرين بين خيارات قاسية من قتل وجوع غير مسبوقين، في ظلّ صمت عالمي ودولي مريب، وعجز عربي وإسلامي مخزٍ وفاضح.

بعد عودة الحرب من جديد في الثامن عشر من آذار/مارس الماضي، وبعد تنصّل الاحتلال من التزاماته كافة التي نصّ عليها اتفاق التهدئة السابق، ارتفعت وتيرة التهديدات الإسرائيلية المتعلّقة بتوسيع العملية العسكرية البريّة إلى مديات أوسع، بحيث تهدف بحسب الادّعاء الإسرائيلي إلى زيادة الضغط على حركة حماس للقبول بالمقترح الجديد لوقف الحرب، وهو عبارة عن مقترح معدّل تقدّم به المبعوث الأميركي "ستيف ويتكوف"، ويختلف شكلاً ومضموناً عن الاتفاق الأساسي الذي تمّ التوصّل إليه سابقاً، ويكاد يكون نسخة طبق الأصل من مطالب نتنياهو التي تسعى لفرض استسلام كامل وشامل على المقاومة الفلسطينية، ودفعها للقبول بما رفضته طيلة الأشهر الماضية من عمر الحرب.

خلال الأسابيع الأخيرة، لجأ "جيش" الاحتلال إلى تعميق عمليته العسكرية في بعض مناطق القطاع، في محاولة لزيادة حجم المساحة التي يسيطر عليها طولاً وعرضاً، حيث جاءت السيطرة على كامل مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة في باكورة هذه المحاولات، والتي يقوم فيها بتدمير ممنهج لما تبقّى من مناطق عمرانية في هذه المدينة الحدودية، محوّلاً إيّاها إلى منطقة جرداء، بعد أن كانت على الرغم من صغر مساحتها من أجمل مدن القطاع، وأكثرها حيويّة ونشاطاً.

في موازاة ما يحدث في رفح، بدأت قوات الاحتلال عملية عسكرية أخرى شرق مدينة غزة، أكبر مدن القطاع وأكثرها سكّاناً، إذ يقوم منذ أسبوعين تقريباً بما يسمّيه توسيع المنطقة العازلة شرق المدينة، بمحاذاة أحياء الزيتون والشجاعية والتفّاح، ذات الكثافة السكانية العالية، دافعاً عشرات آلاف المواطنين إلى النزوح غرباً، بحيث باتوا يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء نتيجة الاكتظاظ الشديد، ونتيجة نقص الإمكانيات والأدوات اللازمة لإقامة مخيمات نزوح جديدة، بفعل الحصار المطبق المفروض على القطاع منذ الثاني من آذار/مارس الماضي.

في هذه العملية التي تشهد عمليات نسف وتدمير متواصلة لمئات المنازل والبيوت، وتجريف واسع للأراضي الزراعية التي تقع على عمق كيلومتر ونصف الكيلومتر من الحدود مع الأراضي المحتلة عام 48، تسعى قوات الاحتلال إلى حشر أكثر من ثمانمئة ألف مواطن غزاوي في الجهة الغربية من المدينة، والتي لا يمكنها استيعاب هذا العدد من المواطنين، بالإضافة إلى عدم امتلاكها للبنى التحتية اللازمة التي يمكن أن توفّر لهم أدنى قدر من الحياة الكريمة، ولا سيّما بعد أن تعرّضت هذه المناطق إلى دمار كبير إبّان الشهور الأولى من الحرب، بحيث باتت تفتقد لأدنى مقوّمات الحياة، سواء على صعيد المؤسسات الخدمية من مراكز طبية وتعليمية، أو فيما يخصّ توفّر المياه الصالحة للشرب، حيث قام العدو بهدم المئات من آبارها الجوفية، إلى جانب تدمير العشرات من محطّات التحلية التي كانت تساهم وإن بشكل نسبي في الحدّ من أزمة المياه المتفاقمة.  

إلا أنه وعلى الرغم من كلّ ما يحدث في مدينتي رفح وغزة، إلى جانب عمليات الاستهداف المختلفة التي تشمل كلّ نواحي القطاع، والتي يسقط من جرّائها عشرات الشهداء يومياً، فإنه لا يبدو أنّ ذلك قد حقّق الهدف المطلوب من ورائه حتى الآن، ولم يؤدِّ إلى حصول اختراق واضح في موقف المقاومة الصلب والثابت، ولا إلى انتزاع أيّ تنازل يُذكر، وهذا الأمر كان واضحاً في الجولات الأخيرة من المفاوضات غير المباشرة التي جرت في القاهرة والدوحة، والتي لم تسجّل كما تشير معظم التقارير أيّ تقدّم، ولم تُشر إلى قرب حصول أيّ انفراجة حتى لو كانت مؤقتة، وهو الأمر الذي من المرشّح أن يستمرّ خلال الأسابيع المقبلة، نتيجة التعنّت الصهيوني، ونتيجة الاشتراطات التعجيزية التي يطالب بها، ما لم تحدث انعطافة دراماتيكية وغير مُتوقّعة تساعد في حلحلة الأمور.

نتيجة هذا الانغلاق في أفق الحلّ السياسي، بدأت وسائل الإعلام الإسرائيلية في الترويج لفرضيّة توسيع "جيش" الاحتلال لعمليته العسكرية في قطاع غزة، وهو السيناريو الذي أشارت إليه في غير مرّة جهات عسكرية صهيونية، وفي المقدّمة منها وزير الحرب يسرائيل كاتس، والذي يتبنّى بقوة إلى جانب نتنياهو اللجوء إلى هذا الخيار، الذي ينظر إليه بأنه قد يُحدث تغييراً جوهرياً وحاسماً في موقف المقاومة، وإلى دفعها لتقديم "تنازلات" وزانة وفارقة.

على أرض الواقع تملك "إسرائيل" كلّ الأدوات التي تمكّنها من الذهاب بعيداً في عمليتها العسكرية في القطاع المُنهك والمُحاصر، خصوصاً في ظلّ ما تحظى به من دعم أميركي مفتوح، سمح لها كما يشير تطوّر العملية العسكرية على الأرض، وحجم الإمكانيات المستخدمة فيها ولا سيّما فيما يخصّ سلاح الدبابات والمدفعية، إضافة إلى سلاح الجو، في استعادة ترسانتها العسكرية التي استُنزفت سابقاً، والتي يبدو أنها قامت بتعويضها بشكل شبه كامل، وهذا ما تشير إليه الكثير من التصريحات الأميركية والإسرائيلية، وتؤكّده ارتفاع وتيرة الاستهدافات في قطاع غزة، والتي تعتمد في الشهرين الأخيرين بشكل لافت على سلاحَي الجو والمدفعية، وبصورة أقلّ نسبياً على سلاح المدرّعات.

على صعيد توسيع العملية الإسرائيلية في قطاع غزة، يمكن لنا توقّع عدّة سيناريوهات، مبنيّة في جزء منها على معطيات ميدانية، وفي الجزء الآخر على تحليلات وفرضيّات، وجميعها يشير إلى أنّ "جيش" الاحتلال سيقوم بتوسيع عمليته العسكرية في أكثر من اتجاه، وسيحاول فرض مزيد من الضغط على المدنيين الفلسطينيين، على أمل إرغام المقاومة على التراجع، وعلى القبول مُكرهة تحت هذا الضغط بما رفضته سابقاً. 

في المقدّمة تأتي مدينة غزة بما تمثّله من ثِقل في المشهد الفلسطيني، إذ وعلى الرغم من حجم الدمار الذي لحق بها، إلا أنها ما زالت تُعتبر أهم مدن القطاع، بما تملكه من إمكانيات، وبما تحتويه من مؤسسات، ولا سيّما بعد عودة النازحين إليها بعد اتفاق التهدئة السابق.

فيما يخصّ مدينة غزة يمكن أن يلجأ الاحتلال إلى فصلها مجدّداً عن جاراتها الشمالية والجنوبية، وعزلها بشكل كامل من خلال العودة إلى احتلال كامل محور نتساريم الفاصل بينها وبين المنطقة الوسطى، والذي ما زال مفتوحاً حتى الآن من جزئه الغربي عبر شارع الرشيد.

إلى الشمال من غزة تشير المعطيات المتوفّرة إلى استعدادات "إسرائيلية" لإنشاء محور مفلاسيم، وهو المحور الذي يفصل المدينة عن محافظة الشمال، وقد سبق لـ "جيش" الاحتلال وأن بدأ في إقامة بعض البنى التحتية له أثناء عمليته الواسعة في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا، حيث لم تُستكمل تلك الإنشاءات في حينها بعد الوصول إلى اتفاق التهدئة.

في حال تمّ تنفيذ هذا السيناريو فإنّ الاحتلال سيعمد إلى تهجير من تبقّى من سكّان محافظة الشمال إلى مدينة غزة، مع إمكانية تحويل كلّ مدن وبلدات المحافظة إلى منطقة عازلة، تبدأ من السياج الحدودي شمال القطاع المحاذي لبلدات بيت حانون وبيت لاهيا وجوارهما، وتنتهي عند المحور المراد إنشاؤه بين غزة والشمال، والموازي لمقرّ "الإدارة المدنيّة" سابقاً.

هذه الخطوة في حال القيام بها ستكون مقدّمة نحو تنفيذ خطّة التهجير الكلّي للسكّان الموجودين شمال وادي غزة، والذين يتجاوز عددهم المليون وربع المليون نسمة، كان قد عاد أكثر من ثلثيهم من جنوب القطاع بعد دخول اتفاق التهدئة المنهار حيّز التنفيذ. 

إلى جانب عزل المدينة عن جاراتها من الشمال والجنوب، يمكن أن يلجأ "جيش" الاحتلال إلى تعميق توغّله داخل مناطق مدينة غزة الشرقية والجنوبية، إذ إنه من المرجّح أن تتقدّم دباباته من الشرق باتجاه الغرب، وصولاً إلى شارع صلاح الدين، ومن الجنوب باتجاه الشمال وصولاً إلى شارع عمر المختار، وهو الأمر الذي سيؤدّي إلى حشر كلّ السكّان الموجودين داخل المدينة في مناطق ضيّقة جداً مثل حيّ الرمال الشمالي، والنصر، ومنطقة الشيخ رضوان، ومعسكر الشاطئ.

سيناريو آخر مُتوقّع ولكنه هذه المرّة في جنوب القطاع وتحديداً مدينة خان يونس، والتي تحوّلت إلى مأوى شبه دائم للنازحين من مدينة رفح المدمّرة، والتي دخلت بأكملها في إطار المنطقة العازلة الممتدة من الحدود المصرية جنوباً حيث محور فيلادلفيا، وصولاً إلى الحدود الإدارية لمحافظة خان يونس شمالاً، حيث يقوم الاحتلال منذ أسابيع بإنشاء محور موراج، والذي سيلتهم إلى جانب مساحة مدينة رفح نحو 28% من أراضي القطاع، ويدمّر مساحات زراعية واسعة كانت تغطّي أكثر من نصف الإنتاج المحلّي من الخضروات. 

فيما يخصّ مدينة خان يونس، والتي تُعتبر ثاني أكبر مدن القطاع، قد يلجأ الاحتلال للسيطرة على كلّ المناطق الشرقية منها، وهي مناطق واسعة وكبيرة، ويسكنها عشرات آلاف المواطنين، وتوجد فيها أيضاً مساحات زراعية شاسعة وتمتاز بخصوبتها العالية، مع القيام بتنفيذ خطة إخلاء قسري لكلّ السكّان الموجودين في تلك المناطق، ودفعهم تحت القصف والقتل كما جرت العادة إلى المناطق الغربية من المدينة، والتي لا تكاد تتّسع للموجودين فيها من سكّانها الأصليين، أو من النازحين إليها من المناطق الأخرى.

وسط القطاع لن يكون هو الآخر بمأمن من توسيع العمليات القتالية لـ "جيش" الاحتلال، ولا سيّما مدينة دير البلح، والتي تُعتبر المدينة الوحيدة التي لم يدخلها "الجيش" الإسرائيلي، وما زالت تحافظ على نسبة كبيرة من مناطقها العمرانية، وبناها التحتية ولا سيّما تلك الواقعة غرب شارع صلاح الدين.

خلال المرحلة الأولى من الحرب التي سبقت اتفاق التهدئة هدّدت "إسرائيل" أكثر من مرة باقتحام المدينة، وتدميرها كباقي مدن القطاع، وهي تعتبر أنّ هذا التهديد يمكن أن يشكّل ضغطاً إضافياً على السكّان والمقاومة في غزة، لذلك من غير المستبعد أن تسعى "دولة" الاحتلال إلى تنفيذ هذا التهديد في إطار الخطة المحتملة لتوسيع العملية العسكرية.

على كلّ حال، يمكن اعتبار كلّ ما أشرنا إليه أعلاه جزءاً من السيناريوهات المحتملة التي سيلجأ إليها "جيش" الاحتلال خلال الأسابيع المقبلة ما لم يحدث أيّ اختراق حقيقي يتعلّق بوقف الحرب، وهو احتمال وارد الحدوث وبقوة، إذ إنّ كلّ المعطيات الحالية تشير إلى انغلاق أفق الحلّ السياسي، وإلى وجود فجوات كبيرة ما زالت تحول دون التوصّل إلى اتفاق.

في حال وصلت الأمور إلى هذا المستوى فإنّ الأوضاع في قطاع غزة الصغير ستشهد مزيداً من التأزّم على المستويات كافة، وفي مقدّمتها الأوضاع الإنسانية والصحية، والتي شهدت تراجعاً كبيراً خلال الشهرين الأخيرين نتيجة إغلاق المعابر، ووقف إدخال المساعدات.

إلا أنه على الرغم من ذلك، فإنّ إمكانية تراجع المقاومة عن مطالبها المحقّة والمشروعة تبدو مستحيلة، وضرباً من الخيال، إذ إنّ أيّ تراجع أو انكفاء عن تلك المطالب سيؤدّي إلى خسائر استراتيجية قد تصيب المشروع الوطني الفلسطيني في مقتل، وقد تساهم في تحوّل القضية الفلسطينية إلى مجرّد قضية إنسانية تتعلّق بتوفير المأكل والمشرب والمأوى ليس أكثر، فيما تسقط باقي الحقوق المشروعة للمواطنين، والتي تضمن لهم حياة حرّة وكريمة على أرضهم كما كلّ شعوب العالم، وهو الأمر الذي يرفضه كلّ أبناء هذا الشعب الفلسطيني على اختلاف توجّهاتهم السياسية، وانتماءاتهم الحزبية.     

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.