اختطاف المجتمع المدني

ثمة اختطاف سافر لمفهوم المجتمع المدني، وصل إلى حدّ التسليم من جانب بعض القوى الوطنية بهذا الاختطاف.

  • تطوَّر مفهوم المجتمع المدني في سياق التشكيلات والحِقَب الاقتصادية الاجتماعية المتعددة، من الرِّقّ إلى الإقطاع إلى الرأسمالية.
    تطوَّر مفهوم المجتمع المدني في سياق التشكيلات والحِقَب الاقتصادية الاجتماعية المتعددة، من الرِّقّ إلى الإقطاع إلى الرأسمالية.

مثلما جرى اختطاف مفاهيم الحرية والثورة وغيرها من مفاهيم حركة التحرر الوطني، ودمجها في قاموس المجاميع المشبوهة من عملاء السفارات الأطلسية، وما يرتبط بها من محميات الأبراج العقارية والنفط والغاز المسال، ثمة اختطاف سافر لمفهوم المجتمع المدني، وصل إلى حدّ التسليم من جانب بعض القوى الوطنية بهذا الاختطاف، والتعامل معه كمفهوم يعبّر عن لون وتيار معيَّنَين. 

أمّا الحقيقة، فهي أن المجتمع المدني لا علاقة له، من قريب أو بعيد، بمجاميع السفارات الأطلسية والخليجية، والأقنعة التي يستخدمونها باسم حقوق الإنسان وتمكين النساء والتمدين والحريات السياسية وصحافة الاستقصاء، وغير ذلك من شعارات مسروقة ومختطَفة أيضاً من قاموس التحرر الوطني، وموظفة في خدمة أجندة التفكيك والفوضى، كما من أجل إعادة إنتاج البلدان المستهدَفة في المنظومة الرأسمالية من موقع التبعية.

ابتداءً، وقبل التوصيف، فكرياً وتاريخياً، لمفهوم المجتمع المدني، لا بدّ من التأكيد أن للعمل السياسي وغيره قوانينَ وتقاليدَ، تظل على مقربة من الأدوات العلمية، كما سائر العلوم الإنسانية. ومن هذه القوانين، قانونُ التناقضات وجدل العلاقة بين الأفكار والوقائع، ومنحها أوزاناً نسبية متغيِّرة ومتحركة. 

وهي القوانين التي لا تضع أي مجتمع مدني أو ثورة على أرضية التحالف مع قوى التناقض الأساسي (المتروبولات الإمبريالية)، ولا مع قوى التناقض الرئيسي (العدو الصهيوني)، ولا مع تجليات هذين القانونين، مثل الخصخصة وفلسفة السوق والبنك الدولي وقوى الفساد والتبعية والطائفية ومحميات النفط والغاز المسال ومنابرهما ومرتزقتهما. 

بالعودة إلى مفهوم المجتمع المدني، فلقد تطوَّر في سياق التشكيلات والحِقَب الاقتصادية الاجتماعية المتعددة، من الرِّقّ إلى الإقطاع إلى الرأسمالية. وكانت التجربة الأولى هي التي عرفتها أثينا – المدينة، التي كانت تميّز بين مجتمع المدينة ممثَّلا بالمواطنين الأحرار من الذكور، وبين الآخرين غير المواطنين (النساء، الغرباء، العبيد). 

وكان المجتمع الأول (مجتمع المدينة) خليطاً من مفاهيم مدنية وسياسية، مثل حق الاقتراع. 

في المرحلة التالية، التي جمعت رواسب الرق (عمال المحاجر) والإقطاع العسكري الروماني، نجح شيشرون في تعميم مفهوم المواطنة أكثر مع بقاء روما مركزاً للنبلاء الأحرار وسيادتهم. 

ستمر قرون طويلة قبل أن يبدأ نظام الإقطاع الجرماني – البابوي بالتفسخ لمصلحة ثورات متراكمة، علمية (كوبرنيكوس – غاليلليو – كبلر)، وتجارية، وخصوصاً في جنوى والبندقية، ودينية (ثورة لوثر وكالفن)، وفكرية وصناعية، وخصوصاً في بريطانيا، مثل الآلة البخارية وآلات النسيج. 

في قلب هذه التحولات، ظهرت أُولى بذور الحديث عن المجتمع المدني، سواء عبر فلاسفة، مثل كانط، وخصوصاً مفهومه بشأن المواطنة العالمية، ومثل هيغل، أو عبر نظريات العقد الاجتماعي، وخصوصاً في ذروة ظهور الدولة القومية (دولة وستفاليا) في القرن السابع عشر. 

ومن المفارقات النظرية هنا، أن رجل دين مسيحياً، مثل توما الأكويني كان سبّاقاً في ذلك، وهو يستعيد من فلسفة كل من أرسطو وأفلاطون ليكمل أفكار سابقة عليه للأب قسطنطين في القرن الرابع الميلادي. 

بحسب قسطنطين، إذا كان الشر مرتبطاً بالخطيئة والأرض والتاريخ، فإن الخير يتم بنعمة الله. وبناءً عليه، لا بدّ من مملكة دنيوية لمواجهة الشر، لكن بحدود هذه الحاجة التي لا ترقى إلى مستوى المملكة السماوية الكبرى. 

بهذا المعنى، ثمة مجتمع في مدينة الأرض (أقرب إلى فكرة المجتمع المدني) يحتاج إلى تنظيم نفسه بحدود هذه الحاجات. أمّا التحولات الكبرى بشأن هذا المفهوم، فهي التي ظهرت مع النقاشات التي أثارتها نظريات العقد الاجتماعي المتعددة، بدءاً بتوماس هوبز (1588 – 1679)، ثم جون لوك (1632 – 1704)، وروسو (1712 – 1778)، وهيغل (1770 – 1831)، وماركس (1818 – 1838)، وأخيراً غرامشي (1891 – 1937). 

-   بحسب هوبز في كتابه "اللوياثان"، وانطلاقاً من فكرة الأمن العام، ومن أجل تثبيت الحكم في بريطانيا في تلك الفترة من الفوضى الناجمة عن الصراعات الدموية بين البرلمان والتاج، ربط هوبز العقد الاجتماعي بالسلطة المطلقة (تفويض السلطة في مقابل الأمن الاجتماعي). وظلّت أفكاره مصدراً لكل الردّات الملكية على الجمهورية بعد الثورة الفرنسية، إذ شهدت فرنسا ثلاثة عهود ملكية قبل سقوط آخرها (نابليون الثالث).

-   بعكس هوبز، وانطلاقاً من "الحق المقدَّس" للملكية الخاصة والحرية، دعا جون لوك إلى فصل المجتمع المدني عن الدولة، وكان مونتسكيو في كتابه "روح القوانين" أقرب إليه. 

-   بحسب روسو، في كتابه "العَقد الاجتماعي"، فلقد أقام علاقة جدلية بين الفرد والجماعة، عبر ما سمّاه الإرادة العامة: يصنع الأفراد القوانين بصورة ديموقراطية، ويخضعون لها في الوقت نفسه.  

-   في "ظاهريات الروح"، وفيما يخص حركة الروح الموضوعي (يقع بين الروح الذاتي والمطلق)، ميّز هيغل بين العام (الأُسرة) والخاص – الجزئي (المجتمع المدني) والمفرد (الدولة)، وقدّم مفهوماً للمجتمع المدني أقرب إلى مفهوم آدم سميث (1723 - 1790)، الذي أكد أن المجتمع الحديث مجتمع صناعي، يحتاج إلى تنظيم نفسه نقابياً. أمّا الدولة، عند هيغل، فهي المجتمع السياسي الذي يجسد الحرية، في معناها التاريخي المكتمل. وبالمثل، كارل ماركس، الذي قارب المجتمع المدني من زاوية اقتصادية – نقابية.

-   وصولاً إلى الفيلسوف الاشتراكي الإيطالي غرامشي، الذي يُعَدّ المؤسس، تاريخياً وفكرياً، لمفهوم المجتمع المدني، فلقد ميز بين المجتمع السياسي، ممثَّلا بالدولة، وبين المجتمع المدني، ممثَّلاً بالأحزاب والنقابات والمنظمات الشعبية، مضيفاً بُعداً جديداً إلى كل من السياسة والاقتصاد، هو البُعد الثقافي -الأيديولوجي، وخصوصاً المثقف العضوي المنخرط في قضايا المجتمع، بما هي قضايا التحرر من التبعية وفلسفة السوق والثقافة الرأسمالية، وليس الحريات السياسية فقط. 

في المحصِّلة، فإن حرب المفاهيم اليوم تقتضي عدم التسليم باختطاف مفهوم المجتمع المدني والتعامل معه كعنوان لنشاط عملاء السفارات، بل تستدعي استعادة هذا المفهوم، كجزء من قاموس حركة التحرر، الذي يدمج الحريات السياسية في القضايا الوطنية ضد الإمبريالية وقوى التبعية والليبرالية المتوحشة.