ارونداتي روي... نموذج المثقّف العالمي

بالشجاعة نفسها التي تحدّثت فيها عن حرب العراق تتحدّث الكاتبة الهندية الشهيرة اليوم عن فلسطين. والتكلّم بشجاعة وفق إدوارد سعيد هو خيار "يجب أن يلجأ إليه المثقّفون من دون تردّد لكي يبقوا أمناء لمعايير الحقّ".

  • روي التي تدافع عن فلسطين.
    روي التي تدافع عن فلسطين.

أحدثت عملية طوفان الأقصى وحرب الإبادة التي تشنّها "إسرائيل" على غزة فرزاً جديداً على مستوى المثقّفين في العالم.

ظهرت مجموعة من المثقّفين الذين ينطبق عليهم وصف "المثقّف العالمي" الذي أطلقه الفيلسوف الفرنسي فوكو. إنهم المثقّفون "الذين يتحلّون بالموهبة الاستثنائية وبالحسّ الأخلاقي الفذّ ويشكّلون ضمير البشرية"، بحسب جوليان بندا. 

ارونداتي روي من بين هؤلاء. الكاتبة الهندية الشهيرة التي زارت بيروت مؤخراً وألقت كلمة في الجامعة الأميركية في بيروت أثبتت مرّة جديدة أن هناك مثقّفاً حرّاً. هذا المثقّف الذي سأل إدوارد سعيد في كتابه صور المثقّف "عن إمكانية أن يعمل مستقلاً دون منّة من أحد". تؤكّد تجربة روي أنّ الجواب هو نعم هذا الأمر ممكن. 

منذ سنوات طويلة أثبتت روي أنها ليست من ضمن المجموعات التي تقف في صف مؤسسات أكاديمية أو ثقافية أو إعلامية أو بحثية أو سياسية بهدف أن تستمد منها قوة ونفوذاً، وأنها ليست من المثقّفين "الذين تحوّلوا إلى جوقة تردّد الرأي السياسي السائد كالصدى، وإلى خدّام للمؤسسات التي اختارت ضمّ الصفوة من المثقّفين إليها على نحو غير عادي" كما يقول سعيد.

على العكس من ذلك لم تتوقّف روي عن إطلاق المواقف التي "لن تجعلها صديقة لذوي المراكز الرفيعة" هذا ما فعلته في الجامعة الأميركية عندما اعتبرت في كلمتها أنّ لبنان بلد "خاطر بالكثير للوقوف كتفاً إلى كتف مع شعب غزة". لم تساير روي المنبر الذي تتكلّم من خلاله ولم تساوم..

اعتبرت أنّ الكلام عن غزة لا يصحّ من دون كلمات ثلاث هي "الاحتلال والتمييز العنصري والإبادة الجماعية"، وأن جرائم "إسرائيل" لم تبدأ في 7 تشرين الأول، وأنه "لا ينبغي لأحد أن يعتقد أن هناك مساواة أخلاقية بين ارتكاب "إسرائيل" لأعمال الإبادة وبين عملية مقاومة الاحتلال والفصل العنصري".

أضافت روي أن "إسرائيل" تحتل الولايات المتحدة الأميركية قانونياً وأن الشرطة الأميركية تضرب الطلاب المتظاهرين رفضاً للإبادة نيابة عن "إسرائيل".

ووصفت الجامعات الأميركية بأنها "متخمة بالمال من رسوم الطلاب ومن ضخ رأس المال الضخم من المانحين الأثرياء والشركات ومؤسساتها، وأنها تستثمر في الإبادة الجماعية وصناعات الأسلحة"، وسألت "هل يمكن لأيّ شيء أن يكون غير أخلاقي أكثر من ذلك؟"، وأضافت "يبدو إلى حد كبير أن حكومة الولايات المتحدة محتلة قانونياً من قبل "إسرائيل" التي تسيطر على أموالها وأسلحتها وسياساتها والكثير من خيالها". واعتبرت أن الشعب الأميركي اليوم ومن خلال الانتخابات وضع أمام خيار بين رجلين أبيضين ثمانينيّين داعمين للإبادة والفصل العنصري. هذا ما تفعله الرأسمالية تمنحك خيارات ليست خيارات".

وهنا تكمن أهمية روي التي صوّبت باستمرار في كتاباتها ومحاضراتها على أساس المشكلة المتمثّلة بالإمبراطورية الأميركية التي تتشكّل وفق الكاتبة الهندية من "اتحاد وتراكم فجّ لمصادر القوة والسيطرة تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وتنتج عنه فجوة شديدة الاتساع بين صانعي القرار من ناحية، وبين من يعانون من تلك القرارات"، كما تضيء روي على ازدواجية ونفاق الغرب اللذين تطوّرا مع مرور الزمن.

في إحدى محاضراتها تتحدّث عن مفارقة متمثّلة بأن الدول الأوروبية حين كانت تتقدّم وفي طور دخولها عصر الصناعة كانت "تطوّر نماذج جديدة من الديمقراطية وحقوق المواطنين محصورة في البلاد الأم، وتبيد في الوقت نفسه شعوباً بالملايين في المستعمرات، وفي السنين الأولى من الاستعمار كانت إبادة الشعوب الأصلية بهدف التحضّر فكرة مقبولة بشكل صريح".

وتضيف: "مع نمو الحديث حول حقوق الإنسان بدأ نوع جديد من الازدواجية الأخلاقية تجسّد بولادة ظاهرة جديدة هي   نكران الإبادة الجماعية". يتبيّن من كلام روي أنّ إنكار الإبادة الجماعية الحاصلة حالياً في غزة ليس استثناء وليس أمراً جديداً أو طارئاً، إنه من العوارض الملازمة للحداثة وما بعدها.

تخبرنا روي أن المجازر الجماعية التي ارتكبها الأوروبيون ابتداءً من القرن الخامس عشر كانت جزءاً لا يتجزّأ من بحث أوروبا عن مجالها الحيوي، وتشير إلى بعد خطير يتمثّل بالتقاء سياسات الإبادة الجماعية مع السوق الحرّة، وتشرح كيف أنّ الاعتراف الرسمي بالإبادة أو نكرانها أو فبركة إبادات وهمية بات "مشروع شركة تجارية متعدّدة الجنسيات لا مكان فيه للأخلاقية، ونادراً ما يتصل بحقيقة تاريخية أو بدليل جنائي".

وترى أن هذا المشروع هو عبارة عن "عملية هجومية تنتمي إلى مفاهيم المنظّمة العالمية للتجارة أكثر منها للأمم المتحدة، وأن العملة المتداولة فيه هي السياسة الجغرافية والاقتصادية والبشرية وسوق الثروات الطبيعية".

وتسأل روي من يحدّد هل كان مقتل مليون عراقي في ظلّ نظام العقوبات الذي سبق 2003 إبادة أم لا؟

تجيب أنّ الاعتبار يعتمد على من يسنّ القواعد أهو الرئيس الأميركي؟ أم الأم العراقية التي فقدت طفلها؟". 

بالشجاعة نفسها التي تحدّثت فيها عن حرب العراق تتحدّث روي اليوم عن فلسطين. والتكلّم بشجاعة وفق إدوارد سعيد هو خيار "يجب أن يلجأ إليه المثقّفون من دون تردّد لكي يبقوا أمناء لمعايير الحقّ الخاصة بالبؤس الإنساني والاضطهاد".

تقول روي " لقد قدّم مرتكبو الحرب على غزة أنفسهم كضحايا، وصوّر المستعمرون الذين يديرون دولة الفصل العنصريّ أنفسهم على أنهم مضطهدون، وأيّ تشكيك في ذلك يعني اتهامك بأنك معادٍ للسامية"، واعتبرت أن المطلوب اليوم من العالم الصمت وإلا "فإننا نخاطر بالمنح الدراسية والهبات ومكافآت المحاضرات وبسبل عيشنا".

إلا أن روي لم تصمت واستمرّت بطرح الأسئلة المحرجة، وكان لها صوتها وحضورها المميزان والفذّان. في كلمتها في الجامعة الأميركية في بيروت قالت روي "إننا نعيش أوقاتاً صعبة"، والحقّ يقال إن المعادن الحقيقية للناس عامّة ومن بينهم المثقّفون الحقيقيون تلمع في الأوقات الصعبة.