الاستراتيجية الأميركية للسيطرة على أسواق الطاقة في أوروبا
من المفارقات الاستراتيجية أن تختار أوروبا الغاز الأميركي الباهظ الثمن بفارق كبير عن مثيله الروسي في ظلّ ركود اقتصادي عالمي يطال العديد من دول القارة الأوروبية.
-
من المفارقات الاستراتيجية أن تختار أوروبا الغاز الأميركي الباهظ الثمن عن مثيله الروسي.
شهدت خريطة الطاقة في أوروبا تحوّلات جذرية منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في العام 2022، وبعد أن كان الغاز الروسي يمثّل عصب الحياة والاقتصاد للاتحاد الأوروبي بنسبة قاربت 40% من اعتماداته تحوّل فجأة إلى تهديد استراتيجي، ولعلّ هذا الانقلاب الجذري كان أحد الأهداف الخفيّة لتلك الحرب التي بدأتها روسيا مجبرةً كعملية عسكرية خاصة في ظلّ التهديد الجيوسياسي الذي باتت تمثّله أوكرانيا بتشجيع من الغرب الجماعي وحلف الناتو.
وهو ما أكّدته التفجيرات التي طالت خطوط أنابيب نورد ستريم 1، 2 بعد أشهر قليلة على بدء العملية العسكرية الروسية بعد أن كان من المقرّر أن تساهم خطوط نورد ستريم بنقل 70% من الغاز الروسي المورّد لأوروبا عبر بحر البلطيق وألمانيا.
ومع هذا الانقلاب في ملف الطاقة الروسي برزت الولايات المتحدة الأميركية كلاعب مركزي يسعى لإعادة صياغة توازنات الطاقة في القارة الأوروبية عبر استراتيجية متكاملة تهدف إلى دفع أوروبا للاستغناء عن الغاز الروسي، واستبداله بالغاز الأميركي المسال (LNG).
المحاور الرئيسية للاستراتيجية الأميركية
بتسارع كبير انتقلت الولايات المتحدة من مرحلة سدّ فجوة الإمدادات التي خلّفها تراجع الغاز الروسي إلى مشروع جيوسياسي بعيد المدى والأهداف لإعادة رسم خريطة الطاقة في أوروبا وربطها بالولايات المتحدة اقتصادياً، وذلك بالتوازي مع خطط أمنية لإحكام السيطرة وضمان نجاح مشروعها فيما يشبه إنشاء ناتو طاقوي موازٍ للناتو العسكري لإخضاع أوروبا اقتصادياً لواشنطن كما هو الحال عسكرياً.
• المحور الأول: بولندا... مركز التوزيع الشرقي للغاز الأميركي
تمتلك بولندا ثالث أكبر جيش في حلف الناتو، وتجاوز حجم اقتصادها تريليون دولار، ولها ساحل طويل على بحر البلطيق وتشرف على دول أوروبا الشرقية والغربية ولديها عدد سكان كبير، كلّ ذلك جعلها مؤهّلة لتتصدّر قلب الاستراتيجية الأميركية في أوروبا اقتصادياً وأمنياً.
ومنذ سنوات تعمل وارسو على بناء بنية تحتية متطوّرة لاستقبال الغاز المسال في ميناء "سفينويتشيه" على بحر البلطيق، بتمويل ودعم تقني من واشنطن، وتمّ توسيع طاقته الاستيعابية إلى أكثر من 10 مليارات متر مكعب سنوياً، ليتحوّل الميناء إلى منصة توزيع إقليمية للغاز الأميركي نحو دول أوروبا الوسطى والشرقية مثل التشيك وسلوفاكيا وأوكرانيا ودول البلطيق، ومؤخّراً هنغاريا التي وافق ترامب بعد استقباله لرئيس وزرائها (فيكتور أوربان) مؤخّراً على إعفائها من العقوبات على خطَي غاز "ترك ستريم ودروجبا" لمدة عام واحد مقابل القبول بشراء غاز مسال من واشنطن بقيمة 600 مليون دولار وفقاً لإعلان الخارجية الأميركية .
إضافة إلى ذلك فإنّ مشروع "أنبوب البلطيق" الذي يربط بولندا بالدنمارك والنرويج، أتاح تنويع الإمدادات ودمج الغاز الأميركي بالنظام الإقليمي الأوروبي.
من الواضح أنّ الولايات المتحدة تسعى لتحويل حليفها الأطلسي -بولندا- إلى قوة عظمى إقليمية يمكن الاعتماد عليها لتقويض النفوذ الروسي في المنطقة، وتحويل شرق أوروبا إلى ساحة نفوذ أميركية أطلسية.
• المحور الثاني: اليونان... بوابة الغاز الأميركي والشرق أوسطي إلى أوروبا
إذا كانت بولندا تمثّل جناح واشنطن الشرقي في معادلة الطاقة، فإنّ اليونان تمثّل الجناح الجنوبي، فعبر مشروع محطة "ألكسندروبوليس" للغاز المسال المدعوم أميركياً، تتحوّل اليونان إلى مركز عبور رئيسي للغاز المقبل من الولايات المتحدة ومن شرق المتوسط (مصر، "إسرائيل"، قبرص) إلى أوروبا الوسطى والبلقان، حيث تعمل واشنطن على دمج هذا الدور مع مشاريع البنية التحتية القائمة مثل خط TAP (الذي ينقل الغاز من أذربيجان إلى أوروبا عبر اليونان وألبانيا وإيطاليا) والربط مع بلغاريا ورومانيا، وبالتالي سيكون الغاز الأميركي المسال المقبل من البحر المتوسط جزءاً من شبكة إمداد متكاملة، تعزّز مكانة اليونان كمحور للطاقة وتحدّ من هيمنة خطوط الغاز الروسية، وفي هذا الإطار فإنه لا يمكن إغفال خطط الولايات المتحدة للسيطرة على الغاز مقابل سواحل قطاع غزة، وهو ما سيحتاج في حال تحقّقه إلى نقله إلى أوروبا عبر اليونان أيضاً.
إضافة إلى ذلك فقد وقّعت أثينا اتفاقية تاريخية مع عملاق النفط والغاز الأميركي - شركة إكسون موبيل - للتنقيب في مياهها الإقليمية، وهو ما يعزّز مكانتها في الاستراتيجية الأميركية لرسم خرائط الطاقة الجديدة في أوروبا.
• المحور الثالث: إعادة تشكيل البنية التحتية الأوروبية للغاز
إنّ أهمّ العقبات التي تواجهها الولايات المتحدة في استراتيجيتها لتكون بديلاً عن روسيا في قطاع الطاقة الأوروبي تتمثّل في كون الغاز الأميركي لا يمكن نقله عبر المحيط الأطلسي والبحار إلّا مسالاً وليس عبر الأنابيب، وهو ما يتطلّب إعادة تحويله إلى غاز لدى وصوله، وذلك يستوجب إعادة بناء بنية تحتية ضخمة ومكلفة واستثمارات هائلة، ويحتاج إلى مدة زمنية طويلة نسبياً، ولذلك دعمت واشنطن تمويل محطات جديدة في ألمانيا وهولندا وفرنسا وإسبانيا، ومارست ضغوطاً داخل المفوّضية الأوروبية لتسهيل تصاريح المشاريع وتسريعها، ودفعت باتجاه التشجيع على إنشاء شبكة "الربط الغازي الأوروبي" التي تسمح بتبادل الغاز بين الدول الأوروبية، وهو ما سيسهم بالنهاية في خلق تبعية أوروبية للغاز الأميركي في البنية التحتية الأوروبية نفسها .
• المحور الرابع: دمج الطاقة بالأمن عبر الناتو
تعمل واشنطن بالتوازي على دمج ملف الطاقة ليس بالاقتصاد فحسب، بل بمنظومة الأمن الأوروبية والناتوية، حيث بدأ حلف الناتو منذ العام 2023 إدراج أمن الطاقة ضمن أولوياته الاستراتيجية على اعتبار أنّ الهجمات على البنى التحية للطاقة ستشكّل تهديداً للأمن الجماعي لدول الحلف، وهو ما يعني بالضرورة أنّ الغاز الأميركي تحوّل إلى أداة حماية أطلسية على اعتبار أنّ الناتو الذي تقوده واشنطن سيكون ملزماً بحماية منشآته وتأمين وصوله، وبالتالي سيتحوّل الغاز الأميركي البديل عن الغاز الروسي إلى أداة ردع جيوسياسية في مواجهة روسيا، وهو ما سيزيد من اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة في مجال الأمن، ويسمح لواشنطن بإعادة صياغة استراتيجيتها العسكرية في مجال التسليح و الانتشار من البلطيق إلى المتوسط مروراً بشرق أوروبا.
• المحور الخامس: النفوذ التجاري والاقتصادي عبر العقود الطويلة
يشكّل البعد التجاري والاقتصادي واحداً من أهمّ المحاور المكمّلة للاستراتيجية الأميركية، حيث قامت شركات أميركية عملاقة بتوقيع عقود طويلة تمتدّ حتى عام 2045 مع شركات أوروبية مثل شركة "تشينيير إنرجي" أوّل وأكبر مصدر للغاز المسال في الولايات المتحدة، وشركة "فينشر غلوبال" المختصة ببناء وتشغيل وتطوير محطات الغاز المسال منخفضة الكلفة، وشركة "تيلوريان" المختصة بإنتاج واستخراج الغاز من الحقول وتسييله وتصديره، وكلّ ذلك بهدف تأمين استمرارية وصول الغاز الأميركي إلى السوق الأوروبية، وبما يضمن للولايات المتحدة مكانة دائمة في سوق الطاقة الأوروبي، ويمنحها ورقة نفوذ اقتصادي طويل الأمد.
خاتمة .. وكلام لا بدّ منه
من المفارقات الاستراتيجية أن تختار أوروبا الغاز الأميركي الباهظ الثمن بفارق كبير عن مثيله الروسي في ظلّ ركود اقتصادي عالمي يطال العديد من دول القارة الأوروبية، وأيضاً فإنه من المفارقات الجيوسياسية أن تتحرّر أوروبا من النفوذ الطاقوي الروسي لتجد نفسها في تبعيّة جديدة للولايات المتحدة اقتصادياً وطاقوياً وأمنياً.
ما هو مؤكّد اليوم أنّ أوروبا التي اتخذت قراراً بإنهاء الاعتماد على الغاز الروسي نهائياً في موعد أقصاه نهاية العام 2027 قد وضعت نفسها على طاولة راسم السياسيات الأميركي الذي يعيد هندسة أوروبا عبر الغاز، ومن بولندا في الشمال، إلى اليونان في الجنوب، مروراً بشبكات البنية التحتية الجديدة ومحطات الاستقبال، تعمل واشنطن على تثبيت نفوذها في القارة العجوز ليس فقط كحامٍ عسكري، بل كمصدر طاقة أساسي.
هذه الاستراتيجية الأميركية تعكس رؤية بعيدة المدى مفادها: إنّ أمن أوروبا يجب أن يُبنى على الاعتماد على الحليف الأميركي، لا على الحياد بين القوى العظمى المتصارعة، وفي عالم تتغيّر فيه تحالفات الطاقة بوتيرة متسارعة، يبدو أنّ الغاز الأميركي أصبح الوجه الجديد للدبلوماسية الأميركية في القرن الحادي والعشرين.