التّطبيع الثّقافي مع النّخب المغاربيّة.. مصلحة إسرائيليّة

لم يشكّل بعض مثقفي دول الاتحاد المغاربي استثناء عن نظرائهم في دول الشرق الأوسط.

  •  التطبيع الثقافي مع النخب المغاربية هو مصلحة إسرائيليَّة
    التطبيع الثقافي مع النخب المغاربية هو مصلحة إسرائيليَّة

قد لا يكون التطبيع السياسي بين الدول الإسلامية والعربية والكيان الصهيوني في حد ذاته هدفاً رئيسياً للأخير، لأن هذه العملية تتم بين حكومات هذه البلدان وبينه، لكن ما يهمّ الكيان أساساً هو التطبيع الثقافي، لأنه البوابة التي يستطيع من خلالها النفاذ إلى المجتمعات الإسلامية والعربية. كيف ذلك؟

تعود ظاهرة الهرولة نحو التطبيع الثقافي مع الكيان الصهيوني إلى اتفاقيات "أوسلو" و"وادي عربة" في تسعينيات القرن الماضي، إذ بدأنا نلاحظ هرولةً غَيْرَ مسبوقةٍ من بعض النخب الثقافيّة وبعض الفعاليات الجمعويّة في العالمين الإسلامي والعربي نحو زيارة "إسرائيل"، بدعوةٍ من وزارة الخارجية الصّهيونية، أو للقاء السفراء الصهاينة المعتمدين لدى هذه الدول، إلى درجة أنَّ البعض كان يفاخر في مجالسه بالجلوس إلى مائدة عشاء السّفير الصهيوني المعتمد لدى بلاده.

ولم يشكّل بعض مثقفي دول الاتحاد المغاربي استثناء عن نظرائهم في دول الشرق الأوسط، إذ قام العديد من المثقّفين وبعض الفعاليات الجمعوية، منذ تلك الفترة ولغاية اليوم، بزيارات عديدة للكيان الصهيوني، غير أنَّ السؤال الذي يطرح نفسه: ما مصلحة الكيان الصهيوني من التطبيع الثقافي مع النخب في دول الاتحاد المغاربي؟

تدرك "إسرائيل" الدّور الَّذي يمكن أن يؤدّيه المثقفون في بلادهم، فهم مرآة مجتمعاتهم. ومن خلالهم، يتم توجيه الرأي العام الوطني. لذا، تحاول اتخاذهم جسراً يمكّنها من العبور إلى عقول الشعوب المغاربية تحت شعارات زائفة، مثل قبول ثقافة الآخر وإشاعة قيم التسامح ونبذ الكراهية، مع العلم أنَّ الكيان الصهيوني يُقْدِمُ على تلقين النخب الصهيونية منذ صغرها كراهية المسلمين والعرب في مدارسه، وأن قتلهم واجبٌ وتنفيذٌ لتعليمات الرَّب، خدمةً لـ"إسرائيل". 

ليس هذا فحسب، فقد تعملُ "إسرائيل" من أجل بلوغ أهدافها على مساعدة المثقّفين المغاربيين ممن درسوا الترجمة والأدب العبري مادياً، لنقل كُتُبٍ بِعَيْنِهَا من العبرية إلى العربية، والتّرويج لها في معارض الكتاب في دول الاتحاد المغاربي بما يخدم مصالحها، مثل تقديمها كـ"دولةٍ" محبّة للسّلام وإظهار "حقها" التاريخي المزعوم في فلسطين المحتلّة، وأنَّها لا تكره أحداً، وما يشاع عنها هو محضُ كذبٍ وافتراءٍ، أو المساعدة على تنظيم ندواتٍ ثقافيةٍ تضمّ كتّاباً من الكيان الإسرائيلي، للقاء الجماهير المغاربية المهتمة بالثقافة والأدب. 

والأخطر من هذا كلّه، أنّ "إسرائيل" لا تُفَوِّتُ الفرصة عندما يزورها هؤلاء المثقفون لاصطحابهم إلى العديد من المؤسسات الصهيونية، ومنها متحف "الهولوكوست" الموجود في معهد ومركز دراسات "ياد فاشيم" في القدس المحتلّة، لإطلاعهم على الوثائق المتعلقة بهذه القضية، والمزاعم التي تتحدث عن مَحْرَقَةٍ اقترفها النازيون بزعامة أدولف هتلر بحق 5 ملايين من اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، في معسكري الاعتقال في أوشفيتز بركيناو وداشاو، علماً أن الصهاينة كانوا أول المتعاونين مع النازية، ومنهم الإرهابي الراحل إسحاق شامير، وهو ما تفنّده العديد من الشهادات والكتابات، من بينها كتابات المفكّر الفرنسي المسلم روجي غارودي والمؤرخ البريطاني ديفيد إيرفينغ، رغم أنَّها لا تنفي وقوع هذه الانتهاكات، لكنها تشدد في الوقت نفسه على أن هذا العدد مبالغ به، ويبقى موضع شكّ، فضلاً عن وجود المحرقة أصلاً. كلّ ذلك لغايةٍ فِي نفس "إسرائيل". 

وإذا كان الكيان الصّهيونيّ قد استعمل في الماضي ورقة الهولوكوست لابتزاز الدول الغربية مالياً، وخصوصاً ألمانيا والنمسا، بإجبارها على دفع تعويضاتٍ ماديةٍ هائلةٍ تحت ما سُمي "عقدة الذنب"، فمن غير المستبعد أن يستعمل الورقة نفسها، لكن بطريقة أخرى، لاستدرار عطف المثقّفين المغاربيين من زواره أو محاولة شراء ذمم بعض ذوي النفوس الضّعيفة.

وتهدف "إسرائيل" من خلال ذلك إلى دفعهم إلى التعريف بقضيّة "الهولوكوست" وسط الرأي العام المغاربي كحقيقةٍ مُطْلَقةٍ لا ترقى إلى الشك، والإيعاز إليهم بالدفاع عنها، والدعوة إلى تجريم مُنكرِيها أو المشككين فيها مستقبلاً، على غرار قانون "جيسو" الفرنسي الصادر في تموز/يوليو 1990 (نسبةً إلى النائب الشيوعي جيسو الذي تبنّى هذا المشروع)، حتى يتمّ تكميم الأفواه المنتقدة والرافضة للانتهاكات الصهيونية بحق أبناء الشعب الفلسطيني، بدعوى "معاداة السامية".

وقد أُثير جدلٌ عقب التوقيع على اتفاقيّة التطبيع بين المغرب والعدو الصّهيوني، إذ اعتبر البعض هذه الخطوة خيانةً للقضية الفلسطينية وتطبيعاً مجانياً، فيما اعتبرها البعض الآخر أمراً عادياً، لسببين؛ الأول وجود أكثر من مليوني مستوطن إسرائيلي من أصولٍ مغربية في الكيان الصهيوني، والآخر أنَّ دستور العام 2011 ينصّ في أحكامه العامة على أنَّ الهوية المغربية تتكوَّن من الأمازيغية والعربية والحسانية والأندلسية والعبرية.

وهذا تأويلٌ خاطئٌ في فهم مضامين الدستور المغربي، لأنَّ المشرع المغربي عندما اعترف في الدستور الجديد بالهوية الثقافية اليهودية كمكوّن من مكونات النسيج المجتمعي في المغرب، فإنَّه يقصد الأقلية اليهودية المغربية التي لا تتعدى 2500 نسمة، والتي فضّلت البقاء في وطنها الأم، وناضل بعض أبنائها من أجل مغربٍ ديمقراطيٍ حرٍ، كالراحل أبراهام ألبير السرفاتي، زعيم حركة "إلى الأمام" اللنينيّة الماركسية السابقة، والمناضل الحقوقي سيون أسيدون، وليس منهم من ذهب إلى "إسرائيل"، واعتبر نفسه "مواطناً صهيونياً"، وتقلّد فيها مناصب سياسية وإدارية وعسكرية، وهو لا يدين بالولاء إلا لها. 

مؤخّراً، بدأت تظهر صفحات في مواقع التواصل الاجتماعي بالدارجة المغاربية وقنوات "يوتيوب"، تمدح "إسرائيل"، وتدافع عن حقّها في الوجود، وتبيّن أنها واحة للسَّلام والديمقراطية، وتشيد بمنجزاتها في شتى المجالات، مع ذكر محاسنها والإشادة بإنسانيّة جنود الاحتلال الصهيوني. هذا الأمر، إن دلَّ على شيء، إنما يدلّ على أنَّ هناك محاولة صهيونية محمومة، لاختراق المجتمعات المغاربية وغسل أدمغتها، حتى يصبح وجود "إسرائيل" مقبولاً فيها.

في الختام، يتّضح من خلال ما ذُكر أعلاه، أنّ التطبيع الثقافي مع النخب المغاربية هو مصلحة إسرائيليَّة أكثر من كونه مصلحة مغاربية. لذا، تسعى "إسرائيل" بكلّ الوسائل لتحقيق مسعاها الرامي إلى اختراق شعوب المنطقة ثقافياً، لأنَّ الغاية عندها تبرّر الوسيلة.