التطبيع مع "إسرائيل".. حصاد باهت ومسارات متعثّرة

هل حقّقت مشاريع التطبيع مكاسب وأهدافاً، عربياً أم إسرائيلياً، أكثر؟ وإلى أين يسير المشهد في مسار التطبيع خلال المرحلة المقبلة؟

  • مسار التطبيع هوّلت له
    مسار التطبيع هوّلت له "إسرائيل"، ومن خلفها أميركا، بصورة غير مسبوقة في بداياته، وقالتا إن طابوراً من الدول العربية ينتظر ليلحق بركبه.

مسار التطبيع الذي بدأته، قبل عامين، دولٌ خليجية، مثل الإمارات والبحرين، ولحق بها عدد آخر من الدول العربية، مثل المغرب والسودان، جاء بدعم وتشجيع أميركيَّين، وتأييد دول كبرى حثّت الدول الخليجية والعربية على إقامة علاقات طبيعية بـ"إسرائيل"، حرصاً على مصالحها في المنطقة، ومن أجل تأمين مصالح "إسرائيل" في آن واحد. 

هذه البيئة فتحت المجال أمام "إسرائيل" لأن يكون لها موطئ قدم في المنطقة العربية، إذ قدمت تلك الدول الأربع، في قفزها هذه القفزة تجاه اتفاقيات التطبيع، مكافأة مجانية إلى "إسرائيل" على ما فعلته من مسلسل جرائم طال عمره أكثرَ من أربعة وسبعين عاماً، وما زالت مستمرة في نهجها الإجرامي تجاه الأرض والإنسان والمقدسات، وسجّلت فيه اصطفافاً مع "إسرائيل" على حساب القضية الفلسطينية.

مسار هوّلت له "إسرائيل"، ومن خلفها أميركا، بصورة غير مسبوقة في بداياته، وقالتا إن طابوراً من الدول العربية ينتظر ليلحق بقطار التطبيع. وعلى الرغم من التهويل والترويج الأميركيَّين الإسرائيليَّين لمشروع التطبيع، فإنَّ دولاً عربية ظلّت صامتة، ولم تُبدِ موقفاً واضحاً، وأخرى وقفت حالة الحياد، لكنّ دولاً أخرى، في المشهد ذاته، ثبّتت موقفها بصورة واضحة، مثل سوريا ولبنان والعراق واليمن وإيران، عبّرت عن رفضها المطلق مسارَ التطبيع مع "إسرائيل"، ووصفته بالخيانة الكبيرة للقضية الفلسطينية.

تاريخياً، بدأ مسلسل التطبيع العربي مع "إسرائيل" نهاية سبعينيات القرن الماضي، ومرّ في حالة من الجمود، حتى أُعيد إحياؤه في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عام 2020، بحيث التحقت أربع دول بقطار التطبيع، ووصل بعضها إلى حدّ التحالف مع "إسرائيل". وبدأ التطبيع يأخذ شكلاً شرعياً لدى هذه الأنظمة في العواصم العربية، التي وقّعت اتفاقيات تطبيع رسمية علنية، بينما بدت القضية الفلسطينية لدى هذه الأنظمة أساس النكبة والنكسة.

جاءت اتفاقيات التطبيع الجديدة تحت عناوين متعددة، كسرت فيها الدول المطبّعة الخطوط الحُمرَ بشأن العلاقة بـ"إسرائيل"، وعلى نحو غير مسبوق، منها جاء على قاعدة التحالف الخليجي الإسرائيلي، والتذرّع بالتهديد الإيراني، كدولتي الإمارات والبحرين. وأخرى جاءت تحت عنوان المقايضة في مقابل اعتراف واشنطن بسيادة الرباط على الصحراء الغربية، مثل دولة المغرب، وأخرى تحت الإغراء أو الابتزاز كالسودان، من أجل رفعه من تصنيف قوائم الإرهاب الأميركية. وعلى الرغم من احتفاء أنظمة التطبيع باتفاقياتها مع "إسرائيل"، فإن هذه الاتفاقيات قوبلت برفض واسع وكبير من أحزاب وهيئات ومؤسسات داخل الدول الأربع. 

لتقييم مسار التطبيع، الذي انطلق قبل عامين، لا بدّ من التوقف عند الآثار والفائدة والمكاسب التي عادت على الدول المطبّعة، ومدى التزام "إسرائيل" بثمن التطبيع وفاتورته، والإيفاء بالوعود التي انضوت في جوهر هذه الاتفاقيات؟ وربما السؤال الأهم، هو: هل حقّقت مشاريع التطبيع مكاسب وأهدافاً، عربياً أم إسرائيلياً، أكثر؟ وإلى أين يسير المشهد في مسار التطبيع خلال المرحلة المقبلة؟

وفق الشواهد والأحداث تجاه مسيرة التطبيع، فإنه لم يحقق مكاسب كبيرة للدول المطبّعة. فدولة الإمارات، التي تُعَدّ أُولى الدول التي طبّعت مع "إسرائيل"، وذهبت بعيداً إلى مستويات تجاوزت الاتفاقيات الرسمية أو الاقتصادية والأمنية، ووصلت إلى حالة الاندماج الكامل فيها، اصطدمت مؤخراً برفض "إسرائيل" بيعها منظومة "القبة الحديدة" والدفاع الجوي بسبب خشيتها من تسريب معلومات تكنولوجية عسكرية الى أطراف أخرى، الأمر الذي اضطر أبو ظبي إلى شراء منظومة دفاع جوي من كوريا الجنوبية. كما سُجِّل للإمارات تعثُّرها في تنفيذ شراء صفقة الطائرات الحربية من طراز "أف 35". 

أمّا في المغرب، فيشهد مسار التطبيع تعثراً واضحاً، وسُجِّلت حالة جفاء في العلاقة المغربية الإسرائيلية نتيجة المماطلة الإسرائيلية، وموقفها بشأن النزاع في الصحراء الغربية، وهو ما أدى إلى حالة انزعاج مغربي، وتأجيل افتتاح السفارة الإسرائيلية في الرباط. وهذا ما أكدته صحيفة Ecsaharaui الإسبانية. وحال السودان ليست أفضل من حال المغرب كثيراً، إذ إن التطبيع مع "إسرائيل" لم يُنهِ أزمات السودان، ولم يحقق مصالحه، كما جاءت الوعود قبيل اتفاقية التطبيع، بحيث رُوِّج أن التطبيع سيحل أزمات السودان. والنتيجة اتَّضحت على الأرض، وهي أن هذه الوعود ليست إلاّ مجرد نظرة قاصرة، في حقيقة الواقع، بل اتضح السبب الحقيقي من وراء التطبيع الإسرائيلي السوداني، وهو أن "إسرائيل" تبحث عن مصالحها وأمنها القومي في البحر الأحمر فقط.

مسار التطبيع، الذي بدأه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، فقدَ كثيراً من حيويته بعد وصول بايدن إلى سدة الحكم في واشنطن، لكنه لم يغب عن المشهد تماماً. فالتطبيع، في هذه المرحلة، يشهد حالة من التعثر والفتور معاً، وهو مؤشر على بداية فشل مسار التطبيع في تحقيق أهداف ومكاسب جوهرية للأنظمة الخليجية والعربية، التي هرولت وطبّعت مع "إسرائيل".

دعم الإدارة الأميركية الحالية لملف التطبيع مغاير في طريقته لدعم الإدارة الأميركية السابقة في عهد ترامب، من حيث الأسلوب والهدف، بعيداً عن سياسة الابتزاز أو المساومة. بايدن يعمل من أجل تثبيت مصالح أميركا في المنطقة، عبر تخفيف حدة كراهية "إسرائيل" وتعزيز حضورها في التحالف الذي تديره، لكنّ الذي يجب ألاّ يغيب عن الأذهان، هو أن الترويج، بأي طريقة أو أسلوب بشأن دعم مسار متعثّر، يضر في الدرجة الأولى، وأخيراً، على نحو صارخ، القضيةَ الفلسطينية. 

سلوك واضح من الدول التي وقّعت اتفاقيات التطبيع، وخصوصاً الإمارات والبحرين، يعطي دلالة واضحة على أن مسار التطبيع يعيش حالة كبيرة من الرفض الشعبي العربي. وعلامات الفتور والتعثر ومؤشرات الفشل في دول التطبيع أصبحت واضحة. وتعمل تلك الدول على إعادة إعطاء زخم لاتفاقيات التطبيع، عبر إعلان مزيد من الاتفاقيات الفرعية المتنوعة، من أجل إبقاء الحديث عن مسار التطبيع حياً، والقول إنه ماضٍ ويتقدم، وأن هناك دولاً قادمة ستلتحق وتوقع اتفاقيات تطبيع جديدة مع "إسرائيل". 

هل سينشط التطبيع؟ أم سيبقى متعثراً، وسيعود إلى حالة من الفتور والفشل؟ المنطقة منقسمة إلى محورين، وتعيش حالة تدافُع كبيرة، بين محور مدعوم من أنظمة اصطفت إلى جانب مشروع "إسرائيل" في المنطقة، ومحاولاتها مستمرة من أجل المُضِيّ قُدُماً في نهج التطبيع ودعم بيئته، وبين محور تَرئِسه إيران ودول محور المقاومة، رافض بشدة لمسار التطبيع، ومعه بيئة مقاومة وداعمة، وتشكّل النواة الصلبة للشعوب العربية الرافضة فَتْحَ أيّ علاقات رسمية بـ"إسرائيل"، وتعمل على محاصرته ونبذه والتصدي له بقوة.

البيئة السياسية للأنظمة العربية الحالية، التي التزمت الصمت أو الحياد تجاه التطبيع مع "إسرائيل"، تُعَدّ بيئة سهلة الاستقطاب والاختراق الإسرائيلي، من أجل جرّها إلى مربّع التطبيع في أي لحظة، إذا ما نشطت الدبلوماسية الإسرائيلية، أو تعرضت لدور أميركي مؤثّر، قد يشجّع على الانضمام إلى اتفاقيات تطبيع جديدة، نتيجة اعتبارات ثلاثة:

الأول: سلوك السلطة الفلسطينية الرسمي، في ظل استمرار اللقاءات الأمنية العالية المستوى بين قيادات السلطة الفلسطينية وقيادات إسرائيلية، وكان آخرها لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس ووزير أمن الاحتلال الإسرائيلي بيني غانتس، واستمرار التنسيق الأمني مع "إسرائيل" أمام انعدام أيّ أفق سياسي يعكس حالة تقارب معها، قد تشجّع بعض الدول، منفردةً، على الذهاب إلى خيار التطبيع.

الثاني: ضعف النظام الإقليمي العربي ومؤسساته، كمجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية، والتي دورها غير مؤثّر وغير رافض لمسار التطبيع بصورة صريحة، وأصبح هامشياً ومنساقاً في كثير من المحطات، وأقرب إلى مسار التقارب مع "إسرائيل". مع غياب وجود كابح للدول العربية، سينشط السلوك الفردي لتلك الدول، وسيجعل الأرضية خصبة للتغلغل الإسرائيلي، عبر جرّها إلى مربّع التطبيع ومحاولة إقناعها بفكرة توقيع اتفاقيات تطبيع من أجل المحافظة على أنظمتها ومصالحها.

الثالث: شعور بعض الأنظمة العربية بأن الإدارة الأميركية لم تعد تشكّل مظلة حماية لها، وبدأت انسحاباً تكتيكياً من المنطقة، الأمر الذي ولّد لديها مخاوف وهواجس مفادها أن الحماية الأميركية، التي شكّلت لها ضامناً على مدى سنوات طويلة أمام نفوذ إيران، أصبحت في حالة تراجع. وبالتالي، قد تهيّئ تلك الظروف لجوءَ بعض دول الخليج إلى الذهاب إلى مظلة الحماية الإسرائيلية بديلاً عن الحماية الأميركية. 

التطبيع ما زال مرفوضاً على المستوى الشعبي العربي، حتى داخل الدول التي طبّعت مع "إسرائيل". وعلى الرغم من احتفاء أنظمة التطبيع باتفاقياتها، فإن وزارة الشؤون الاستراتيجية في حكومة الاحتلال الإسرائيلي قالت، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إن معظم الخطاب العربي في مواقع التواصل الاجتماعي (90 في المئة) رافض، بشدة، لاتفاقيات التطبيع مع الإمارات والبحرين ودول أخرى. وهذا، في حدّ ذاته، يعكس توجُّهات هذه الشعوب تجاه اتفاقيات التطبيع، أو قبول "إسرائيل" تحت عنوان التعايش في المنطقة.

استطاع محور المقاومة، الذي فضّل المبادئ على المصالح، في دوله المعروفة وأذرعه والبيئة الحاضنة له، رسمياً وشعبياً، أن يقف سداً منيعاً في مواجهة مسار التطبيع ورفضه. وتُسجَّل له إنجازات مهمة تجعل مستقبل مسار التطبيع مع "إسرائيل" سراباً ووهماً موقَّتين، تعيشهما أنظمة الخليج المطبِّعة، أمام متغيرات جديدة تسجَّل لمصلحة محور المقاومة، الذي لم يتخلَّ عن القضية الفلسطينية يوماً، دعماً لفلسطين ومقاومتها.

شكلت معركة "سيف القدس" الأخيرة، والتي خاضتها المقاومة الفلسطينية، والدعمُ والإسناد الكبيران لها من محور المقاومة، مرتكزاتٍ أساسيةً لمعادلات وقواعد جديدة ستتَّضح معالمها في المنطقة، تؤكد، على الرغم من بيئة الأنظمة العربية القابلة للتطبيع والتطويع، أن "إسرائيل" لن تشكل لها ملاذاً آمناً أو مستقبلاً حامياً، وأن كل القراءات والمتغيِّرات في المنطقة تصبّ في مصلحة القضية الفلسطينية من جهة، ومحور المقاومة الرافض للتطبيع من جهة أخرى، وأن الخاسر الأكبر هو دول التطبيع العربي، استناداً إلى معطيات مهمة، أبرزها:

- لم تعد الصورة الإسرائيلية التي رُوِّجت، على مدى سنين، أنها "دولة" الجيش الذي لا يُقهَر، قائمةً بعد معركة "سيف القدس"، بفعل تصاعُد محور المقاومة وتفوقه في مختلف جبهاته، من فلسطين حتى طهران.

- المشروع الإسرائيلي أصبح ينحسر خلف الجدران، مع غياب واضح لحالة التبجّح الإسرائيلي، إذ لم يعد قادة "إسرائيل" يتحدّثون عن مشروع "إسرائيل" الكبرى كالسابق أمام تصاعد قوة محور المقاومة، إذ يُسَجَّل للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية أنهما نجحتا في تقطيع أوصاله وتحطيم اسطورة "جيش إسرائيل" الذي لا يُقهَر في كل جولات المواجهة العسكرية.

- سقوط المعادلات التاريخية العسكرية الإسرائيلية، التي فرضتها "إسرائيل" منذ احتلالها الأرض الفلسطينية. والشواهد التاريخية تقول إن "إسرائيل" ما خاضت حروباً مع دول عربية إلاّ في أرض هذه الدول. مصر نموذجاً. والمتغير الأهم أن المقاومة نجحت في فرض معادلة التوازن الاستراتيجي، ونقل المواجهة الى قلب الكيان الإسرائيلي.

- لم تعد الرواية الإسرائيلية، التي كانت قائمة على المظلومية، مصدَّقة أو وحيدة، أمام حالة المزاحمة التي سجلت نجاحاً في دعم حقوق الشعب الفلسطيني، ورفض كل مشاريع التطبيع مع "إسرائيل". 

- تَفاخُرُ "إسرائيل" في التطبيع مع دول عربية هو دليلٌ على أنها "دولة" اقتربت من نهايتها. وهذا وعد ربّاني، مفاده أن المرحلة التي تسبق الزوال هي مرحلة العلوّ. و"إسرائيل"، التي يتشدَّق قادتها، بالتطبيع، مع تباهيها في فرض سطوتها الأمنية على الأنظمة العربية، ما هي إلاّ أحد مظاهر العلوّ. بناءً عليه، فإنه، قبل الزوال والأفول، لا بدّ من مرور "إسرائيل" في مرحلة العلوّ، وهي أقوى رسالة طمأنة مفادها أن كل ما يجري يصبّ في مصلحة فلسطين والدول الرافضة نَهْجَ التطبيع.

مسؤولية كبيرة تتعاظم أمام محور المقاومة ودوله وأحزابه وشعوبه الرافضة للتطبيع من جهة، وأيضاً أمام كل القوى والهيئات العربية والأحزاب والمنظَّمات الأهلية العربية من جهة أخرى، من أجل مقاومة نهج التطبيع، وكبح حالة الانهيار أمام المشروع الإسرائيلي المدعوم، عبر انحياز أميركي، وفي ظل تقاعُس الجامعة العربية وغياب دورها في ممارسة نهج التصدي والمواجهة لمسار التطبيع.

النتيجة الحتمية أمام الدول العربية التي طبّعت مع "إسرائيل"، والتي ستصل إليها قريباً، أنها خسرت الكثير، وأن أي دولة ستلحق برَكْب التطبيع ستخسر أكثر، في إقدامها على مثل هذه الخطوة، وأن مسار التطبيع، الذي انساقت إليه أنظمة خليجية وعربية، ما هو إلاّ خديعة إسرائيلية كبيرة ستتّضح معالمها في المستقبل القريب، عندما ستجد تلك الدول أن أطماع "إسرائيل" كبيرة جداً، وأن أثمان التطبيع وفاتورته أكبر كثيراً مما كانت ترجوه، وأن "إسرائيل" لا يمكن أن تكون حليفةً أو صديقةً في يوم من الأيام.