الحريرية السياسية من النشأة إلى الانكفاء: حكاية زعامة دامت 3 عقود

لم يسلك الحريري طريقاً واضحة خلال فترة الفوضى المتنقلة في لبنان، وفضّل الانكفاء، بعد أن أخفق في حجز مكان له في "حراك تشرين الأول/أكتوبر 2019".

  • احتدم الصراع في لبنان مع تعمق الانقسام العمودي وانحياز الحريري إلى المعارضة المسلحة في سوريا
    احتدم الصراع في لبنان مع تعمق الانقسام العمودي وانحياز الحريري إلى المعارضة المسلحة في سوريا

لبنان من دون الحريرية السياسية. أمر غير متعارف في البلاد، ولا سيما بعد انتهاء الحرب وقبول اللبنانيين باتفاق الطائف الذي بات دستورياً منذ 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1989. إن إعلان رئيس تيار المستقبل سعد الحريري عزوفه عن خوض الانتخابات البرلمانية اللبنانية المقررة في منتصف أيار/مايو المقبل، لم يكن مفاجئاً لمعظم المتابعين في لبنان.

المرحلة القلقة بعد العام 2005

لم تكن مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس الحريري سهلة على خلفه سعد الَّذي وجد في رئيس البرلمان نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الحضنين الدافئين. ولم يتردد الرجلان في تقديم المساعدة المعنوية التي تكللت بخوض الانتخابات في أيار/مايو 2005، من خلال ما عُرف بالتحالف الرباعي الذي ضمَّ حزب الله وحركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل. 

وبعد الانتخابات، ترأس فؤاد السنيورة، أحد أبرز أصدقاء الرئيس الشهيد الحريري، الحكومة، واستمرّ حتى العام 2008، بيد أنَّه ذهب بعيداً في مخاصمة المقاومة، إلى حد وصفها بالميليشيا في قمة الخرطوم في العام 2007، ما فتح باب الخلاف على مصراعيه في لبنان. وكان السنيورة قد تنصّل، بصفته رئيساً حكومة، من تحمّل تبعات العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز/يوليو 2006، وأطلق مواقف غير مطمئنة بالنسبة إلى المقاومة.

وقد انفجر الخلاف في تشرين الثاني/نوفمبر، مع انسحاب وزراء أمل وحزب الله وآخرين من الحكومة، وعدم اكتراث السنيورة باعتصامات حاشدة في وسط بيروت، استمرَّت من الأول من كانون الأول/ديسمبر 2006 حتى 16 أيار/مايو 2008، وتخللتها قرارات لحكومته تقضي بفكفكة شبكة اتصالات المقاومة، ما أدخل البلاد في مواجهات عُرفت بأحداث 7 أيار، انتهت باتفاقية الدوحة، وعودة السنيورة إلى رئاسة الحكومة، وانتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية في 25 أيار/مايو.

إلى ذلك، حافظ سعد الحريري على كتلته البرلمانية بعد انتخابات العام 2009، وترأَّس حكومة وحدة وطنية لنحو عامين، قبل أن ينسحب وزراء 8 آذار والتيار الوطني الحر من حكومته في 11 كانون الثاني/يناير 2011، ليكلف نجيب ميقاتي بتأليف الحكومة، وسط أجواء متشنّجة في البلاد، ترافقت مع بدء فوضى ما عُرف بـ"الربيع العربي" في ليبيا ومصر وسوريا وغيرها.

واحتدم الصراع في لبنان مع تعمق الانقسام العمودي وانحياز الحريري إلى المعارضة المسلحة في سوريا، ما فاقم التحديات في البلاد. وقد ظلّ الحريري يغرد خارج سرب ما بقي من التحالف الرباعي، على الرغم من زيارته دمشق، بعد حملة شعواء شنَّها مع جنبلاط ورئيس القوات اللبنانية سمير جعجع على الرئيس بشار الأسد.

لم يستطع الحريري تسييل دعم بري له، وفضّل قيادة جبهة مناهضة للمقاومة ودمشق وطهران، مع تمتين علاقته بالرياض، إلى أن اختار عقد تسوية مع التيار الوطني الحر، ودعم ترشّح الجنرال ميشال عون للرئاسة، بيد أنَّ السعودية التي تكنّ الخصومة لعون بسبب تحالفه مع حزب الله لم تكن راضية عن خيار حليفها الحريري، وحمّلته المسؤولية عن تبعات انتخاب عون، إلى أن انفجر الصراع بينه وبين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، عندما عمد الأخير إلى اعتقاله في الرياض في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2017، وإرغامه على تقديم استقالة حكومته.

أصداء اعتقال الحريري ترددت في لبنان والعالم، لكنَّ المفاجأة جاءت من أداء حلفاء الحريري، وفي مقدّمتهم جعجع، الذي ذهب في اتجاه اختيار رئيس جديد للحكومة، ولم يعلن موقفاً مندداً بتصرّف السعودية. لاحقاً، اكتشف الحريري أنَّ جعجع عزّز صداقته بالرياض، وبات الحليف الأقوى للسعودية في الساحة اللبنانية، فيما انكفأ جنبلاط ممارساً التقية السياسية.

وبعد انتخابات العام 2018، رضيت الأكثرية المتحالفة مع حزب الله بتكليف سعد الحريري برئاسة الحكومة، ولكنَّ الأخير تراجع فجأة في تشرين الأول/أكتوبر 2019، وقدم استقالة حكومته من دون التنسيق مع شركائه فيها. وكان جعجع قد وجّه ضربة إلى حكومة الحريري، بعد أيام على اندلاع الاحتجاجات في لبنان في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، وسحب وزراءه الأربعة من الحكومة.

لم يسلك الحريري طريقاً واضحة خلال فترة الفوضى المتنقلة في لبنان، وفضّل الانكفاء، بعد أن أخفق في حجز مكان له في "حراك تشرين الأول/أكتوبر 2019"، ومن ثم غاب عن المشهد مع تكليف الدكتور حسان دياب بتأليف الحكومة، إلى أن عاد وقدَّم نفسه مرشحاً طبيعياً لرئاسة الحكومة، وحظي بدعم 8 آذار، ولكنه استهلك 9 أشهر، ولم ينجح في مهمته، فاعتذر وغادر البلاد، إلى أن عاد في مطلع العام الحالي، وأعلن خروجه من السباق الانتخابي، ما يعني خروج تياره من الانتخابات، وترك الساحة لوريثٍ للحريرية السياسية لم تتحدَّد هُويته بعد.

 أبرز محطات الحريرية السياسية

يقول متابعون إنَّ الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان العراب الأول لاتفاق الطائف بضوء أخضر أميركي سعودي وموافقة سورية، وإنَّ رجل الأعمال الصيداوي (نسبة إلى مدينة صيدا اللبنانية) الذي راكم ثروته من مشاريع في الخليج، وتحديداً في السعودية، أضحى السياسي الأبرز في لبنان بعد الطائف. ولذلك، ترأس 5 حكومات بين العامين 1992 و2003، قبل أن يتنحّى مؤقتاً في خريف العام 2004، مع التذكير بأنه ابتعد عن رئاسة الحكومة بين العامين 1998 و2000 مع بداية عهد الرئيس السابق العماد إميل لحود.

خلال التسعينيات، وفي مطلع الألفية الثانية، تمكَّن الحريري من الإمساك بمعظم مفاصل الحياة السياسيّة اللبنانية، بالتحالف مع رئيس البرلمان نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط وشخصيات مسيحية على رأسها الرئيس الراحل إلياس الهراوي (1989-1998)، بيد أنّ انتخاب العماد لحود خفَّف من الاندفاعة الحريرية، وإن بشكل مؤقت.

وأضحى الحريري زعيم تيار المستقبل والممثل الأول للطائفة السنية، على الرغم من معارضة وازنة داخل الطائفة، من أبرز وجوهها الرئيس سليم الحص، الذي يُعرف بـ"ضمير لبنان"، والرئيس الراحل عمر كرامي، فضلاً عن نواب منتشرين من عكار في أقصى الشمال إلى عرسال على الحدود الشرقية مع سوريا، بيد أنَّ تلك المعارضة لم تحل دون تكريس الحريرية السياسية كلاعب أساسيّ في الساحة الداخلية، بالاتكاء على علاقات الحريري العربية والدولية المترامية الأطراف.

بعد 14 شباط/فبراير 2005، تغيّر لبنان مع الزلزال الذي أحدثه اغتيال الرئيس الشهيد الحريري. ولم تمِض أيام على الاغتيال، حتى استلم نجله سعد زمام المبادرة كوريث للحريرية السياسيّة، بعد أن تم إقصاء الشقيق الأكبر بهاء.

لم يكن سعد الحريري على دراية بقواعد اللعبة السياسية الداخلية اللبنانية، ولم يجد سوى النائب السابق وليد جنبلاط حاضناً له، وتكرس الأمر مع تأسيس ما عرف بقوى 14 آذار، وانضمام رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع إلى قيادة تلك القوى، في مقابل قوى 8 آذار التي ضمَّت "أمل" و"حزب الله" وأحزاباً وطنية وقومية وناصريين، بالتحالف مع التيار الوطني الحر، الذي أسَّسه العماد ميشال عون بعد نفيه إلى باريس في العام 1989.

وبناءً عليه، دخل لبنان في واحدة من أخطر أزماته، وكان للرئيس بري دور وازن في استيعاب تداعيات اغتيال الحريري وحرصه على دوزنة المعادلات الداخلية، ومنها التحالف الرباعي الذي ضمَّ تيار المستقبل وأمل وحزب الله والحزب التقدمي الاشتراكي، والذي خاض انتخابات العام 2005 البرلمانيَّة، قبل أن يحصل الفراق بين أضلعه الأربع وانقسام البلاد بشكل عمودي بين القوى الآذارية.

دارت السنوات، ودخل معظم العالم العربي في فوضى منظَّمة أميركياً، ومموّلة من بعض دول الخليج، مع دور أساسي لتركيا، ولم يكن لبنان بمنأى عن تلك الفوضى. وعلى الرغم من ذلك، حرص بري على رعاية حوار بين حزب الله والمستقبل، ولا سيما بين العامين 2013 و2014. وقد نجح ذلك الحوار في تخفيف الاحتقان في الشارع، على الرغم من استمرار ربط النزاع بين حلفاء المقاومة ودمشق وطهران من جهة، وحلفاء الرياض وواشنطن من جهة ثانية.

ما بين 20 تشرين الأول/أكتوبر و24 كانون الثاني/يناير

في العام 2016، وبعد فراغٍ في سدة الرئاسة استمرَّ من 25 أيار/مايو 2014 وحتى 31 تشرين الأول/أكتوبر 2015، استدار الحريري، ودخل في تسوية مع التيار الوطني الحرّ، عاد بموجبها رئيساً للحكومة مقابل دعمه ترشّح العماد عون للرئاسة.

لم تمضِ أشهر حتى عمد ولي العهد السعودي إلى الانقلاب على حليف الرياض الأول في لبنان، واعتقله في المملكة، وأجبره على الاستقالة من رئاسة الحكومة في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2017.

ومنذ ذلك التاريخ، بدأت علاقة السعودية بالحريرية السياسية تتدهور، إلى حد إقفال الرياض أبوابها في وجه الحريري، ما دفع الرجل إلى إعادة حساباته، ولم تنفعه كلّ البيانات والمواقف التي كان يصدرها لدعم السعودية وتأييد سياساتها وحربها على اليمن وانغماسها في دعم الجماعات المسلحة في سوريا وفي جرود لبنان.

لكنَّ السؤال: كيف ستتعاطى القوى السياسية مع أفول الحريرية السياسية؟ وهل ستوصي دار الفتوى في لبنان بمقاطعة الانتخابات، في تكرار لتجربة البطريرك الماروني الراحل مار نصر الله بطرس صفير في العام 1992؟ وماذا عن جعجع؟ وكيف سيتصرف جنبلاط؛ حليف الحريري التاريخي؟ والأهم من ذلك كلّه، هل ستجري الانتخابات البرلمانية في الربيع المقبل؟ أسئلة تحتاج إلى إجابات لا تزال غير محسومة.