الصهيونية" و"الهندوتفا": تطابق مشروعات الاستيطان وأيديولوجيات الإبادة
الضحايا، سواء في غزة أو بهاولبور أو سريناغار، يُصوَّرون دائماً على أنهم تهديد لـ "السلام" المفروض عليهم. يُنظر إلى حزنهم على أنه تطرّف. بقاؤهم مُزعج. وموتهم غالباً ما يكون مُستحَقّاً.
-
أيديولوجية واستراتيجية وإفلات من العقاب.
من غزة إلى كشمير، يبدو سلوك اليمين القومي الهندوسي الحاكم في الهند نسخة من النموذج الصهيوني الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي، استراتيجيةً وتكتيكاً ولغةً وعنفاً واستيطاناً وإبادةً جماعيةً وتطهيراً عرقياً.
منذ عقود، شرع اليمين القومي الهندوسي المتعصّب في مشروع استئصال كلّ الأقليات والمكوّنات الثقافية والدينية والاجتماعية والعرقية غير الهندوسية، ومحو ألفي عام ونيف من التنوّع العرقي والتعدّد الحضاري والتعايش السلمي بين سائر مكوّنات الطيف الهندي التاريخي الواسع. وقد عبّر عن هذا التنوّع علم حركة الاستقلال عن بريطانيا والآباء المؤسسين للهند المعاصرة، بحيث يرمز كلّ لون إلى أحد مكوّنات البلاد الرئيسة: البرتقالي(الهندوس) والأخضر (المسلمون) والأبيض (المسيحيون).
وقد لاحظ مثقّفون ومفكّرون هندوس مستنيرون، مثل سومديب سين وبانكاج ميشرا وغيرهما، مدى التماثل بين سياسات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية وسياسات اليمين الشوفيني الحاكم في الهند.
وأول ما يستدعي ذلك التماثل مشهد الجرّافات التي تقوم بهدم وإزالة منازل المسلمين بحجة بنائها من دون ترخيص؛ والتغاضي عن جرائم الجماعات الهندوسية وقتل المسلمين وغيرهم على الهوية وحرق منازلهم ومتاجرهم وأملاكهم؛ والحكم العسكري المباشر القمعي المتواصل في إقليم جامو وكشمير الرازح تحت احتلال هندي غير شرعي، منذ 8 عقود، رغم كلّ قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي التي تؤكّد حقّ هذا الإقليم في تقرير مصيره عبر استفتاء نزيه يحدّد مستقبله.
مشروع استعماري استيطاني آخر
يُظهر هجوم الهند على باكستان مؤخّراً كيف دفع تقاعس العالم تجاه الإبادة الجماعية في غزة، رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، للتصعيد في كشمير. فمن نيودلهي إلى "تل أبيب"، لم يكن التطابق الأيديولوجي بين الصهيونية والهندوتفا أوضح منه الآن.
وكانت ماهنور علي، المحامية والكاتبة والناشطة في شؤون جنوب آسيا والشرق الأوسط، قد كتبت مؤخّراً: بينما تنهمر القنابل على غزة، ويتجاهل العالم ما يحدث، يُسجّل مشروع استعماري استيطاني آخر حضوره. من نيودلهي إلى "تل أبيب"، لم يكن التطابق الأيديولوجي بين الصهيونية الإسرائيلية وحركة الهندوتفا الهندوسية أكثر وضوحاً في أيّ وقت مضى منه الآن، حيث تهاجم الهند باكستان.
ومع ضآلة المساءلة الدولية عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة في غزة، فإنّ لدى رئيس الوزراء الهندي، ناريندرا مودي، كلّ الأسباب للاعتقاد بأنه هو الآخر قادر على تصعيد مشروعه القومي العرقي من دون عقاب.
عندما تقصف "إسرائيل" مستشفى في غزة، يتساءل العالم عمّا إذا كانت "حماس" تختبئ تحته. وعندما تقصف الهند مسجداً، يتجاهله العالم! أليس من المحتمل أن يكون "وكراً للإرهاب"؟! إنّ تسامح المجتمع الدولي مع قصف "إسرائيل" مخيمات اللاجئين بقنابل أميركية الصنع قد شكّل سابقةً مروّعةً لكنها تدفع حكومات أخرى لارتكاب فظائع بالحرية المطلقة نفسها. في حين تُولي الهند الأمر اهتماماً.
أيديولوجية واستراتيجية وإفلات من العقاب
مؤخّراً، تجلّى هذا الأمر بعنف. في 6 أيار/مايو، شنّت الهند ضربات صاروخية على باكستان تحت راية عملية "سيندور"، وهو اسم يحمل دلالات ثقافية هندوسية عميقة. زعمت الحكومة الهندية أنّ هذه الهجمات كانت دقيقة على "البنية التحتية للإرهاب"، ردّاً على هجوم 22 نيسان/أبريل في بلدة باهالغام في كشمير المحتلة، وأودى بحياة 26 سائحاً هندوسياً. لكن، لا دليل صلباً يربط هذا الهجوم بباكستان. ولم يكن أمر التحقيق والتثبّت ذا أهمية لدى الهند. فلا داعي للتحقّق من الحقائق عندما يكون الهدف هو الأداء، وعندما يكون الهدف إظهار الهيمنة.
تمّ قصف تسعة أهداف في جميع أنحاء باكستان والشطر الباكستاني من كشمير. في بهاولبور، أصاب صاروخ هندي مسجداً. وقُتل طفل إلى جانب سبعة آخرين. وأصيب 31 رجلاً وامرأة حتى الآن. قُتل مدنيون، وتُركت عائلاتٌ حزينةٌ في حالة دمار، وسارعت الحكومة الهندية إلى إعلان أنّ العملية "مدروسة". لكننا سمعنا هذه الكلمة من قبل. إنها اللغة نفسها "المعقّمة" المُستخدمة كلّ مرة، عندما تُسوّي فيها "إسرائيل" مدرسةً بالأرض في جباليا أو تقصف مستشفىً بخان يونس. فهو إذاً قصف جراحي، دقيق، ومُبرّر! لغة الحرب الاستعمارية مُدرّبة بعناية.
تؤكّد الكاتبة أنّ التضامن بين الصهيونية والهندوتفا ليس مجازياً، بل هو مادي. أصبحت الهند الآن من أكبر مُشتري الأسلحة من "إسرائيل". أنظمة المراقبة المُطوّرة للعمل بالضفة الغربية المحتلة تُراقب الآن أحياء كشمير المحتلة. الطائرات الإسرائيلية المُسيّرة التي تُروّع سماء غزة تُباع للهند لمراقبة الاضطرابات بمناطق ذات أغلبية مسلمة. التبادل ليس في الأسلحة فحسب، بل في الأيديولوجيا والاستراتيجية والإفلات من العقاب.
دمغ المقاومة بالتطرّف
يذكر أنه في عام 2019، عندما ألغى مودي المادة الـ 370 من الدستور الهندي وجرّد جامو وكشمير من حكمها الذاتي المحدود الذي نصّت عليه، كان ذلك إعلاناً صريحاً عن نيّات الاستيطان. نُشر عشرات آلاف الجنود من القوات الإضافية. قُطعت الاتصالات. وكُمّمت أفواه الصحافيين. أُغلقت المنطقة بينما بدأت الهند في إرساء الأساس القانوني والبنية التحتية للتغيير الديموغرافي.
لكن ماذا عن النموذج؟ إنه احتلال "إسرائيل" المستمر واستيطانها المتواصل للضفة الغربية. واليوم، بينما تُحوّل غزة إلى أنقاض ورماد، تُراقب كشمير الوضع. وكذلك بقية شبه القارة الهندية.
لأنّ الأمر لا يقتصر على كشمير فحسب، بل يتعلّق بتفويض استيطاني عنصري أوسع وأكثر تمدّداً للسيادة الهندوسية في جميع أنحاء الهند: تفويض يرى المسيحيين والداليت والسيخ، والمسلمين بخاصة، عقبات أمام هوية قومية (هندوسية) خالصة. ومثل الصهيونية، تُصوّر الهندوتفا نفسها على أنها عريقة ومقدّسة وسلمية في جوهرها، بحيث يُمكن دمغ أيّ مقاومة لها بالتطرّف.
مؤخّراً، شهدنا ذلك مجدّداً. ورغم مأساوية هجوم باهالغام، فقد استُخدم فوراً كمبرّر للعنف العابر للحدود. لا تحقيق شاملاً. لا مجال للشك. لا مساءلة عن العواقب. هذه هي نسخة مودي من قواعد الهسبارا الدعائية والإعلامية: إغراق وسائل الإعلام بدعاوى الرشد والحكمة، وترك القنابل تقوم بالباقي.
ليست معارك منفصلة
الضحايا، سواء في غزة أو بهاولبور أو سريناغار، يُصوَّرون دائماً على أنهم تهديد لـ "السلام" المفروض عليهم. يُنظر إلى حزنهم على أنه تطرّف. بقاؤهم مُزعج. وموتهم غالباً ما يكون مُستحَقّاً.
لكنّ الأمر لا يقتصر على الحكومات فحسب، بل العالم هو الذي يُمكّن الاحتلال من الإفلات من العقاب.
ما جرّأ نتنياهو جرّأ مودي أيضاً: صمت ما يُسمّى بالديمقراطيات الليبرالية، وقلق الأمم المتحدة المُصطَنع، ورفض الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا فرض عقوبات أو قطع المساعدات. هذا يُلقّن القادة الاستبداديين الآخرين درساً: إذا كنتَ مفيداً، وإذا قُلتَ الكلمات الصحيحة عن الإرهاب، يُمكنك الإفلات من العقاب على أي شيء.
مودي يراقب غزة تحترق. ولا يكتفي بالمشاهدة، بل يتعلّم ويختبر ويتدرّب. اليوم استُهدِفت بهاولبور بالتدمير والقتل. وغداً قد تكون لاهور. أو ربما يكون مكان آخر تماماً. لكنّ الرسالة وصلت: العالم لن يتدخّل.
لذلك، تقول ماهنور علي، بينما يقاوم الفلسطينيون حصاراً وإبادة جماعية، ويكافح الكشميريون تحت الاحتلال العسكري الهندي، يجب أن يكون تضامننا حاداً، متعدّد الجوانب، وليس اعتذارياً. يجب أن نسمّي هذه الأيديولوجيات بمسمّياتها: الاستعمار الاستيطاني، والفاشية، والفصل العنصري والإبادة الجماعية. يجب أن نتوقّف عن التظاهر بأنها معارك منفصلة.
إنها ليست معارك منفصلة. إنها فصول من قصة عالمية واحدة. ومودي يكتب فصولها التالية بالحبر الإسرائيلي.