القوى الفاعلة في الحدث التونسي

تُعَدّ تونس بالنسبة إلى قوى الشد الإسلاموي المحمول تركياً وأميركياً، آخرَ قلاعها، بعد تساقط حجارة الدومينو الإسلاموية في معظم البلدان العربية.

  • النظرة الاقتصادوية الطَّبَقية لا تكفي وحدها لتفسير ما يجري بروح تعميمية شديدة.
    النظرة الاقتصادوية الطَّبَقية لا تكفي وحدها لتفسير ما يجري بروح تعميمية شديدة.

تراوحت القراءات السياسية للحدث التونسي بين مقاربات، غلبت عليها الانطباعية والخلفيات المسبّقة، فبعضها أيّد قرارات الرئيس انطلاقاً من تاريخه الوطني وخلفيته الحقوقية، وبعضها ناهضه انطلاقاً من انحياز مسبّق إلى الحلف العثماني- القطري- الإخواني، والبعض الآخر، من أوساط يسارية، قدّم مقاربة حيادية لم تميّز بين الرئيس قيس سعيد وراشد الغنوشي، باعتبارهما وجهين من أوجه النظام التونسي.

وغاب عن عدد من هذه المقاربات ما يلي:

1- إن المواقف السياسية ليست انعكاساً ميكانيكياً للتشخيصات الموضوعية، والتي تستدعي قراءة متمعنة للسياق التاريخي وظروفه، وللوزن النسبي لمختلف العوامل والتأثيرات السياسية والاقتصادية والمزاج الاجتماعي، وللأبعاد المحلية والإقليمية والدولية أيضاً.

2- موقع تونس في قلب التجاذبات المحلية والإقليمية والدولية، من التجاذبات المحلية بين التراث البورقيبي العلماني الليبرالي، والنهضة الإسلاموية، والحركة الوطنية اليسارية والناصرية والقومية عموماً، إلى التجاذبات العربية بين قوى الشد الإسلاموي والمناهضين له، إلى التجاذبات الدولية وخلفياتها (المهاجرين، الإرهاب، النفط والمتوسطية).

يُشار هنا إلى أن تونس تُعَدّ، بالنسبة إلى قوى الشد الإسلاموي المحمول تركياً وأميركياً، آخرَ قلاعها، بعد تساقط حجارة الدومينو الإسلاموية حجراً حجراً في معظم البلدان العربية، الأمر الذي قد يفتح الاحتمالات أمام مشروع للفوضى، أياً تكن آفاقه.

3- تنوّع الدولة العميقة ومصالحها، وقراءات عناصرها للأحداث من حولها، ويشار هنا تحديداً إلى دور المؤسسة العسكرية كعامل توازن مع "الإخوان" في معظم البلدان العربية (الثكنة في مقابل الأخونة)، مع فارق مهم هو أن الاستراتيجية الإمبريالية السائدة، حتى الآن، تهتم بـ"الإخوان" أكثر من الجيوش، بل إن هذه الاستراتيجية ليست بعيدة عن العامل الإسرائيلي في الشرق الأوسط، والمرجعيات اليهودية الكبرى في "الآيباك" ومعهد واشنطن. وهي الاستراتيجية تنطلق من إبدال حرس إخواني- ليبرالي جديد مكان الحرس البيروقراطي القديم في الدول التابعة، وذلك ضمن خرائط سياسية واجتماعية جديدة، كما رسمها برنار لويس وبريجنسكي، بشأن الحوض الأوراسي الروسي وطريق الحرير الصيني.

يفسر هذا الأمر اهتمام الدوائر الأميركية واليهودية العالمية بالمثلث التركي ـ القطريـ الإسلاموي، كحجر زاوية في الاستراتيجية المذكورة.

إلى ذلك، تعليقاً على ما سبق، لا بد من ملاحظة ما يلي:

1- إن النظرة الاقتصادوية الطَّبَقية لا تكفي وحدها لتفسير ما يجري بروح تعميمية شديدة، فثمة عوامل أُخرى تختلف أهميتها بين بلد وآخر. منها، على سبيل المثال، الثقافة المدنية في تونس.

2- بدلالة ما حدث في فنزويلا مع شافيز مثلاً (رئيس وطني خرج من قلب دولة تابعة وجيش لا يتباين عن غيره من جيوش الحديقة الخلفية اللاتينية للإمبريالية الأميركية)، يمكن الرهان أيضا على رئيس له تاريخ وطني وديموقراطي ومناهض للفساد وضد التطبيع، مثل الرئيس قيس سعيّد.

من المؤكد أن تحالفه الموضوعي مع جيش مهدّد بإعادة الهيكلة الإمبريالية لمصلحة الإخوان، تحالف مفتوح على الاحتمالات الإيجابية أكثر من السلبية، المطوَّقة بشارع وطني، بحيث لا تسمح له الاحتمالات الإيجابية باستغلال ما يحدث للتخلص من غريمه الإخواني، ومن حليفه الطارئ في قصر قرطاج؛ أي أن الشارع الوطني قادر، إلى حد كبير، على حماية هذا التحالف الموضوعي.

3- في كل الظروف والأحوال، لا مجال للمقارنة بين شخصية الرئيس قيس سعيد، الواضح، الصلب، النزيه، الدستوري، وبين شخصية الغنوشي.

4- وفق قانون التناقضات، فإن التناقض الأساسي مع الإمبريالية العالمية يتخطى أيّ حالة وطنية إلى حالة ثورية راديكالية، ويحتاج إلى تراكمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، في المستويات المحلية والإقليمية والدولية، كما في المستويَين الفكري والثقافي. لكن، من السذاجة وعدم الحكمة بمكان تحديد الموقف من الرئيس التونسي في هذه اللحظة بالذات، بدلالة قدرته على إدارة اشتباك تاريخي استراتيجي من هذا الوزن، على الرغم من أن صدور إشارات ورسائل أُولى ذات بُعدٍ وطني تقدمي، مطلوبٌ ومُطمئنٌ بالتأكيد.

5- وفق قانون التناقضات أيضاً، فإن الجبهة الأكثر سخونة اليوم، والتي تهم المواطن العربي عموماً، هي الاشتباك مع القوى المشخصة الراهنة على المستوى الإقليمي: العدو الصهيوني فيما يخص شعوب دول الطوق وقواها، والخطر العثماني الذي يتمدّد ويتوسّع في مناطق متعدّدة، بينها ليبيا، عند حدود تونس.

إن قطع اليد العثمانية، إصبعاً إصبعاً (سوريا، العراق، مصر، واليوم تونس) من شأنه أن يضيّق كثيراً من مساحات التنسيق الموضوعي، الصهيوني- التركي- الإسلاموي، لاقتسام الوطن العربي، بين محميات صهيونية وولايات عثمانية.

صحيح أن التشخيص السياسي لهذه الأصابع، بين بلد وآخر، ليس على سوية واحدة من حيث الأولويات الأساسية والتقاطعات والترتيبات على الرغم من أن النتيجة واحدة.

وعليه، فإن الرئيس المتحالف موضوعياً مع الجيش، نقيض "الإخوان" وإردوغان، يحتاج إلى المؤازرة أكثر من التحسب والقلق، بل إن التقليل من هذه التحسّبات يحتاج إلى التضامن في قلب الميدان، والذي قد يؤدي إلى اقتراب الرئيس، على نحو أو آخر، من تجربة فنزويلا وشافيز، الذي خاض معاركه استناداً إلى الشارع، وإلى الضبّاط الوطنيين في المؤسسة العسكرية نفسها، والتي تحتاج إلى ترتيبات متأنّية حذرة في قلب الدولة العميقة، بحيث يعاد إنتاجها وطنياً، وليس هدمها.

6- أخيراً، نعرف أن الجيش والأمن ليسا القوتين الفاعلتين الوحيدتين في التجربة التونسية منذ الاستقلال، فثمة قوى اجتماعية ونقابية وثقافية وسياسية شكّلت، ولا تزال، توازناً مهماً لكل الحِقَب في الدولة العميقة، فكيف بعد الثورة الوحيدة التي لم تسيطر عليها القوى الملوَّنة.

ونخصّ بالذكر هنا الاتحاد التونسي للشغل والأوساط اليسارية والناصرية، والأوساط الثقافية والنسائية، والتي أعلنت أغلبيتها الساحقة تأييدها للرئيس؛ أي أن أغلبية المجتمع المدني (النقابات والهيئات الاجتماعية والسياسية والثقافية) تقف اليوم إلى جانب التيار الوطني في المجتمع السياسي (الدولة)، كما يمثله الرئيس سعيد.