المصطلح كسلاح.. حرب غزة أم عرقبادة؟

المعركة على المصطلح ليست معركة هامشية بل ركيزة أساسية، والكلمة سلاح وليست مجرد كلمة تتناقلها وسائل الإعلام، بل هي قلب الصراع والانتصار فيها مهم.

0:00
  • ما يجري في غزة ليس مجرد صراع عسكري بل هو مأساة إنسانية مركبة.
    ما يجري في غزة ليس مجرد صراع عسكري بل هو مأساة إنسانية مركبة.

في الصراعات الكبرى التي حدثت عبر مر التاريخ، لم تحسم نتائجها فقط بالقوة العسكرية أو في ميدان المعركة فحسب، بل كانت تخاض جنباً إلى جنب وبقوة في ميادين الإعلام وسلاح المصطلحات التي كانت تستخدم مع السلاح والعتاد العسكري في ميدان المعركة، فالكلمة حين تصاغ بدقة وعناية قد تغير موازين القوى وتعيد تشكيل الرأي العام، وممكن أن تبني أو تهدم شرعية طرف على حساب آخر. 

العرقبادة، ربما هي كلمة غريبة مستحدثة أو نادرة الاستخدام إلى حد ما ولم تستخدم كثيراً في الإعلام العربي والدولي، لكنها نتاج فكر سياسي إعلامي قانوني عميق، أقنعني بها صديقي المقيم في لندن البروفيسور مكرم خوري، مؤسس ورئيس مركز كامبريدج لدراسات فلسطين، وهو أكاديمي مختص في الإعلام السياسي والعلاقات الدولية، وقد قررت أن أخصّ هذا المقال الأسبوعي لهذا المصطلح الذي بات ينسجم انسجاماً كبيراً في وصف الحال الذي يشهده قطاع غزة على مدار سنة وعشرة أشهر، إذ بات من الضروري إعادة النظر في استخدام المصطلحات التي توفر غطاءً لـ"إسرائيل" في استمرار الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد المدنيين في قطاع غزة. 

المصطلح ليس مصطلحاً تقليدياً في القانون الدولي أو الإعلام الذي يستخدم مصطلحين منفصلين، لكنه أقرب ما يكون في وصفه إلى تركيب لغوي مبتكر يجمع بين الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وهذا من وجهة نظري ما يجعله مصطلحاً ذا أداة تعبيرية قوية في الخطاب الإعلامي والسياسي، خصوصاً إذا كان الهدف منه لفت الانتباه إلى بشاعة الجريمة واختصار مشاهد القتل والإبادة والتطهير العرقي في كلمة واحدة مختصرة، وهذا أسلوب مشروع وممكن في الخطاب النقدي والمناصرة الحقوقية لشعب يتعرض لكل أنواع القتل والإبادة، وقيمة هذا المصطلح تكمن في القدرة على اختصار المشهدية وفرض مصطلح لغوي جديد في مواجهة مصطلحات مضللة مثل مصطلح حرب غزة. 

لم يعد الحديث بعد كل ما جرى في قطاع غزة على مدار سنة وعشرة شهور عن حرب المصطلحات مجازاً لغوياً، بل حقيقة استراتيجية يتقنها الفاعلون ويستثمرون فيها كجزء أساسي من أدوات الصراع بين الشعب الفلسطيني و"إسرائيل".

ما يجري في غزة ليس مجرد صراع عسكري كما يحاول البعض توصيفه في خانة الحرب بالمعنى التقليدي المتعارف عليه، بل هو مأساة إنسانية مركبة تستوفي معايير الإبادة الجماعية والتطهير العرقي معاً، ربما يستغرب البعض من أنه مصطلح قد يبدو جديداً لكنه يحمل في طياته دقة عالية ووزناً قانونياً وأخلاقياً يعكس بشاعة الجريمة، بعيداً عن التوصيفات المضللة التي يحاول البعض ترويجها. 

العرقبادة، كلمة تأتي في وصف الحال وتعمل على إعادة تعريف الواقع وإعادة صوغ الأحداث بطريقة لها تأثير كبير على إدراك وتوجيه مشاعر المواطن الفلسطيني الذي يعيش هذه الإبادة المستمرة والتطهير العرقي. 

بعد البحث والتمحيص في مصطلح حرب غزة، وصلت إلى قناعة مهمة، أن استخدام "إسرائيل" كلمة حرب في وصفها العدوان على غزة لم يكن عبثاً، بل هو عمل مقصود يهدف إلى ترسيخ الصورة في الأذهان أن ما يجري هو حرب بين طرفين متكافئين في القوة ويخوضان مواجهة عسكرية تقليدية، وبذلك تمنح نفسها في نظر القانون الدولي والرأي العام العالمي غطاءً شرعياً لكل ما تقوم به في غزة باعتبارها طرفاً في نزاع، لا قوة احتلال تمارس كل أنواع البطش والوحشية وجرائم القتل والإبادة والتطهير العرقي.

خطورة وصف ما يجري في قطاع غزة بالحرب تنطلق من منطلق القانون الدولي الذي يضع شروطاً ومعايير لما يمكن وصفه بالحرب، وهي في الغالب تفترض وجود طرفين أو قوتين متكافئتين تتواجهان في الميدان وفقاً لقواعد الاشتباك، لكن الحالة الفلسطينية وتحديداً في قطاع غزة لا تنطبق عليها هذا الوصف، إذ إن وصف المشهد الحقيقي هو عدوان غير متكافئ تمارسه "إسرائيل" ضد مدنيين وشعب محاصر. 

وبالتالي، فإن وصف ما يجري في قطاع غزة بمصطلح الحرب، يمحو الفارق ولا يميز بين الجلاد والضحية، بل يختزل الجريمة الإسرائيلية في إطار نزاع مشروع تستخدمه "إسرائيل" في المحافل الدولية الحقوقية، ويعفيها من المحاسبة القانونية الأخلاقية، ويسهم في إعادة صوغ السردية الإسرائيلية التي تحاول أن تصور الإبادة الجماعية والتطهير العرقي على أنها دفاع عن النفس، رغم أن القانون الدولي لا يعترف بحق "إسرائيل" كقوة احتلال في الادعاء بالدفاع عن النفس ضد الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال. 

العرقبادة تأتي كمصطلح جامع لكنه يفضح الجريمة الإسرائيلية، وهذا ما نصت عليه اتفاقية منع جريمة الإبادة لعام 1948، التي نصت بشكل واضح أن الجريمة المرتكبة بقصد، كلياً أو جزئياً، لجماعة تندرج تحت إطار التطهير العرقي بهدف تغيير البنية الديمغرافية، وأعتقد أن العرقبادة كمصطلح جديد لا يكتفي بوصف الجريمة فقط، بل يربط بين البعد الميداني والديمغرافي، ويوفر إطاراً إعلامياً وقانونياً يسمح بفضح ومحاكمة "إسرائيل" على جريمتها المستمرة بصفتها جريمة مزدوجة مكتملة الأركان. 

ثمة سؤال يطرح نفسه في هذا السياق، لماذا المصطلحات مهمة؟ مع استمرار الإبادة والتطهير العرقي، تستمر معركة الرواية ومعها المعركة الإعلامية حول هول ما يجري في غزة في وقت يستمر الإعلام الدولي في تغييب الحقيقة، وتبنّي ما تروّجه "إسرائيل" بين حين وآخر كمصطلح الحرب على غزة أو العملية العسكرية، وهذا ما يلقي مسؤولية كبيرة على الإعلام الفلسطيني والعربي في أهمية إعادة النظر وصوغ مصطلحات إعلامية جديدة تنسجم انسجاماً دقيقاً مع هول الجريمة وبشاعتها. 

أهمية المصطلح خلال الصراع أن له سياقات عدة، سواء على صعيد التأثير في الرأي العام الذي سيبني موقفه على أساس مشوّه، أو حتى في سياق الوصف القانوني الذي يحدد نوع الجريمة المستمرة في غزة، والأخطر من ذلك كله أن السردية التاريخية ستصبح يوماً ما مرجعاً للأجيال القادمة، وبالتالي تثبيت المفهوم الصحيح والمصطلح الأدق يحمي الحقيقة من التلاعب ويحافظ على مصداقية السردية لو مضت عليها سنين طويلة. 

أعتقد أن المقاومة ليس استخدام السلاح فقط، بل أيضاً الإعلام معركة، والمصطلح سلاح ومعركة تبدأ من أهمية الوعي باستخدامه وتمر بتصحيح الخطاب الإعلامي، ولا بد أن يأتي يوم وتنتهي بفرض مصطلحات مقاومة على الساحة الدولية، لذلك من الضروري أن يكون للإعلام الفلسطيني والعربي أجندة قائمة على توحيد الخطاب في مواجهة آلة التضليل الإسرائيلية، وهذا كلّه نوع من أنواع المقاومة، وكما تعلمنا على مر السنين قيمة وأهمية معركة الرواية والسردية، إذ إن هزيمة الرواية هي مقدمة لهزيمة القضية والعكس صحيح.

لذلك، ما يجري في غزة ليس حرباً كما تريد "إسرائيل" تسويقها إعلامياً وسياسياً ودولياً، بل هي عرقبادة وجريمة مضاعفة تجمع بين الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وهذا التوصيف يحرر الخطاب من أسر الرواية المضللة، ويضع الجريمة الإسرائيلية في إطارها القانوني والأخلاقي. 

المعركة على المصطلح ليست معركة هامشية بل ركيزة أساسية، والكلمة سلاح وليست مجرد كلمة تتناقلها وسائل الإعلام، بل هي قلب الصراع والانتصار فيها مهم وضروري إلى جانب ما تحققه المقاومة الفلسطينية من إنجازات على الأرض.