المقاومة في لبنان بين تحديات المرحلة ومقوّمات الصمود

المقاومة أثبتت في أقل من 3 أشهر أنها قادرة على تشكيل مقوّمات صمودها بشكل فاعل وأنها رسمت إطار عملها في هذه المرحلة بما يؤشر على فهمها العميق لتحديات المستقبل. 

0:00
  • استطاعت المقاومة أن تخرج من معركتها في مواجهة الكيان الإسرائيلي بإنجاز إعجازي.
    استطاعت المقاومة أن تخرج من معركتها في مواجهة الكيان الإسرائيلي بإنجاز إعجازي.

استطاعت المقاومة في لبنان أن تخرج من معركتها في مواجهة الكيان الإسرائيلي بإنجاز إعجازي يتمثل في تمكّنها من إحباط محاولة سحقها، إذ إن ما جرى العمل عليه لم يكن يستهدف مجرد توجيه ضربة تدفعها إلى التراجع عن إسناد المقاومة في غزة، ولم يكن يستهدف أيضاً محاولة تعديل قواعد الاشتباك التي تكرّست منذ عام 2006 بعد الانتصار الإستراتيجي الذي تحقق حينها.

فالمخطط الذي نفّذه الكيان خلال حرب الإسناد وحاول استكماله خلال عدوان الـ 66 يوماً بدءاً من اغتيال القادة الميدانيين مروراً باغتيال قيادات الصف الأول ومجزرة "البيجر" وصولاً إلى تغوّله في القتل والتدمير الذي طال بيئة المقاومة وتصفيته رأس هرم القيادة، أي سماحة السيد حسن نصرالله والسيد هاشم صفي الدين وغيرهما، كان يستهدف توجيه ضربة قاضية لا تؤدي فقط بالحزب إلى التفكك والانهيار وإنما تتخطاها لتدفع بلبنان الرسمي والشعبي نحو السقوط في فخ الخضوع السياسي الذي سيشكل مدخلاً لتطبيع لبناني مبرر مع الكيان.

في هذا الإطار، لم يكن الفهم الإسرائيلي لاتفاق وقف إطلاق النار مطابقاً لما تم الإعلان عنه في لبنان، إذ استكمل "الجيش" الإسرائيلي تنفيذ مهمات عسكرية في فترة الشهرين التي عرّفها الاتفاق بأنها مهلة لانسحاب الكيان الإسرائيلي من لبنان وانتشار الجيش اللبناني حتى الحدود، ثم عمل على تمديدها وانتهت بعد ذلك المهلة الإضافية باحتلاله بعض المناطق، بالإضافة إلى استمراره في شن اعتداءات جوية من الجنوب إلى البقاع من دون أن ننسى خروقاته الجوية التي لا تتوقف على مدار الساعة، وكذلك محاولاته للتدخل في قرارات الدولة، وتحديد إطار سلوكها وكيفية تعاملها مع الداخل والخارج.

وبالتالي، أظهر السلوك الإسرائيلي إصراراً على تحقيق أهداف لا ترتبط بضرورات ميدانية تفرضها مخططاته العسكرية ورؤيته لكيفية حماية مستوطناته وإنما ترتبط أيضاً بتدجين السلوك الرسمي اللبناني بما يحوّل الدولة اللبنانية إلى ما يشبه سلطة رام الله أو ما كان يُعرف قبل عام 2000 بـ"جيش لبنان الجنوبي".

وعليه، تُفرض في هذا الإطار ضرورة تحليل مدى قدرة المقاومة في لبنان على الصمود في وجه هذا المشروع الإسرائيلي المدعوم غربياً وإقليمياً لناحية مدى فاعلية ما تملكه من مقوّمات ضرورية للمواجهة، خصوصاً بعد قرارها الإستراتيجي بالوقوف خلف الدولة اللبنانية وتسليمها بقرار الدولة في تقدير أساليب المواجهة، مع الإشارة إلى يقينها المطلق بمحدودية إمكانات الأخيرة وافتقادها، أي الدولة، لأي مرتكزات تجعلها تتبنى خيارات لا تلتزم بالمسار التقليدي للنظام الرسمي العربي الذي يمكن تعريفه باللجوء إلى الشرعية الدولية ومبادرة بيروت 2002 التي قال عنها شارون إنها لا تساوي قيمة الحبر الذي كُتبت به.

يخطئ البعض في تحديد التحديات التي تواجه المقاومة في هذه المرحلة من خلال البحث في كيفية ترميم بنيتها التنظيمية والعسكرية، وتعويض النقص الذي سببه ارتقاء عدد غير قليل من الشهداء، أو من خلال البحث في كيفية ترميم علاقة الحزب ببيئته الحاضنة. فالواقع التسليحي للمقاومة الذي عملت منذ فترة طويلة على تحقيق اكتفاء ذاتي فيه من خلال بناء خطوط إنتاجه في لبنان يجعل من الممكن إعادة ترميمه بمرور الوقت من دون أي عراقيل. وللدلالة على هذا الأمر، يمكن العودة إلى بيانات المقاومة عن عملياتها خلال الحرب إذ أشارت في أكثر من 80% منها إلى أنها استخدمت أسلحة مصنّعة محلياً. بالطبع، يجب أن لا يُقرأ هذا الأمر على أنه ينفي الحاجة إلى توريد بعض الحاجات التسليحية من الخارج، وإنما يجب أن يقرأ على أنه دلالة على إمكانية استعادة القدرات بمرور الزمن.

أما بالنسبة إلى علاقة الحزب ببيئته الحاضنة، فقد أظهر تشييع سماحة الأمينين العامين السيد حسن نصرالله والسيد هاشم صفي الدين، من دون أن نهمل تشييع شهداء المواجهات في قرى الحافة الأمامية، التصاق البيئة بالمقاومة بما لا يُقارن بالمراحل السابقة. فالقناعة التي تشكلت لدى البيئة، والتي يمكن اختصارها بأنها كانت مستهدفة كما المقاومة، جعلتها تطور علاقتها بهذه الأخيرة إذ تحوّلت من مجرد حاضنة لها إلى محددة لسلوكها وللخطوط الحمر التي يجب أن لا يتخطاها أحد. 

 وعليه، فالتحدي الأساسي في هذه المرحلة يتمحور بشكل كبير حول كيفية تحصين لبنان ومنع سقوطه بين فكي كماشة الحرب الأهلية والتسليم بفكرة الخضوع للمشروع الإسرائيلي.

فالحملة الممنهجة التي استهدفت بيئة المقاومة تحت عناوين مختلفة، تبدأ بتحمّل تبعات الخسارة في المعركة ولا تنتهي بالطعن بهوية البيئة وانتمائها إلى لبنان، لم تكن لبنانية المنشأ، إذ إن النتائج المفترضة لها لم تكن لتخدم عملية تحصين السلم الأهلي. فبالنسبة إلى الأطراف اللبنانية التي أخذت على عاتقها مهمة القيام بهذه الحملة، فهي تدرك حتماً عدم إمكانية إقناع البيئة بالتسليم، وبالتالي فإنها تستهدف من خلال حملتها الدفع إلى انفجار الشارع أو إلى خروج بيئة المقاومة عن طورها بما قد يؤدي إلى فوضى عارمة تنهك الدولة وتنتهي حتماً بصراع داخلي أو حرب أهلية.

وبما أن المفاعيل التي تستهدفها هذه الحملة، أي حصر الخيارات بين انفجار الداخل أو الخضوع والتسليم للتوجهات الإسرائيلية، تتوافق من حيث المبدأ مع الأهداف التي وضعها الكيان الإسرائيلي لحربه على لبنان، أي القضاء على المقاومة وتغيير وجه لبنان، وإن بوسائل ذكية تعتمد إشغال المقاومة بحروب داخلية تستهدف حرف مسارها وإسقاط مبرر وجودها، فإن ذلك سيستدعي البحث في مواجهتها بطريقة متناسبة.

وعليه، ذهبت المقاومة من خلال تسهيل انتخاب رئيس الجمهورية وبعد ذلك التعاون مع رئيس الحكومة لتشكيل حكومته وتأكيد قيادة المقاومة على التزام خيار الدولة لمواجهة تحديات العدوان وإعادة الإعمار والدعوة إلى بناء الدولة القوية العادلة باتجاه العمل على تحصين آليات العمل الحكومي، بالتوازي مع الاحتفاظ بالقدرة على التحرك من قلب مؤسسات الدولة بما يعرقل أي ضغوط خارجية تستهدف جر الدولة نحو التطبيع أو التسليم.

وعليه، فإذا كانت المرحلة الحالية قد أدت إلى تغيير موازين القوى الإقليمية، فإن المقاومة قد نجحت من خلال تأكيد الالتفاف الشعبي حولها ونجاحها في تفادي عزلها عبر مشاركتها الفاعلة في عملية إعادة إنتاج السلطة في لبنان.

فإذا كان الضخ الإعلامي والضغط السياسي الذي مارسه الكيان ومن خلفه منظومة معقدة من الأدوات المحلية والإقليمية والدولية يستهدف احتضار المقاومة وانتفاء الحاجة إليها، أو بالحدّ الأدنى إظهار عدم قدرتها على التسويق لسردية متماسكة تؤكد قدرتها على تشكيل آليات عملها بطريقة تظهر تحركها على أنه نتاج تخطيط مسبق، فقد أثبتت المقاومة في أقل من 3 أشهر أنها قادرة على تشكيل مقوّمات صمودها بشكل فاعل وأنها رسمت إطار عملها في هذه المرحلة بما يؤشرعلى فهمها العميق لتحديات المستقبل.