الوثيقة السرية لعربات جدعون.. دلالات الفشل وتوقيت الكشف؟!
تسريب الوثيقة في هذا التوقيت يضع "إسرائيل" أمام ثلاث خيارات صعبة ومعقدة، لكن إذا ما جرى الوقوف على حقيقة المعركة ونتائجها فمن السهل التوجه نحو الخيار الأسهل في ظل مشهد معقد.
-
لماذا كُشف عن هذه الوثيقة في هذا التوقيت تحديداً؟
رغم تصدير الرواية الرسمية في "إسرائيل" بأن عملية عربات جدعون حققت أهدافها وستنتقل للمرحلة الثانية، لم يكن مفاجئاً أن يقر جيش الاحتلال الإسرائيلي داخلياً بفشلها رسمياً، فبعد نشر القناة الإسرائيلية 12 تقريراً وثيقة سرية تعترف للمرة الأولى بشكل صريح بفشل العملية في تحقيق أهدافها الجوهرية، وعلى رأسها إعادة الجنود الأسرى وإخضاع حركة حماس، إذ إن هذا الاعتراف ينسف الرواية والسردية الرسمية الإسرائيلية التي روجت طوال الأشهر الأخيرة أن العملية ناجحة وحققت أهدافها، جاءت الصدمة من توقيت الكشف عن وثيقة سرية تصف العملية بأنها لم تحقق أهدافها فعلياً.
الوثيقة تكشف عن ثلاثة إخفاقات قاتلة للجيش الإسرائيلي، تمثلت في غياب المواءمة العملياتية في أسلوب المقاومة القائم على سلاح الأنفاق وحرب المدن والشوارع، وبطء الإيقاع والتخطيط العشوائي الذي جعل "الجيش" يكرر دخول مناطق في قطاع غزة سبق أن أعلن السيطرة عليها، والفشل في إدارة البعد الإنساني والإعلامي، مقابل تفوق لحماس في الهيمنة على خطاب المشهد الدولي بخطاب التجويع والحصار والمعاناة الإنسانية.
تسريب الوثيقة الآن ليس صدفة، بل يأتي في توقيت حساس وعشية اجتماعات أمنية وعسكرية وسياسية تخوضها "إسرائيل" لمناقشة المرحلة المقبلة من الحرب ووسط مطالبات إسرائيلية بإعادة احتلال مدينة غزة وتهجير سكانها، لكن هناك رسالة مهمة وبارزة في هذه الوثيقة المسربة، هي أنه لا يمكن تكرار عربات جدعون بذات الطريقة والأسلوب وانتظار نتائج مختلفة هذه المرة، وكل ما يعني الجمهور داخل "إسرائيل"، ومعهم أهالي الجنود الأسرى، هو إعادتهم أحياء، لا عدد الأنفاق التي دُمرت أو المباني التي سُوّيت بالأرض بفعل الغارات الجوية الإسرائيلية، أو حتى بأرواح المدنيين الفلسطينيين الذين يُقتلون يومياً.
صحيح أن هذا الاعتراف الذي جاء في الوثيقة يندرج في سياق داخلي لاستخلاص الدروس من معركة مستمرة بين "إسرائيل" والمقاومة الفلسطينية، إلا أن تسريبه للإعلام في هذا التوقيت يفتح الباب على مصراعيه لقراءة معمقة أكثر، من حيث الأبعاد والتوقيت من جهة، وفي السياق الأوسع للحرب على غزة من جهة أخرى.
لعل من أهم وأبرز القضايا التي يمكن التوقف عندها، هو أن الوثيقة تخلص إلى نتيجة مهمة مفادها أن عربات جدعون لم تحقق أهدافها الحاسمة، وأن الكلفة السياسية والأمنية تزايدت من دون تحقيق هدف استراتيجي كما يريد نتنياهو.
حال الإنكار الذي تعيشه المؤسسة الرسمية في "إسرائيل" أن "الجيش" الإسرائيلي حقق أهدافه وأنه بصدد الانتقال إلى المرحلة الثانية، يعكس صورة من التضارب، وهذا التضارب يعبر عن فجوة واضحة وصريحة في السردية الإسرائيلية بين المستويات السياسية والعسكرية والأمنية، فمن جهة، تصدر وثائق داخلية صريحة تعترف بالفشل والإخفاق بكل وضوح ، يقابلها خطاب رسمي معاكس للحقيقة، وهذا يدلّ على أن نتنياهو وحكومته يعيشان حالاً من الإنكار، لا يوجد تفسير لها سوى الارتهان للحسابات السياسية.
تاريخياً، هذا الإنكار سبق أن حدث، وهذا الأسلوب ليس جديداً على "إسرائيل"، إذ غالباً ما تعترف الوثائق الداخلية ولجان التحقيق بالفشل والإخفاق مقابل إنكار المستوى السياسي، وهذا سبق أن حدث في حرب "إسرائيل" مع حزب الله في تموز 2006، إذ أقر "الجيش" الإسرائيلي داخلياً بالفشل، فيما لم يجرؤ المستوى السياسي آنذاك على الإقرار بالإخفاق.
دلالات التوقيت مهمة، ولعل السؤال الأبرز الذي قد يسأله كثيرون، لماذا كُشف عن هذه الوثيقة في هذا التوقيت تحديداً؟
ثمة اعتبارات مهمة تُقرأ في هذا السياق، في وقت تشهد فيه "إسرائيل" حالة من الغليان والانقسامات حول جدوى استمرار الحرب وحل قضية الأسرى لدى المقاومة في قطاع غزة، والبدء باحتلال غزة والسيطرة على المدينة، وبين خيارات الذهاب إلى صفقة تبادل للأسرى وافقت عليها حماس مؤخراً في القاهرة، تضمن الإفراج عن عشرة أسرى أحياء ونصف الجثامين، إذ يكمن الاعتبار الأول في التأثير على اتخاذ القرارات في هذا التوقيت تحديداً، والحد من احتمالية إطلاق عملية عسكرية جديدة قد تكلّف "إسرائيل" الكثير من الأثمان الجديدة.
يهدف الكشف عن الوثيقة إلى الحد من المبالغة في التصريحات الرسمية، والحد من الصراع الداخلي القائم مع طول أمد الحرب واستنزاف الجيش المستمر، وتزايد الضغوط من الاحتياط والنخب الأمنية، بضرورة إجراء مراجعات جذرية وتحديد استراتيجية واضحة لجدوى استمرار الحرب، وإصرار الحكومة على استبعاد الحل السياسي.
هناك مسألة في غاية الأهمية الاستراتيجية يمكن تسجيلها في سياق توقيت التسريب تحديداً، إذ تكشف الوثيقة أن "إسرائيل" وقعت في فخ المعادلة غير المتكافئة في مدن وشوارع قطاع غزة، وأن القوة العسكرية الهائلة التي تمتلكها لا تمنحها إنجازاً كما تريد أمام فصائل المقاومة الفلسطينية، التي تتبع أسلوب حرب الشوارع والعقد القتالية وحرب الأنفاق، وهذا يعني فشل معادلة الردع مقابل الحسم، كما أكدت كل التجارب السابقة أن حرب المدن قادرة على استنزاف أقوى الجيوش في العالم.
ثمة عامل مهم في هذا الصدد يتعلق بالبعد السياسي والإعلامي الذي انعكس سلباً على "إسرائيل" التي فقدت أرصدة دولية، وسط اعترافات بدولة فلسطين وتشكّل رأي عام عالمي رافض للإبادة والتطهير العرقي في غزة، وهذا يعني أن "إسرائيل" بدأت تعيش أزمة شرعية سياسية على مستوى العالم الذي بدأ يعترف ويتزايد فيه الاعتراف بفلسطين، ورافض للقتل وسياسة التجويع التي تجري في غزة.
تسريب الوثيقة في هذا التوقيت يضع "إسرائيل" أمام ثلاث خيارات صعبة ومعقدة، لكن إذا ما جرى الوقوف على حقيقة المعركة ونتائجها، فمن السهل التوجه نحو الخيار الأسهل في ظل مشهد معقد.
الأول/ إصرار المستوى السياسي في "إسرائيل" على مزيد من التصعيد وتشديد حلقات الحصار واحتلال مدينة غزة، وهذا سيناريو سيكون مكلفاً لـ"إسرائيل" وله أثمان سياسية وعسكرية وإنسانية كبيرة.
الثاني/ الذهاب إلى صفقة تبادل للأسرى، وهذا خيار فيه أقل كلفة عسكرية، لكنه يواجه معارضة من شركاء نتنياهو في الحكومة وتحديداً بن غفير وسيموتريتش.
الثالث/ إبقاء الوضع على ما هو عليه بتوغلات عسكرية محدودة في الأطراف الشرقية والشمالية لقطاع غزة، لكن هذا السيناريو يعني استمرار حال الاستنزاف من دون إنجاز حسم عسكري في غزة.
الوثيقة بمجملها تكشف عن دلالات خطيرة تتمثل في وجود أزمة عقائدية داخل مؤسسة "جيش" الاحتلال الإسرائيلي، في ظل اعتماده على التكنولوجيا الحديثة المتطورة مع القوة النارية المفرطة، وأن هذه القوة عاجزة عن حسم معركة لمصلحتها في بيئة حرب الشوارع وسلاح الأنفاق الذي تنتهجه المقاومة، كما تفضح فجوة الثقة بين المستويات السياسية والعسكرية في "إسرائيل" والتناقض الواضح بين الخطاب الرسمي والموقف الحقيقي، والأهم في ذلك هو فشل "إسرائيل" في فرض معادلة الحسم بالقوة في حربها على المقاومة الفلسطينية، وهذا ما سيجعل الأصوات المعارضة في "إسرائيل" تشدد أكثر على أن تطرح نقاشاً حول جدوى استمرار الحرب مقابل البحث عن حلول سياسية هي أصلاً موجودة.
لعل السؤال الأبرز بعد كشف هذه الوثيقة والذي يُسأل في "إسرائيل" يدور حول قدرتها على صياغة استراتيجية جديدة قادرة على الحسم، أم أن الحرب ستظل دائرة في حلقة مفرغة تكرر التجارب نفسها؟ خاصة أن أخطر ما جاء في الوثيقة هو الكشف عن الأزمة المزدوجة التي تعيشها "إسرائيل" التي باتت أمام خيارات ثلاثة لا رابع لها، لكن أياً من الخيارات هذه لن يلغي حقيقة باتت مثبتة بوثائق رسمية صادرة عن جيش الاحتلال الإسرائيلي تعترف بأن "إسرائيل" فشلت في تحقيق أهدافها الجوهرية وعربات جدعون لم تنجح في الأساس لتبدأ عربات ثانية، أما حماس والمقاومة في غزة فلم تهزم ومصرّة على تحرير الأسرى ووقف الحرب وإعادة الإعمار.