الوساطة التركية... قراءة في الدوافع والأهداف

يُطرح التساؤل حول المتغيرات التي دفعت إلى تحرك الجانب التركي وانخراطه في الجهود الرامية إلى التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى بين الكيان وحركة المقاومة.

  • الكيان الإسرائيلي رفض الوساطة التركية التي صنفها على أنها لا تتوافق مع متطلبات المرحلة.
    الكيان الإسرائيلي رفض الوساطة التركية التي صنفها على أنها لا تتوافق مع متطلبات المرحلة.

منذ أكثر من 6 أشهر، لم تنجح الوساطتان القطرية والمصرية في تظهير اتفاق يؤدي إلى وقف العدوان الإسرائيلي على غزة نتيجة عدم قدرتهما على فرض خارطة تلبي مطالب المقاومة وتخفف من حدة تعنت الجانب الإسرائيلي المصرّ على تظهير اتفاق الهدنة على أنه مجرد ترتيب لاستسلام المقاومة وترتيب الأوضاع داخل القطاع في اليوم التالي للحرب، بما يضمن سيطرة إسرائيلية أمنية شبيهة بالواقع في الضفة الغربية لناحية تشريع الوجود والنفوذ الإسرائيلي في القطاع من جهة، وضمان احترام أي إدارة محلية في القطاع لهواجس الكيان الأمنية من جهة أخرى.

بالتوازي، كان الموقف التركي منذ بداية طوفان الأقصى لافتاً، إذ لم تنجح الحكومة التركية في الانخراط في جهود التسوية رغم عرضها التوسط بين الطرفين، فالانتقادات إسرائيلية لاذعة للجانب التركي بسبب علاقاته مع حركة المقاومة الإسلامية، إضافة إلى أن الكيان الإسرائيلي لم يعتبر أن الموقف التركي الذي عبر عنه نائب رئيس حزب العدالة والتنمية بأن تركيا لن يكون بوسعها أن تبرر قتل المدنيين من جانب حماس فيما تندد بوحشية "إسرائيل" في قتل المدنيين مرضٍ، إذ كان يطلب إدانة واضحة لحركة المقاومة وتفهماً مطلقاً للعدوان على الغزة. 

وبالتالي، رفض الكيان الإسرائيلي الوساطة التركية التي صنفها على أنها لا تتوافق مع متطلبات المرحلة، إذ يصر الإسرائيلي على تصنيف عمل المقاومة على أنه عمل إرهابي يبرر سلوك "الجيش" الإسرائيلي الذي تفلَّت في غزة من أي ضوابط قانونية أو أخلاقية أو إنسانية.

من ناحية أخرى، وفي إطار البحث في الدوافع الإسرائيلية التي كانت سبباً في بداية العدوان للقبول بالدور المصري والقطري ومحاولة تحييد الجانب التركي، يمكن التقدير أنه بخلاف الدور المصري المحكوم لعقدة الجغرافيا وتداخل الحدود مع القطاع والكيان الإسرائيلي، مع ما يعنيه هذا الواقع من تأثير مصري لا يمكن الالتفاف عليه، إضافة إلى موقف مصر السلبي من حركة المقاومة الإسلامية، يبرز نوع من التناقض حول تفضيل الدور القطري على حساب التركي، إذ لا يختلف اثنان على مدى التماثل بين الطرفين في نظرتهما إلى واقع علاقاتهما مع كل من حركة المقاومة الإسلامية "حماس" أو الكيان الإسرائيلي. 

وفي حين تؤمّن الدولة القطرية إقامة دائمة لقادة الحركة في الخارج، إضافة إلى تمويل شهري للحركة في غزة من دون أي استحياء أو تحفظ، من دون أن ننسى أن أمير قطر السابق حمد بن خليفة كان أول زعيم عربي يزور غزة عام 2012، مع الإشارة إلى وجود بعض التحليلات التي تصنف هذا الاحتضان في إطار محاولة احتواء الحركة وتحديد سلوكها، يمكن بسهولة تلمس عمق العلاقة العقائدية بين تركيا العدالة والتنمية وحركة المقاومة الإسلامية حماس. 

وإذا كان من الممكن القول إن توصيف السياسة الخارجية للدولة التركية يفترض تقييم الخيارات وفق منطق استعادة الموقع التاريخي للدولة التركية في المنطقة، فإن ذلك يدعم اتجاهاً تحليلياً يشدد على أن عمق هذه العلاقة يتخطى إطار التقاطع الأيديولوجي ليُظهر أنه متوافق مع محاولة تركية لتعميق ارتباطها بالقضايا الساخنة في المنطقة، بما يفيد في مجال المشاركة في اتخاذ القرارات الحساسة وأداء دور يعبر عن التوجه التاريخي والديني للدولة التركية نحو المنطقة، مع الإشارة إلى أن هذه التوجه حظي بمقبولية أميركية انطلاقاً من رؤية تفترض إمكانية استغلاله في محاولة تمرير مخططات الولايات المتحدة في المنطقة.

بطبيعة الحال، لا يُفترض قراءة هذا التحليل في إطار تخوين أي من الدولتين التركية أو القطرية، إذ يبرر الطرفان سياساتهما انطلاقاً من إمكانية استغلال العلاقة مع الكيان في إطار الضغط لفرض الحلول للقضية الفلسطينية في ظل ما يعتبرانه استحالةً في موضوع إزالة الكيان أو محاربته بفعل الدعم الدولي اللامحدود له، إنما الإشارة إلى أنه يستهدف إظهار عدم وجود فارق كبير بينهما.

وبناء عليه، يُطرح التساؤل حول المتغيرات التي دفعت إلى تحرك الجانب التركي وانخراطه في الجهود الرامية إلى التوصل إلى اتفاق لتبادل الأسرى بين الكيان وحركة المقاومة.

في هذا الإطار، تتقاطع مجموعة من المتغيرات التي لا ترتبط فقط بعدم نجاح الجهود القطرية والمصرية في التوصل إلى اتفاق، إنما يكمن بعضها فيما هو على علاقة مباشرة بالدولة التركية والموقع الذي تسعى إليه في الإقليم.

وبعدما نجحت المقاومة الإسلامية حماس في الصمود أمام القوة العاتية لجيش الكيان الذي فشل في إدارة معركة تعبر عن تفوقه وقدرته، باتت قدرة الكيان على فرض خياراته محدودة، إذ إنه على الرغم من إيحاء الكيان إعلامياً بقدرته على الحسم وتحقيق الأهداف، أظهرت الأحداث الأخيرة على كل جبهاته عدم قدرته على إدارة معاركه، وأظهرت الظروف التي فرضتها قوى المقاومة على جبهاته في قطاع غزة وشمال فلسطين المحتلة، إضافة إلى جبهة البحر الأحمر، محدودية خياراته وإمكان تقبله أي حراك قد يساعد عرضاً في انتشاله من مأزقه.

من جهة أخرى، يمكن افتراض قراءة تركية معمقة لتداعيات الرد الإيراني الذي تخطى في شكله وأهدافه ما كان متوقعاً، إذ إنه لم يكن رداً شكلياً أو متواضعاً، إنما استطاعت الجمهورية الإسلامية من خلاله أن تترك تأثيراً، ليس في توازن القوة بينها وبين الكيان فحسب، إنما على مستوى النظام الإقليمي الذي باتت أطرافه غير قادرة على تحييد الدور الإيراني في أي معادلة مرتقبة أيضاً.

وانطلاقاً من اليقين التركي بعدم القدرة على ضمان موقع متقدم في العلاقة مع الغرب الأوروبي وبعدم التسليم بالدور الذي ترسمه لها الولايات المتحدة، تجد الدولة التركية نفسها ملزمة بالتوجه نحو الشرق الأوسط. وبالتالي، يمكن التقدير أن اللحظة التي أعلنت فيها قطر نيتها إعادة تقييم دورها كوسيط بين الكيان وحركة المقاومة كانت مناسبة لاستعادة تركيا نشاطها الإقليمي من خلال استغلال قوتها الناعمة بطريقة يُفترض في شكلها أن لا تثير حفيظة أحد.

العلاقة مع الكيان الإسرائيلي والإصرار على عدم مقاطعته سياسياً واقتصادياً، رغم الضغوط الشعبية، إضافة إلى تبني هدف العمل على إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين والتزام الرؤية الأميركية، قد تكون المنطلق لتليين الموقف الإسرائيلي، وذلك من خلال الإيحاء بإمكانية الاستثمار في العلاقة القوية مع حركة المقاومة الإسلامية بما قد يؤدي إلى إقناعها بحلول تفترض قبولاً إسرائيلياً. 

وفي هذا الإطار، يُفترض الإشارة إلى أن المساعي التركية لا تتمحور حول كيفية إخراج القيادة الإسرائيلية من مأزقها، إذ شبه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان رئيس حكومة الكيان بالزعيم النازي هتلر، إنما تستهدف محاولة الحد من التأثيرات السلبية للمواجهة الإيرانية المباشرة مع الكيان الإسرائيلي على الدور التركي، إذ إن توسع رقعة الصراع في الإقليم معطوفاً على ميل كفة الردع لمصلحة إيران بعد استهدافها الكيان قد يدخل المنطقة في توازن لا يلبي طموحات الجانب التركي ويحرمه من أي تأثير فاعل فيه.

وفي ظل بحثها في كيفية تطوير تموضعها السياسي في الإقليم ويقينها بنتائج الحرب الكارثية على اقتصادها المثقل بأزمة تضخم عملتها، إضافة إلى حساسية موقعها كممر للطاقة أمام عدم الاستقرار الإقليمي، ومن دون أن ننسى أن نجاحها حيث فشل الوسطاء الآخرون سيدعم موقفها أمام الولايات المتحدة والدول الأوروبية، يظهر جلياً وبما لا يقبل الشك أن دوافع التدخل التركي في هذه المرحلة لا يُحلل إلا في إطار البحث عن مصالحها القومية.   

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.