تركيا بين روسيا والولايات المتحدة.. والعنصرية الأوروبية

الفتور والتوتر المحتمَلان بين أنقرة والدول الأوروبية، التي تشهد صعوداً ملحوظاً للتيار القومي، سوف ينعكسان، بصورة مباشرة، على تركيا، قبل الآخرين.

  • تركيا بين روسيا والولايات المتحدة.. والعنصرية الأوروبية
    تركيا بين روسيا والولايات المتحدة.. والعنصرية الأوروبية

بعد أن عبّر الرئيس إردوغان عن استعداده للقاء الرئيس الاسد، والعودة إلى علاقاته الودية والوطيدة به، كما كانت عليه في السابق، زاد الحديث عن فرص المصالحة القريبة بين دمشق وأنقرة مع استمرار أحاديث الإعلام عن مزيد من تفاصيل الاتصالات واللقاءات بين الطرفين. وقال نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري، إلهان أوزجال، إنهم "على استعداد للسفر إلى سوريا والوساطة بين إردوغان والأسد، وهو ما يسعون من أجله"، على حد قوله.

ويعرف الجميع أن الوسيط الأهم والأكثر تأثيراً في هذه المصالحة هو الرئيس الروسي بوتين، الذي يقال إنه على حوار دائم مع القاهرة والرياض وأبو ظبي وطهران لدعم هذا المسار وتحقيق الأهداف المرجوة منه في أسرع ما يمكن، أي قبل الانتخابات الأميركية في الـ5 من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. فالجميع يعرف مساعي واشنطن وحلفائها في عهد الرئيسين ترامب وبايدن لعرقلة اي انتصار روسي في سوريا، نتيجة انعكاسات ذلك على الحسابات والمشاريع الأميركية في شرقي الفرات والعراق عموماً ما دام المستفيد الأكبر من ذلك سيكون ليس الرئيس الأسد فقط، بل أيضاً حلفاءه في لبنان وإيران واليمن وكل من تحفّظ من بعض الأنظمة العربية على ذلك.

ومع انتظار نتائج المباحثات التي سيجريها الرئيس إردوغان والرئيس بوتين في أستانة، يوم الأربعاء أو الخميس، على هامش قمة منظمة شنغهاي، فالجميع يعرف أن إردوغان لن يطرح أيّ خطوات عملية وسريعة ومهمة في طريق المصالحة النهائية مع الرئيس الأسد، إلا بعد لقائه الرئيس بايدن في واشنطن في 9-11 تموز/يوليو خلال قمة الحلف الأطلسي، الذي يحتفل بالذكرى الـ 75 لتأسيسه بحضور ممثلين عن عدد من دول الشرق الأوسط، ومنها مصر والبحرين والأردن والمغرب والإمارات وقطر والكيان الصهيوني.

ولن يُهمل الرئيس إردوغان لقاءاته عدداً من زعماء الدول الأطلسية، وأهمها الأوروبية، التي شهدت وتشهد علاقاتها بتركيا حالات من المد والجزر لأسباب متعددة، أهمها ذكريات التاريخ العثماني السيئ بالنسبة إلى معظم شعوب أوروبا. وتراقب أنقرة، من كثب، صعود التيار القومي في أوروبا بعد انتصار أقصى اليمين في الانتخابات الفرنسية التي قد تسفر في جولتها الثانية، الأحد المقبل، عن سيطرة حزب التجمع الوطني اليميني وحلفائه على البرلمان بعد أن حصل في الجولة الأولى على 33.4% من الأصوات بفارق 13 نقطة عن حزب الرئيس ماكرون.

ويجب التذكير بالفتور والتوتر بين أنقرة وباريس بين الحين والحين لأسباب متعددة، منها الدعم الفرنسي للأرمن، وحديث ماكرون عن خطر النشاط التركي، قومياً ودينياً، في فرنسا وأوروبا عموماً. فالجميع يعرف أن صعود التيار اليميني المتطرف، قومياً وعنصرياً، في عدد من الدول الأوروبية، وأهمها النمسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا، والآن ألمانيا، سيخلق لتركيا كثيراً من المشاكل، أهمها إغلاق أبواب الاتحاد الأوربي في وجهها إلى الابد، وهي تنتظر على أبواب هذا الاتحاد منذ اتفاقية أنقرة عام 1963.

ويعرف الجميع أيضاً أن الفتور والتوتر المحتملين بين انقرة والدول الأوروبية، التي تشهد صعوداً ملحوظاً للتيار القومي، سوف ينعكسان بصورة مباشرة على تركيا، قبل الآخرين، لأن نحو خمسة ملايين تركي يعيشون في عدد من هذه الدول، وفي مقدمتها ألمانيا، وفيها نحو ثلاثة ملايين مواطن تركي من مختلف الأطياف والأعراق، ومنهم الكرد والسريان المسيحيون والعلويون والإسلاميون والعلمانيون. ويفسر ذلك دعم نصف هؤلاء لإردوغان في الانتخابات التركية، بينما يصوّت النصف الآخر لأحزاب المعارضة، وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري و"الشعوب الديمقراطي" الكردي، من دون أن نتجاهل أن السبب الأهم في صعود التيار اليميني المتطرف في أوروبا، قومياً ودينياً، هو العدد المتزايد للاجئين، ومعظمهم دخل الدول الأوروبية عبر تركيا، بعد ما يسمى "الربيع العربي".

بعد أن فتحت تركيا أبوابها على مصاريعها للملايين من اللاجئين السوريين، زاد عددهم على 5 ملايين، منذ بدايات الحرب في سوريا حتى الآن. ويتذكر الجميع كيف أن تركيا سمحت للعصابات، التي تتاجر بالبشر، بنقل الآلاف من هؤلاء النازحين، ومعهم آخرون من دول أخرى، كالعراق وإيران وأفغانستان، وحتى من بعض الدول الأفريقية، إلى الجزر اليونانية، بواسطة قوارب مطاطية انطلقت من الشواطئ التركية في اتجاه هذه الجزر في بحر إيجة.

وتساهلت السلطات التركية مع الآلاف من اللاجئين للاتجاه غرباً إلى أوروبا عبر حدودها البرية مع بلغاريا واليونان، بعد أن جاءها، خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، نحو 500 ألف من اللاجئين الأفغان، وأغلبيتهم الساحقة من الرجال، وأعمارهم تتراوح بين 20 و30 عاماً، خلافاً للاجئين السوريين والآخرين، والذين جاءوا مع عائلاتهم. ودفع ذلك الاتحاد الأوروبي إلى التوقيع على عدد من الاتفاقيات مع أنقرة، حتى تمنع هذا اللجوء الجماعي إلى اليونان، ومنها إلى أوروبا، في مقابل 6 مليارات يورو.

وتعهّد الاتحاد الأوروبي، عبر توقيعه على اتفاقية تقنين الهجرة مع رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، في نيسان/أبريل 2016، تقديمَ عدد من التسهيلات إلى المواطنين الأتراك، في موضوع تأشيرات الدخول، وهو ما كان سبباً في إطاحة داود أوغلو بحجة أنه وقّع على هذه الاتفاقية من دون استشارة الرئيس إردوغان، وهو ما قاله داود أوغلو لاحقاً.

في جميع الحالات، وأياً كان غضب العواصم الأوروبية، وأياً كان الحاكم فيها على سياسات أنقرة معها، أو في القضايا الإقليمية والدولية، كما هي الحال في أوكرانيا، فالجميع يعرف أن هذه العواصم لا ولن تتجاهل مصالحها الاقتصادية والتجارية في تركيا، التي يزيد حجم استثمارات الشركات الأوروبية فيها على تريليون دولار، في مختلف القطاعات. وتصدّر تركيا نحو 60% من صادراتها إلى دول الاتحاد الأوروبي، حتى إن لم يفتح أبوابه للأتراك.

كما أن معظم من يعيش منهم في أوروبا سوف يزداد تعصباً قومياً ودينياً، كرد فعل على صعود التيار اليميني المتطرف في أوروبا، الذي يرى أن تركيا هي السبب الأهم، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في مجمل مشاكل أوروبا.