تطهير الدولة العميقة طريق ترامب إلى الديكتاتورية

يستهدف ترامب منافذ إعلامية يعتبرها معادية، ويمنع مراسليها من تغطية الأحداث في المكتب البيضاوي. ومن المتوقع أن تتسع قوائم الأعداء مع إدراك شرائح سكانية أكبر لتعرضها للخيانة، إلى جانب شعور البيت الأبيض، بقيادة ترامب، بالتهديد.

  • هدف إدارة ترامب النهائي ليس الدولة العميقة
    هدف إدارة ترامب النهائي ليس الدولة العميقة

رغم تغوّل الدولة العميقة الأميركية على المؤسسات الديمقراطية، ومصادرتها حريات أساسية، وتدبيرها تدخّلات عالمية كارثية، من السذاجة الاعتقاد بأنّ عداء ترامب تجاهها يتقصّد تقييد رقابتها وتغوّلها وتجاوزاتها. فالحقيقة أنّ تفكيك دونالد ترامب لها ينبئ بتشكيل شيء أسوأ بكثير هو دولته العميقة الخاصة به طريقاً إلى الديكتاتورية! 

في هذا السياق، يقول كريس هيدجز، الكاتب والصحافي المخضرم إنّ حرب إدارة ترامب ضدّ الدولة العميقة ليست تطهيراً، ولا تستهدف تحرير الناس من طغيان الاستخبارات والشرطة العسكرية وأضخم نظام سجون عالمياً والشركات المفترسة والمراقبة الجماعية. ولن تعيد سيادة القانون لمحاسبة الأقوياء والأثرياء أو تخفض إنفاق البنتاغون المتضخّم وغير الخاضع للمساءلة: تريليون دولار سنوياً.

تفكّك الحركات الثورية، يساراً ويميناً، هياكل البيروقراطية القديمة. وبمجرد وصول النازيين في ألمانيا والبلاشفة السوفيات للسلطة، شرعوا بتطهير الخدمة المدنية بعنف. فقد رأوا في هياكلها عدواً يعرقل فعلياً إحكام قبضتهم المطلقة على السلطة. إنه انقلاب صريح. وتشهد أميركا الآن انقلابها الخاص.

معارك خلفيّة

حالياً، تجري المعارك الخلفيّة، كما في سنوات السوفيات وألمانيا النازية المبكرة، بالمحاكم والمنافذ الإعلامية المعادية لترامب. بدايةً، ستكون انتصارات باهظة الثمن، فقد تعطّل البلاشفة والنازيون بسبب قضائهم وصحافتهم المعادية. لكنّ عمليات التطهير تدريجياً، بمساعدة ليبرالية مفلسة لا تناصر أو تقاتل لأجل أيّ شيء، تضمن انتصار السادة الجدد.

طردت إدارة ترامب مسؤولين يحقّقون في مخالفات بالحكومة الفيدرالية، منهم 17 مفتشاً عامّاً. يتمّ تطهير وكالات إنفاذ القانون والاستخبارات الفيدرالية، كمكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الأمن الداخلي، من أعداء ترامب. وستكون المحاكم المليئة بالقضاة المطيعين، آليات اضطهاد "أعداء" الدولة وفرض حماية الأقوياء والأثرياء. وبمنحها ترامب حصانة قانونية، وصلت المحكمة العليا هذه المرحلة فعلاً.

تحتذي إدارة ترامب بخطوات الدكتاتوريات السابقة لتوطيد السلطة، بأسلوب وطرائق أخرى. ومن يشيدون بسذاجة بعداء ترامب للدولة العميقة – التي ألحقت ضرراً جسيماً بالمؤسسات الديمقراطية، وانتزعت حريات عزيزة، كدولة غير مسؤولة داخل الدولة، تورّطت بتدخّلات عالمية كارثية، منها الكوارث العسكرية الأخيرة في الشرق الأوسط وأوكرانيا – عليهم النظر عن كثب لما يقترح محلّها.

هدف إدارة ترامب النهائي ليس الدولة العميقة، بل قوانين ولوائح وبروتوكولات وقواعد، وموظفو حكومة ينفّذونها، وتعوق السيطرة الدكتاتورية. فتقرّر إلغاء التسويات، وحدود السلطة، والضوابط والتوازنات، والمساءلة. سيُرغم المعتقدون أنّ الحكومة لخدمة الصالح العامّ، وليس إملاءات الحاكم، على الخروج. ستتمّ إعادة تشكيل الدولة العميقة لخدمة "عبادة الزعامة". ستغدو القوانين والحقوق الدستورية بلا أثر.

"من ينقذ بلاده لا ينتهك أيّ قانون"، هكذا تبجّح ترامب على قناة Truth Social ومنصة X.

نظرية السلطة التنفيذية الجامعة

استبدلت بفوضى إدارة ترامب الأولى، خطة منضبطة لخنق بقايا الديمقراطية الأميركية الهزيلة. قام "مشروع 2025" و"مركز تجديد أميركا" و"معهد أميركا أوّلاً للسياسة" بتجميع مخطّطات تفصيلية مسبقاً وتقدير موقف واقتراح تشريعات وأوامر تنفيذية وسياسات.

حجر الزاوية القانوني لتفكيك الدولة "نظرية السلطة التنفيذية الجامعة"، صاغها قاضي المحكمة العليا أنطونين سكاليا في رأيه المخالف بقضية "موريسون ضدّ أولسون". في رأي سكاليا، تعني المادة الثانية في الدستور أنّ كلّ شيء غير معيّن كسلطة تشريعية أو قضائية فهو سلطة تنفيذية وجوباً. وكمبرّر قانوني للدكتاتورية، كتب أنّ السلطة التنفيذية يمكنها تنفيذ جميع قوانين البلاد خارج ما لم يمنحه الدستور صراحة للكونغرس أو القضاء.

ورغم أنّ مشروع 2025 التابع لـ "مؤسسة التراث" لا يستخدم مصطلح "نظرية السلطة التنفيذية الجامعة"، فإنه يدعو إلى سياسات تتوافق مع مبادئها. ويوصي مشروع 2025 بطرد عشرات الآلاف من موظفي الحكومة واستبدال الموالين بهم. مفتاح المشروع إضعاف حقوق وحماية عمال وموظفي الحكومة، ليسهل فصلهم بطلب السلطة التنفيذية. وعاد راسل ﭬوت، مؤسس "مركز تجديد أميركا" وأحد مهندسي مشروع 2025، مديراً لمكتب الإدارة والميزانية في البيت الأبيض.

تطهير البيروقراطية الأميركية 

من آخر أعمال ترامب في ولايته الأولى توقيع أمر "إنشاء جدول F في الخدمة المستثناة". فأزال حماية البيروقراطيين الحكوميين المحترفين. ألغاه جو بايدن، وأعيد بعثه انتقامياً. وله أصداء من الماضي، فـ "قانون استعادة الخدمة المدنية"، أصدره النازيون عام 1933، طرد خصوماً سياسيين وغير الآريين من الخدمة المدنية، ومنهم يهود ألمان. وطهّر البلاشفة الجيش والخدمة المدنية من "الثورة المضادة".

إنّ طرد أكثر من 9500 موظف فيدرالي – وقبول 75 ألفاً آخرين باتفاقية خروج مؤجّلة ظالمة وسط خطط لخفض 70% من موظفي الوكالات الحكومية – وتجميد مليارات الدولارات من تمويلها واستيلاء إدارة كفاءة الحكومة (DOGE) التابعة لإيلون ماسك، المستمرّ على البيانات السرية لا يتعلّق بالكفاءة وتقليص الحجم.

لن تفعل تخفيضات الوكالات الفيدرالية الكثير لكبح جشع الإنفاق الفيدرالي إذا ظلت الميزانية العسكرية مقدّسة، بل يدعم جمهوريون في الكونغرس إنفاقاً عسكرياً إضافياً يتجاوز 100 مليار دولار خلال عقد. وبينما يريد ترامب إنهاء حرب أوكرانيا، ضمن جهوده للتحالف مع المستبدّ المعجب به في موسكو، فإنه يدعم الإبادة الجماعية في غزة. 

فالتطهير يتعلق باجتثاث الرقابة والحماية، وبملء المناصب الفيدرالية بـ "موالين" له من قاعدة بيانات جمعها "معهد الشراكة المحافظ"، وبإثراء الشركات الخاصة ومنها شركات لماسك ستتلقّى عقوداً حكومية مربحة، وبالالتفاف على قوانين بالآلاف تحدّد قواعد عمليات الحكومة.

أفضل سلوك للمواطنين

يتعلّق تفكيك الدولة أيضاً بزيادة رأس مال ماسك "السحابي"، والبنية التحتية الخوارزمية والرقمية. يخطّط ماسك لتحويل "منصة X" إلى "تطبيق لكلّ شيء"، فيطلق مؤخّراً تطبيق "X Money"، كإضافة للتطبيق الأصلي، يمنح المستخدمين محفظة رقمية "لتخزين الأموال والتحويلات بين المشتركين بمنصة X".

بعد أسابيع قليلة من الإعلان عن شراكة "X Money" مع شركة Visa، طلبت إدارة كفاءة الحكومة (DOGE) الوصول لبيانات "مصلحة الضرائب" المصنّفة سريّة، وملايين الإقرارات الضريبية. تتضمّن البيانات أرقام الضمان الاجتماعي والعناوين، وتفاصيل دخل الأفراد ومديونيّاتهم وممتلكاتهم واتفاقيات حضانة الأطفال بين الأزواج. يمكن تسويق هذه المعلومات وعسكرتها بوقوعها في الأيدي الخطأ.

يسعى ماسك لأجندة "الذكاء الاصطناعي أوّلاً" لزيادة دور الذكاء الاصطناعي عبر وكالات الحكومة. وبحسب موقع Wired، فهو يبني "مستودع بيانات مركزياً" للحكومة الفيدرالية.

وأعلن مؤسس شركة أوراكل، وشريك إيلون ماسك، والمتبرّع المخضرم لترامب، لاري إليسون، مؤخراً عن خطة لبنية الذكاء الاصطناعي التحتية بقيمة 500 مليار دولار بحضور ترامب، وحثّ الدول على نقل جميع بياناتها لـ "منصة بيانات موحّدة واحدة" ليتسنّى لنماذج الذكاء الاصطناعي "استهلاكها واستخدامها". وصرّح سابقاً أنّ نظام المراقبة القائم على الذكاء الاصطناعي سيضمن أنّه "أفضل سلوك للمواطنين لأننا نسجّل ونبلّغ باستمرار عمّا يحدث".

شأن جميع الطغاة، لترامب قوائم أعداء طويلة. لقد سحب تصاريح أمنية من مسؤولين سابقين في إدارته السابقة، منهم الجنرال المتقاعد مارك ميلي، الذي كان الضابط الأعلى رتبة بفترة ترامب الأولى، ومايك بومبيو، مدير الاستخبارات المركزية ووزير الخارجية آنذاك. وألغى أو هدّد بإلغاء تصاريح أمنية للرئيس بايدن وأعضاء بإدارته كأنتوني بلينكن، وزير خارجيته، وجيك سوليفان، مستشاره للأمن القومي. 

توحّش الحياة العامّة

كما يستهدف ترامب منافذ إعلامية يعتبرها معادية، ويمنع تغطية مراسليها أحداثاً إخبارية في المكتب البيضاوي، ويحظر عملهم في البنتاغون. وستتسع قوائم الأعداء بإدراك قطاعات سكانية أكبر تعرّضهم للخيانة ونطاق سخطهم، وشعور البيت الأبيض بقيادة ترامب بالتهديد.

وبمجرّد إقامة النظام الجديد، ستصبح القوانين واللوائح كما يقول البيت الأبيض. ستفقد هيئات مستقلة، لجنة الانتخابات الفيدرالية ومكتب حماية المستهلك مالياً ومجلس الاحتياطي الفيدرالي استقلالها. إنّ عمليات الترحيل الجماعي، وتعليم القيم "المسيحية" و"الوطنية" في المدارس (تعهّد ترامب "بإزالة المتطرّفين والمتعصّبين والماركسيين الذين تسلّلوا إلى وزارة التعليم الفيدرالية") إلى جانب اجتثاث البرامج الاجتماعية، كبرنامج الرعاية الصحية، وإسكان محدودي الدخل، والتدريب المهني، ومساعدات الأطفال، لخلق مجتمع من العبيد والسادة. وتُرخّص الشركات المفترسة، بصناعات الرعاية الصحية والدواء، لاستغلال ونهب المحرومين. تتطلّب الشمولية امتثالاً كاملاً. والنتيجة، بتعبير روزا لوكسمبورغ: "توحّش الحياة العامّة".

إنّ بقايا النظام القديم المُفرَغة – صحافة وإعلام، الحزب الديمقراطي، أوساط أكاديمية، قشور نقابات عمالية – لن تنقذنا بل تتلاشى أهميتها. فهي تلوك عبارات فارغة وترتجف خوفاً، وتنشد إصلاحات تدريجية عقيمة، وتشيطن أنصار ترامب بلا اعتبار لأسباب تصويتهم له. هذا الكساد قاسم مشترك في صعود الاستبداد والشمولية. ويولد لامبالاة وانهزامية.

إنّ مشروع "قانون إنشاء عطلة عيد ميلاد ترامب ويوم العَلم"، الذي قدّمته عضو الكونغرس كلوديا تنّي، نذير بالمقبل الأسوأ. يحدّد القانون يوم الـ 14 من حزيران/يونيو عطلة فيدرالية لإحياء ذكرى "عيد ميلاد دونالد ترامب ويوم العَلم". والخطوة التالية مسيرات رسمية ترفع صوراً ضخمة للزعيم العظيم!

الجحيم يسيطر

كان جوزيف روث أحد الكتّاب القلائل في ألمانيا، الذين أدركوا جاذبية الفاشية وصعودها الحتمي. في مقاله "محرقة العقل"، حول أوّل حرق جماعي للكتب نفّذه النازيون، نصح روث زملاءه الكتّاب اليهود بقبول حقيقة اندحارهم: "دعونا، كمقاتلين في الخطوط الأمامية، تحت راية العقل الأوروبي، نوفي أنبل واجب لمحارب مهزوم: نعترف بهزيمتنا". 

لم يخدع روث نفسه بآمال زائفة، بعد أن أدرجه النازيون بالقائمة السوداء، وأُرغم على النفي، وتدهورت حالته فقراً وبؤساً بفرنسا.

سأل روث: "ما فائدة كلماتي بمواجهة البنادق، ومكبّرات الصوت، والقتلة، ووزراء مختلين عقلياً، وإعلاميّين وصحافيين أغبياء يترجمون صوت عالم بابل هذا، مشوّشاً على أية حال، عبر طبول نورمبرغ؟" علم روث ما كان مقبلاً.

كتب روث بعد انتقاله لمنفاه بفرنسا عام 1933 إلى ستيفان زويغ عن استيلاء النازيين على السلطة: "سيتضح لك الآن اتجاهنا نحو كارثة عظيمة. لقد استولى البرابرة على السلطة. لا تخدع نفسك. الجحيم يسيطر"!

وجادل روث أيضاً أنه حتى لو أنّ الهزيمة مؤكدة، فالمقاومة كانت ضرورة أخلاقية، ووسيلة للدفاع عن كرامة المرء وقدسيّة الحقيقة. وأصرّ أنه: "يجب على المرء أن يكتب، حتى عندما يدرك أنّ الكلمة المطبوعة عاجزة عن تحسين أيّ شيء".

بدوره، يبدو هيدجز متشائماً مثل روث، متوقّعاً اتساع الرقابة وقمع الدولة. سيصبح أصحاب الضمائر أعداء الدولة. المقاومة، عندما تحدث، ستبدأ كانفجارات عفوية تتجمّع خارج مراكز القوة القائمة. سيُردّ على العصيان بقمع الدولة الوحشي. لكنّ عدم المقاومة استسلام أخلاقي ومادي للظلام، وتواطؤ مع شرّ جذري. هذا ما لا ينبغي أن يسمح به أبداً.