ثورة على الثورة

يعتقد من أسقطهم توقهم إلى الثورة في وهم "الربيع العربي"، أنّ ما جرى ثورة شعبية، تآمرت عليها قوى داخلية وخارجية لتحرفها عن مسارها، وتجيّرها لصالح هذا الطرف أو ذاك.

0:00
  • ما زال في جعبة الاستعمار الكثير من المؤامرات والمشاريع لتركيع الأمم.
    ما زال في جعبة الاستعمار الكثير من المؤامرات والمشاريع لتركيع الأمم.

في أوائل ستينيات القرن الماضي كتب الفيلسوف والصحافي الفرنسي "ريجيس دوبريه" كتابه الشهير "ثورة في الثورة" الذي جاء حصيلة لحوارات خاضها مع تشي غيفارا وفيديل كاسترو أثناء وجوده في كوبا، وبوليفيا. دارت تلك الحوارات حول العقائد التكتيكية والاستراتيجية السائدة في أميركا اللاتينية في تلك الفترة.

كانت تلك الستينيات مرحلة صعود حركات التحرّر الوطني التي وقفت في وجه الاستعمار بشكله التقليدي وسعت إلى تحرير أرضها وإرادتها. كان التوجّه يساراً السمة العامّة لهذه الحركات الثورية، إذ تبنّت التعريف اليساري للثورة من أنها فعل جماهيري يقوده حزب ونظرية ثوريان، يسعى إلى تدمير الواقع السائد، واستبداله بواقع جديد أكثر تقدّمية. رغم أنّ الكثير من حركات التحرّر لم تتبنَ الماركسية كنظرية ثورية، إلّا أنّ الاشتراكية كخيار اقتصادي كانت عاملاً مشتركاً بين جميع هذه الحركات، وكذلك كان وجود الحزب القائد.

تعاملت القوى اليسارية وكأنّ مصطلح الثورة "علامة تجارية" مسجّلة باسمها، لذلك قبلت بكلّ حالة احتجاج أو فوضى وأصبغت عليها الصفة الثورية. مع تفكّك الاتحاد السوفياتي وانهيار منظومة الدول الاشتراكية بدأ مصطلح الثورة ينسلّ من بين أصابع اليساريين، الذين وجدوا أنفسهم في موقع الاعتذار عن تاريخهم الثوري، بعد أن أصبغ عليهم الغرب الاستعماري صفات مثل الشمولية، والدكتاتورية، ودعم الإرهاب.

جاءت الثورات الملوّنة لتصفّي آخر جيوب الفكر اليساري الجذري في أوروبا، وانتقلت الثورات نفسها إلى بقيّة أنحاء العالم، فكانت خضراء في إيران، وصفراء في فرنسا، واكتسبت ألوان الربيع في الوطن العربي. إضافة إلى الألوان أدخلت الثورات الجديدة مصطلحات جديدة إلى الفعل الثوري "حزب الكنبة" في مصر، "الكنداكات" في السودان، "الأغلبية الصامتة" في بقية بلدان "الربيع العربي"، "ثوّار العشائر" في ليبيا وسوريا والعراق. ما يجمع كلّ هذه الصفات أنها تنزع عن الجماهير الثائرة صفتها السياسية. هذه الجماهير خرجت بسبب فساد هذا الفرد أو دكتاتورية هذا النظام، ومطالبها هي "الحرية والديمقراطية" بحسب النموذج الغربي. هكذا نظر هؤلاء الثوريون إلى أنفسهم، وعندما فشلت ثوراتهم وتحوّلت إلى كوارث وطنية، خرج علينا منظّرو تلك الثورات بنظرية الثورة المضادة. 

يعتقد من أسقطهم توقهم إلى الثورة في وهم "الربيع العربي"، أنّ ما جرى ثورة شعبية، تآمرت عليها قوى داخلية وخارجية لتحرفها عن مسارها، وتجيّرها لصالح هذا الطرف أو ذاك. لا يطرح هؤلاء على أنفسهم ولو من قبيل الفرضية أنّ ما حدث كان مؤامرة منذ اللحظة الأولى، من دون أن يعني ذلك أنّ الجماهير التي خرجت إلى الشارع متورّطة في التآمر على نفسها، ولكنه يعني أنّ مخططاً معدّاً مسبقاً كان ينتظر اللحظة المناسبة ليخرج من الأدراج ويتحوّل إلى "الثورة المزعومة".

غاب الحزب والنظرية الثوريان، وغابت شعارات التغيير الحقيقية، شعارات سطحية من دون أيّ عمق ثوري "الشعب يريد إسقاط النظام" مصر وتونس، "يسقط... بس" السودان، "كلن يعني كلن" لبنان، من دون أن يفكّر الثوريون الجدد باليوم التالي "ماذا بعد؟". من الذي استحضر هذه الألوان، وهذه الصفات والشعارات؟ هل هي مصادفة أنّ الشعارات والمصطلحات نفسها تذرع العالم جيئة وذهاباً، وأنها جميعاً ترفع شعارات موالية للمركز الرأسمالي والاستعمار بشكله الحديث. لقد سرق الاستعمار من الثوريّين "ثورتهم" وأصبح مصطلح الثورة اليوم يعني التخلّي عن كلّ ما هو وطني من سيادة، وكرامة، وأرض وتاريخ لصالح قبول الاستعمار بالدول الثورية الجديدة في ناديه. 

لقد قام "أطلس يهزّ كتفيه" بحسب رواية إيان راند، وتحوّلت الثورة إلى مفهوم رأسمالي. أما الثوريون الحقيقيون في غزّة والضفة الغربية وجنوب لبنان واليمن وإيران وفنزويلا وكوبا، بل وحتى الأفراد الذين يتجرّؤون على رفع أصواتهم للحديث عن جزء صغير من الحقيقة كما حدث مع المنسّقة الدولية لحقوق الإنسان فرانشيسكا ألبانيزي، فهؤلاء إرهابيون معادون للسامية أو في أحسن الأحوال داعمون للإرهاب. 

لم يكن الهدف من الثورة على الثورة، السطو على مصطلحات، أو حتى تأمين تبعيّة بلاد كانت في معظمها منخرطة في التبعيّة الاقتصادية والسياسية من دون شكوى أو تردّد. في عالم يتغيّر كان المطلوب السطو على الوعي الثوري وبشكل خاصّ في جزئيّته الكونيّة. فالنظرية لا تكون ثوريّة إلا إذا امتلكت وعياً كونياً، وفي عالم اليوم الذي تنهض فيه قوى تحاول التمرّد على الهيمنة الاستعمارية، يصبح الوعي الثوري الكوني خطراً داهماً على الاستعمار. 

أن يكون هناك محور مقاوم يمتدّ من طهران حتى صنعاء مروراً بسوريا ولبنان وفلسطين، ويرتبط بعلاقات متنامية مع دول تحاول هي الأخرى كسر قيود التبعيّة مثل فنزويلا وكوبا. أن ينتظر مواطن في الضاحية الجنوبية نتائج الانتخابات في فنزويلا، وأن يحتفل مواطن في غزّة أو الضفة الغربية ينتمي إلى حركة سياسية إسلامية بفوز مادورو اليساري، هذا ما يخشاه المستعمرون. لذلك عمل منظّرو الثورات الجدد على رفع شعارات محلية تنزع عن الثورات أيّ بعد تحرّري، وتحوّلها إلى حركات إصلاحية محلية.

يوماً بعد يوم يحاول الاستعمار وأدواته إبعاد الثوريين الجذريين والحقيقيين عن ساحة الفعل، ويصوّرهم كأعداء يستخدمون دكتاتوريتهم لتسخير خيرات بلادهم في "حروب الآخرين". لذلك لم يعد أمام الثوريّين الحقيقيّين سوى المبادرة لحشد قواهم على المستوى العالمي في "الجبهة العالمية لمقاومة الاستعمار" على أن تكون جبهة شعبية سياسية تضع برامج حقيقية تساعد الشعوب على التصدّي للهيمنة والتبعيّة، وتوجّه قواها لدعم وحماية كلّ تحرّك شعبي في مواجهة الاستعمار. 

ما زال في جعبة الاستعمار الكثير من المؤامرات والمشاريع لتركيع الأمم، وما زال علينا بذل المزيد من العمل والتضحيات لكي نستعيد الثورة من قبضة لصوص التاريخ وقتلة الشعوب.