جدلية الخيارات في حسم الحرب على غزة!
الموقف الأميركي الحالي يدفع في اتجاه إنهاء الحرب عبر تسوية تحفظ ماء الوجه للحليف الإسرائيلي نتنياهو، وتضمن حماية مصالح أميركا الاستراتيجية التي تصدّعت بفعل هذه الحرب.
-
المرحلة التي تمر بها القضية الفلسطينية مرحلة بالغة الحساسية.
تدخل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منعطفاً بالغ الحساسية، ليس بسبب الكلفة الباهظة التي تجاوزت الخطوط الحمر فحسب، بل لمعطى بالغ الأهمية، فلم يعد هناك جدوى من تجاهله بعد أكثر من سنة وعشرة شهور من هذه الحرب.
تصاعد التباين بين الحليفين الأميركي والإسرائيلي في تقدير المرحلة المقبلة من هذه الحرب، التي لم تحسم نتيجتها بعد، إذ يسعى الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إنهاء الحرب في أسرع وقت، وبأي شكل أو طريقة؛ حفاظاً على توازناته السياسية والجيواستراتيجية ومصالحه في المنطقة، يصرّ نتنياهو على إطالة أمد الحرب حتى يحقق صورة النصر التي يريدها ويراها ضرورة ملحّة لبقائه السياسي.
وصف الحالة التي وصلت إليها الحرب في غزة يشير إلى أن المسار السياسي التفاوضي يمر في أزمة بين ترامب الذي يريد إنهاء الحرب سواء بالاتفاق أو بالقوة، ويطلب من نتنياهو إنجاز المهمة في أسرع وقت ممكن، وبين نتنياهو الذي يريد أن تستمر الحرب حتى ينتزع الصورة التي يريدها من حماس والمقاومة، وهذا يحتاج إلى وقت طويل جداً ومزاوجة في الخيارات، سواء بالضغط العسكري، الذي لم يحقق الرؤية الإسرائيلية ولا الأهداف، أو بالسياسات الأخرى كالتجويع والقتل بهدف مزيد من الضغط على المقاومة الفلسطينية.
هذه الخيارات لم تثبت صوابيتها طيلة الأشهر الماضية من الحرب، وأصبحت مكلفة على ترامب، مادياً وسياسياً، لذلك يضغط في اتجاه خيار الحسم، لكن هذا الخيار ليس سهلاً بالطريقة التي يتم الحديث فيها تارة عن نزع سلاح المقاومة مقابل إبرام صفقة شاملة وإنهاء الحرب.
استراتيجية الرئيس ترامب التي كانت تدعم "إسرائيل" في حربها على غزة، والقائمة على ممارسة الضغط العسكري، لم تعد أداة فعّالة أو مجدية لتحقيق الأهداف، فاستمرار الحرب بهذه الطريقة تصاحبه جملة من التعقيدات التي لا يمكن غضّ البصر عنها، أهمها الكلفة المالية المرتفعة لدعم الحرب عسكرياً في ظل ركود اقتصادي عالمي ومحاولات خفض النفقات العسكرية التي تجاوزت كل الحدود والمنطق، ناهيك بحركة التضامن العالمي مع غزة، والتي تتنامى وتتصاعد في أوساط المجتمع الأميركي والأوروبي، وتحديداً مجتمع الشباب المؤثر في الجامعات ومختلف القطاعات، والمعطى الأهم حال التآكل الدبلوماسي لمكانة واشنطن التي بات ينظر إليها بالانحياز المطلق إلى"إسرائيل" في حرب الإبادة والتجويع، ما أضعف قدرتها على قيادة تحالفات دولية أو التوسط في ملفات صراع أخرى.
الموقف الأميركي الحالي يدفع في اتجاه إنهاء الحرب عبر تسوية تحفظ ماء الوجه للحليف الإسرائيلي نتنياهو، وتضمن حماية مصالح أميركا الاستراتيجية التي تصدّعت بفعل هذه الحرب، إلا أن هذا التصور يصطدم بحسابات إسرائيلية تتمثل برغبة نتنياهو في استمرار الحرب حتى تحقيق نصر سياسي وعسكري يعيد إليه حال التماسك على المستوى السياسي في "إسرائيل" على وجه الخصوص.
حسابات نتنياهو التي يسوّق فيها مراراً وتكراراً أهداف الحرب التي لم تتحقق نابعة من معركة البقاء السياسي عبر بوابة الحرب هي حسابات معقدة ليست بالسهلة، وهذه الحرب لا يخوضها نتنياهو مع حماس والمقاومة في غزة بل مع الزمن ومع الرأي العام في "إسرائيل" ومع الخصوم السياسيين، وهو يدرك أكثر من غيره أن الخروج من الحرب من دون تحقيق أهداف ستكون نتيجته انهيار الائتلاف الحكومي ونهاية حياته السياسية. لذلك، يعتمد نتنياهو استراتيجية مزدوجة قائمة على مسارين أساسيين، الأول يتمثل باستمرار الضغط العسكري بهدف استنزاف المقاومة وخلق صورة وانطباع بالتفوّق الإسرائيلي في الحرب، والثاني يستهدف الضغط المدني والاقتصادي بفرض سياسة الحصار والتجويع بهدف ضرب الحاضنة الشعبية للمقاومة والتأثير في تفكيرها وسلوكها.
وإذا ما طرحنا سؤالاً أمام هذه الاستراتيجية، هل هي بالفعل استراتيجية ناجحة وناجعة على حد سواء، بكل تأكيد بعد تشديد الحصار خلال الأشهر الأربعة الأخيرة منذ انهيار وقف إطلاق النار في غزة فالحكم على ذلك يكون وفق معطيات لا يمكن تجاهلها.
قراءة الاستراتيجية الإسرائيلية هذه، تصطدم بتحديات رئيسية، إذ إن الفشل العسكري في تحقيق الأهداف التي وضعها نتنياهو وتحديداً في إنجاز ميداني حاسم، يعكس أزمة ثقة بين المستويات السياسية والعسكرية في "إسرائيل" وبين الموقف السياسي والعمل الميداني الذي أخفق في تحقيق الأهداف.
تصاعد الانتقادات الدولية اللاذعة والضغوط السياسية لكثير من دول الغرب التي دعمت "إسرائيل" في بداية حربها، وحال التحوّل في المواقف نظرت إليه "إسرائيل" أن حصاراً سياسياً خارجيا بدأ يتشكل عليها.
ثمة سؤال يطرح نفسه إزاء هذه التطورات والمعطيات، هل الفجوة بين "إسرائيل" وأميركا تصادم استراتيجيات أم تناقض مصالح؟
في تقديري، ورغم وحدة الخطاب السياسي والإعلامي بين إدارة ترامب و"إسرائيل" والتي نسمعها عبر الفضائيات، فإن الذي يجري على الأرض يعكس فجوة استراتيجية عميقة بين الطرفين، إذ إن الولايات المتحدة الأميركية باتت ترى أن استمرار الحرب لم يعد يخدم استقرار المنطقة، بل على العكس تماماً يزيد من احتمالات انفجار إقليمي يصعب احتواؤه وكذلك التأثير السلبي لآثار هذه الحرب تجاه عزلة "إسرائيل" دولياً، على الزاوية الأخرى من الصورة يرى نتنياهو أن التراجع الآن أو التوقف تحت وطأة الضغوط الأميركية سيكون بمنزلة انتحار سياسي بامتياز.
من هنا، فإن الضغط الأميركي المتزايد الذي تمارسه إدارة الرئيس ترامب لا يأتي من فراغ بل هو نابع من إدراك أن نموذج النصر الإسرائيلي المطلق لم يعد طرحاً واقعياً ولا قابلاً للتحقق، وأنه لا بد من الذهاب إلى حلّ سياسي حتى لو بدا تنازلاً من وجهة نظر البعض.
في الوجهة الأخرى، ورغم الضغوط العسكرية الهائلة على قطاع غزة والضغط الإنساني وتشديد حلقات الحصار بشكل كبير، تظهر المعطيات أن المقاومة الفلسطينية باتت في موقع متقدم سياسياً أمام حال التباين الأميركي -الإسرائيلي، ولكن هذا لا يكفي على الإطلاق في ظل استمرار المعاناة الإنسانية الكبيرة في غزة، والسؤال هنا، هل بالفعل تمتلك المقاومة الفلسطينية القدرة على استثمار هذا التباين لصالح الشعب الفلسطيني تحديداً؟ وهل تستطيع تحويل حال التردد الإسرائيلي في التقدم إلى حلّ سياسي إلى فرصة لتغيير قواعد الاشتباك سياسياً؟
الاستراتيجيا السياسية تقول إذا أردت هزيمة عدوك أو خصمك، فافتح له باباً للخروج، بل ابنِ له جسراً من ذهب كي يخرج.
لذلك، قد يشكل إدراك المقاومة الفلسطينية لهذا الواقع فرصة بإطلاق مبادرة سياسية ذكية نابعة من إدراك لطبيعة المرحلة مخرجاً للولايات المتحدة تحرج فيها نتنياهو في هذا الوقت تحديداً لكنها ستفتح الباب أمام إعادة تشكيل الواقع السياسي في غزة بما لا يفرض شروطاً استسلامية على المقاومة الفلسطينية.
المرحلة التي تمر بها القضية الفلسطينية مرحلة بالغة الحساسية، والصراع المستمر لأكثر من سنة وعشرة شهور لا يعد صراعاً عادياً، بل بات يشكل نقطة ارتكاز في إعادة رسم التوازنات في المنطقة ككل، بل وإقليمياً.
أعتقد أن التباين في المواقف والقائم على ضغوط الإدارة الأميركية ومراوغة نتنياهو التي باتت واضحة للعيان، يدفع في اتجاه التقدم إلى حلّ، ويفتح فرصة ذهبية أمام المقاومة الفلسطينية للمناورة بطريقة سياسية ذكية بطرح حلّ سياسي مقبول، وهذه الفرصة يمكن أن تندرج تحت عنوان الذكاء السياسي لا التنازل أو التفريط، بل اختيار الفرصة المناسبة والتقاطها للخروج من هذه الحرب على قاعدة أن النصر الحقيقي يقاس بالقدرة على الخروج من معركة بشروطك لا بشروط عدوك.